جهاد الغرباء

 

 

كان التاريخ الإسلامي يتدحرج خلال الأعصار الأخيرة لفساد الحكام، وعجز العلماء، وذهول الأمة جمعاء عن وظيفتها ورسالتها...!

 

لكن تسجيل هذه الهزائم والاعتراف بنتائجها لم يقع إلا منذ خمسين سنة تقريباً، فقد انسحبت الجامعة الإسلامية من الميدان العالمي بعد تنكيس راية الخلافة، وأخذت الثقافة الإسلامية بعدها تضمحل.

 

لقد كانت هذه الثقافة زاحفة في الماضي، ثم توقفت مكانها أيام الضعف، ثم تراجعت وانكمشت أيام الهزائم تاركة وراءها فراغاً تملؤه الثقافة الأجنبية والأفكار الدخيلة...!

 

وفي رسالة وجيزة عن الأدب والحياة قرأت هذه السطور: (هزمت الفكرة الإسلامية في الحرب العالمية الأولى، ثم انتهت دولة الخلافة بعد ذلك بقليل، وبرز دعاة الحضارة الأوروبية بوجوههم سافرة، ولقيت دعوتهم رواجاً، خاصة عند الشباب الذي عاش في جو الثورة المغري بالتمرد على كل قديم، والذي وجد في بريق الحضارة الأوربية ما ينادي شبابه إلى مواطن الهوى، فأخذ يشارك في المجتمعات المختلعة وأقبل على تعلم الرقص الغربي، وشرع يمتع نفسه بالمشاركة في احتفال الأوربيين بأيام الأحد وبرأس السنة الميلادية خصوصاً في المدن الكبيرة كالإسكندرية والقاهرة حيث كانت تحتل الجاليات الأجنبية مكاناً بارزاً في الهيئة الاجتماعية، بما تملك من مصانع ومتاجر وفنادق، وبما لها من معاهد وأندية، وبما كانت تكفله لها الامتيازات الأجنبية من مزايا...

 

يقول الدكتور طه حسين بعد أن يسرد ما اقتبسته مصر من نظم الغرب في مختلف مظاهر حياتها الحديثة وذلك في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: (وإني لأتخيل داعياً يدعو المصريين إلى أن يعودوا إلى حياتهم القديمة التي ورثوها عن آبائهم في عهد الفراعنة، أو في عهد اليونان والرومان أو في عصرها الإسلامي، أتخيل هذا الداعي وأسأل نفسي أتراه يجد من يسمع له ؟ فلا أرى إلا جواباً واحداً يتمثل أمامي، بل يصدر من أعماق نفسي، وهو أن هذا الداعي ـ إن وجد ـ لم يلق بين المصريين إلا من يسخر منه ويهزأ به).

 

هكذا يقول الدكتور الأوربي الثقافة والوجهة...!

 

وهو في مقالته البينة الدلالة يرى الدعوة إلى الحياة الإسلامية مدعاة إلى الهزء والسخرية، ثم هو يضم العصر الإسلامي إلى عهود اليونان والرومان والفراعنة الأقدمين، أي إلى العهود التي بادت وانقضى أجلها ولا سبيل إلى بعثها...

 

وهذا الكلام المحقور هو قوة عين الاستعمار، وهو ما يبذل الغزاة الجدد جهوداً مضنية لإشاعته وإقناع الجماهير به حتى لا يكون إسلام، ولا مسلمون!!

 

لكن الأمة الإسلامية في المشارق والمغارب قاومت القتلة وأجراءهم!

 

ومع أننا لا نزال ضعافاً في جبهات شتى، ومع أن وساوس الجريمة لا تزال تغلي في أفئدة خصومنا، ومع أن المخلصين لدينهم تحملوا مغارم فادحة وهم يدافعون عنه، مع ذلك كله فإن الواقفين بجانب الإسلام صامدون آملون، وقد التقطوا الراية التي سقطت على الثرى من نصف قرن وهم بسبيل دفعها سياسياً وثقافياً بإذن الله...

 

وأول بشائر الخير أن جمهرة المسلمين لم تزهد في دينها ولا أساءت الظن بأصالته وصدقه، ولا هي خدعت بالأديان والمبادئ الأخرى فحسبتها أزكى مما لديها، إن الأمر ــ في الإسلام وغيرها ـ كما قيل:

أمامك فانظر: أي نهجيك تنهج

 

طريقان شتى، مستقيم وأعوج، والمعركة تزداد على الأيام حدة، وبقدر ما بيدي المسلمون من صلابة ينمو نشاط خصومهم وتتسع دائرة هجومهم...!

 

بل إن القوى المتناقضة تناست ماب ينها ـ ولو إلى حين ـ لتستطيع إصابة الإسلام في مقاتله، وفض الأنصار المتحمسين عنه...

 

وذلك يكشف عما يتعرض له المجاهدون الصادقون من متاعب وأحزان، على أننا لن نخون الله ورسوله ما حيينا، حتى نورث الإسلام أبناءنا كما ورثناه عن آباءنا، بل حتى نمسح آثار الهزائم الشائنة التي لحقت في غير ميدان...

 

ولقد شكا لي صديق ما يلقاه العاملون للإسلام من غمط وهوان، قال: إنهم يتجاهلون في حياتهم وتسحب عليهم أذيال النسيان بعد مماتهم فمحمد فريد وجدي صاحب دائرة المعارف الإسلامية، ورئيس تحرير مجلة الأزهر، والأستاذ محمد الخضر حسين الإمام الورع الأديب المؤلف والشيخ محمد عبد الله دراز، والشيخ عبد الوهاب خلاف و...و...الخ.

 

هؤلاء تناستهم المحافل الرسمية، وطوت ذكراهم في الوقت الذي تفرد فيه ليال التكريم ذكرى سيد درويش وزكريا أحمد، وأضرابهم ممن برزوا في مضمار التسلية واللهو والغناء والموسيقى...

 

قلت: يا صديقي إن المجتمع الذي يزدري أبا حنيفة ويكرم أبا نواس مجتمع سفيه تافه!!

 

ولكن هذا المجتمع هو الذي صنعه الغزو الثقافي ليجعل هو الذي صنعه الغزو الثقافي ليجعل الناشئة الإسلامية تشب وهي مرخصة للحق مغلية للباطل، صادة عن الإيمان عاشقة الهزل مستهينة برجال المعرفة الإسلامية، معظّمة للأقزام أو العمالقة في أية معرفة أخرى...

 

وقد مات منذ فترة العلامة محمد فؤاد عبد الباقي فما شعر بمماته أحد، ولا تحدثت عنه في مصر صحيفة، وهو الرجل الذي ألف المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ـ وقد طبعت منه هولندا 41 جزءاً ـ حتى وفاته واللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، وموطأ مالك، وعشرات من البحوث والمقالات.

 

ولقد كُف بصر الرجل الكبير وهو يخدم الثقافة الإسلامية، فلما مات أهيل عليه التراب في صمت ومضى لا يلوي على شيء...!!

 

ومشيت بنفسي في جنازة المجاهد المؤمن صالح حرب باشا، ولو شئت أن أعد المشيِّعين لجثمان الراحل الطيب لعددتهم، إن عشرات السنين في خدمة الإسلام نسيتها القاهرة السكرى من غير خمر، المشغولة بعير شيء، الشاردة في الحياة...

 

وأسارع إلى أن العاملين لله ما يعنيهم رأي الناس فيهم، وما يثبط هممهم أن يجدوا الإنكار والازدراء فإن نشدانهم لوجه الله الله وحده وتطلعهم إلى ثوابه الدائم هو غرضهم الأعلى.

 

ولكني آسى لما قصصت من عقوق لما في ذلك من دلالة على المجتمع وهبوط قيمه ورواج الباطل فيه ووحشة الحق بين أهليه...!!

 

وإذا كان المجاهدون لإسلام في مجالات الحكم لا يستطيعون أن يضعوا قدماً!!

 

وذلك أن العداوات العالمية الرهيبة لهذا الدين استطاعت بوسائلها الباطنة والظاهرة أن تملأ هذا الطريق بالضحايا...

 

ولقد تساءلت: لماذا قتل عدنان مندريس في تركيا؟ فقيل لي أن الجريمة التي استحق بها الشنق محاولته الخفية أن يعود بتركيا إلى الإسلام!

 

وقد بدا ذلك في إعادته الأذان باللغة العربية إلى المساجد!

 

إن اليوم الذي سمع فيه الأتراك كلمة الله أكبر، تشق أجواز الفضاء من ذرى المنائر كان يوماً مشهوداً، وبلغ جيشان المشاعر بالناس في السكك أن الدموع غلبتهم، وصرخات الإيمان والاستبشار عمتهم، فهل تدع الصليبية العالمية هذا الجرم يمر من غير عقاب؟

 

وكذلك كان مقتل الزعيمين الأفريقيين المسلمين أحمدو بوللو، وأبي بكر تفاوه... إن الجريمة التي استحقابها القتل هي سيرهما بالإسلام في وسط أفريقية سيراً حثيثاً عاقلاً متئداً...!

 

كيف يسكت خصوم الإسلام على ذلك؟ وقتل الرجلان وعشرات آخرون في مجزرة أعقبها صمت مفتعل مقصود، أسهمت فيه السياسات الاستعمارية بجهد منكور محقور...!!

 

ولكن الله العدل تتبع القتلة بالقصاص، ومنذ عشرين شهراً والدماء تراق بغزارة في نيجريا وتحاول الكاثوليكية العالمية بتعصب وغضب أن تقسم نيجريا قسمين وأن تجعل من بيافرا أداة لها في تنفيذ مآربها.. تلك المآرب التي بدأت بسفك  الدم الإسلامي دونما سبب...

 

وإننا نشعر بأن العمل للإسلام مثار قلق وأذى... وأن المجاهدين في سبيل الله لا يرون إلا النظر الحانق والجو الخانق، وأن قوى عالمية منسقة تعترض كفاحهم وتسرق ثمارهم...

 

ليكن! فلن ندع الإسلام أبداً محتمين بالله مما نجد ونحاذر!! [وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ] {إبراهيم:12}.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد 2 السنة 23 شوال1388 ديسمبر 1968

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين