جمال المرأة حياؤها وعلمها

 

عن عائشة رضي الله عنها قالت: (نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهُنَّ الحياء أن يتفقَّهن في الدين) رواه مسلم.

الحياء انقباض في النفس خوفُ الذمِّ ونسبة الشرِّ إليها.

أو هو المفاضلة بين ما يَحْسن وما لا يَحْسن، وبين ما يَليق وما لا يَليق، وما هو أعلى وما هو أدنى، فيندفع صاحبه حينئذٍ إلى فعل الجميل، والتنكيب عن القبيح.

وهو سمة من سمات المرأة الطبيعيَّة، وجِبِلَّة من جبلاتها الخُلُقيَّة، وهبها  الله إياه  لتحصينها، وليكون  لها منه سياج يَصُونها، وحافظ أمين يحميها.

فإذا كان الحياءُ في الرجل جميلاً فهو في المرأة أجمل، وإذا كان الحياء من الرجل فضيلة فهو من المرأة أفضل، لأنه يَزيدها زينة وبهاء، ويجعلها محبوبة مرغوبة، حتى تصنّع الحياء أو المبالغة فيه الذي يعبرون عنه بالدلال فإنَّه أيضاً محبوب صدوره منها.

فسمة الخير في المرأة الحياء، وسمة الشر فيها القحة.

فالحياء هو حامي الفضيلة اليقظ، وحافظها الأمين الذي لا يَسمح لكائن أن يَنْتَهك حُرْمتها أو يَعْتدي على ساحتها، وهو الذي يَمنع الرذيلة أن تحلَّ مكاناً تبوأته الفضيلة، بل إنَّه يُباعد بينهما بكل ما أوتي من قوَّة إرادة وصحة عزيمة.

لهذا ترى الإنسان عندما يهمُّ بمفسدة يجد الحياء واقفاً له بالمرصاد يمنعه ويزجره.

فاللص لا يودُّ أنَّ أحداً يعرفُ دَخيلة نفسه، بل إنَّه يتَّخذ كل حيطة لإخفاء جريمته حتى لا تسوء سمعته، وإنَّه يخشى تقريع الحياء اللاذع وتبكيت الضمير الحي، وكذلك الفاسق الذي يُريد أن يعبث بأعراض الناس، فإنَّ الحياء يُناهضه فيسكته عن الجهر بالسوء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستَحِ فاصنعْ ما شئت) [أخرجه البخاري].

يقول (دارون) في تعليله للفروق التي بين الرجل والمرأة: في الأزمنة الوحشيَّة كان أقوى الرجال بأساً من سكان الكهوف وأشدهم عدواناً يأسر الأنثى ويغنمها، وكانت أكثر ساكنات الكهوف ملاحة وأشدهنَّ حياءً وإغراءً تستحوذْ على انتباه الرجل، فإذا كانت الخصائص الجنسيَّة أثناء انتقالها بالوراثة قد استمرَّت في تميزها وانعزالها – على حسب قانون (مندل) في الوراثة – فمن السهل أن نفهم كيف بقيت القوَّة والعدوان خصائص الذكورة، وكيف تميزت الأنثى بالحياء والملاحة.

ويقول (هنري مَاريون) الأستاذ سابقاً في كلية الآداب بباريس: ذهب (لارو شفوكو) إلى أنَّ حياءَ المرأةِ في كثيرٍ من الأحيان إنَّما هو للحرص على سُمْعتها وكرامتها.

ويقول (فنلون): الخوف أضمن حافظ لفضيلة المرأة.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من تقوى الله اتقاء الناس) [لم أجده!].

ويروى أنَّ حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عنه أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا فتنكَّب الطريق عن الناس وقال: (لا خير فيمن لا يَستحيي من الناس).

فلا عجب إذن إذا وَجدنا الإسلام قد اهتمَّ بأن يحفظَ على المرأة حياءَها، ويوفِّر لها خشيتها، لتظلَّ جوانب نفسها قوية وسيَاج شرفها حصيناً.

من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار) [أخرجه أحمد وابن ماجه، والترمذي، وقال: حسن صحيح].

فليس للمرأة التي سُلِبَتْ الحياء صادٌّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور، ثم شرع لها صلوات الله عليه أساليب عملية لتدريبها على الحياء، وحرَّم عليها كل ما يضعف هذا الخلق في نفسها، ويغرس الصفاقة في وجهها، والجرأة على اقتحام ما يَريبها.

فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحلُّ للمرأة أن تأذن في بيت زوجها لأحدٍ إلا بإذنه).

وروى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلونَّ رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان).

وروى البخاري عن عُقبة بن عامر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيتَ الحموَ؟ قال: الحموُ الموتُ).

قال ابن حجر: الحمو أقارب زوج المرأة كالأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، وابن الأخت ونحوهما مما يحلُّ لها تزوُّجهم لو لم تكن مُتزوِّجة.

وقد جرت العادة بالتساهل في ذلك فيخلو الأخ بامرأة أخيه، فشبَّهه الرسول صلى الله عليه وسلم بالموت، وهو أولى بالمنع من الأجنبي، فإنَّ الخلوة به قد تؤدي إلى هلاك الدين إن وقعت المعصية، أو على الأقل تؤدي إلى هلاك المرأة بفراق زوجها إذا حملته الغيرة على تطليقها.

قال النووي: فالخلوة بقريب الزوج أكثر من الخلوة بغيره، والشر يُتوقع منه أكثر من غيره، والفتنة به أمكن لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة بها من غير نكير بخلاف الأجنبي.

وقال عياض: معناه أنَّ الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين، فجعله كهلاك الموت.

سبحانك ربي! فكأنَّ هؤلاء الأئمَّة إنَّما كانوا يَنظرون بِعَينِ الغَيب لهذه العصور المستهترة، والأزمنة الخائنة.

وقد نهى صلى الله عليه وسلم أزواجه عن السماح لدخول المخنَّث عليهم في البيوت صوناً لوقارهنَّ، وترفُّعاً بمكانتهنَّ، وحفظاً لحيائهنَّ.

(والمخنَّث: هو من يتشبَّه من الرجال بالمرأة في حركاتها وسَكناتها، وفي مضغ الكلام والتكسُّر في الحديث والتنغيم في الضحكات).

والسرُّ في هذه التشريعات يَرجع إلى أنَّ نظرة الإسلام للمرأة نظرة سامية فهو يعلم أنها قريبة العطب، دقيقة البناء، سريعة الكسر، وكسرها لا يجبر، سهلة الخدش وخدشها لا يرتق، وهي درَّة ثمينة لها قيمتها، وعضو في المجتمع له خطورته وقدره.

علم الإسلام لها كل ذلك، فحافظ عليها واشتدَّ في المحافظة عليها، فصانها من كل ما يشم منه أذى لها ووفَّر لها راحتها، واحتاط فيما يَصون لها كرامتها وقدسيَّتها، وكلَّف الرجل بأثقل الأعباء لتتصرَّف في أداء واجباتها الحيويَّة التي انفردت بها والتي خُلِقت من أجلها، وهي واجبات مُضْنية للجسم مُنْهِكَة للقوى مُرهقة للأعصاب: [حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا] {الأحقاف:15}، لذلك أسقط عنها من العبادات ما لم يسقطه عن الرجل، وخفَّف عنها من الواجبات ما لم يخفِّف مثله عن الرجل، فخُطَّته معها خطة المربي الحكيم، والطبيب الحازم، والمدرِّب المشفق، دستوره في تربيتها: (الحيطة خير من العلاج، وسدُّ الذرائع لصيانة المقاصد).

قال ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين): إذا حرَّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنَّه يحرم تلك الطرق والوسائل، ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى تأبى ذلك كل الإباء، فإن نطس الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يَرومون إصلاحه، فما الظنُّ بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال.

فإذا نظرنا بهذه العين إلى التشريعات النسائيَّة بانت لنا حكمتها وسمو الغرض منها، وأنَّها ليست قائمة على شكٍّ في طهارتها ولا مؤسسة على حطٍّ من كَرامتها أو تضييق لحريتها، وإنما هي محافظة عليها من الذئاب أن يختطفوها، ومن السفهاء أن يؤذوها، ومن الخبثاء أن يخدعوها، وفي أيديهم كل المغريات من مال وجاه، ونفوذ وسلطان، وقوة وصولجان، ثم هم بعد أن يغروها على التهتك والخروج ويعبثوا بها، يَزْدرونها ويحتقرونها، ثم يَقْذفون بها في مَهَاوي الهلاك والدماء، والمتاعب والشقاء.

فحرام على المرأة أن تَعرض جمالها في الأسواق، وتبدي زينتها فاضحة، فتقتحمها نظرات الفسَّاق، وتستفزُّها عبارات الإغراء والإغواء، وتؤذيها الكلمات الخادشة للحياء وتمزقها الإشارات المعبرة عن مقاصد السفهاء. فخير لها تمسُّكها بدينها، ووقفوها عند شرع ربها، لتعيش مُكرَّمة مقدسة، وبذلك ترغم الرجال على احترامها، وتكرههم على تعظيمها ومعرفة قدرها.

هذا شأن الحياء في حياتها.

أما تعلمها وتفقهها: 

فهو أمر واجب وفرض لازب، قال صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) رواه ابن ماجه وابن عبد البر، قال في المقاصد: وقد ألحق بعض المحققين (ومسلمة) بعد قوله (مسلم) وليس ذكر في شيء من طرقه وإن كانت صحيحة المعنى.

قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى: (إنَّ ما يجب على المرأة أن تتعلَّمه من عقائد دينها وآدابه وعباداته محدود، ولكن ما يُطلب منها لنظام بيتها وتربية أولادها ونحو ذلك من أمور الدنيا كأحكام المعاملات – إن كانت في بيت غنى ونعمة – يختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، كما يختلف بحسب ذلك الواجبُ على الرجال.

ألم تر أنَّ تمريض المرضى ومُداواة الجرحى كان يسيراً على النساء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صار الآن مُتوقِّفاً على تعليم فنون مُتعدِّدة وتربية خاصة فنيَّة؟

فأي الأمرين أفضل في نظر الإسلام؟ أتمريض المرأة لزوجها إذا هو مرض، أم اتخاذ ممرضة أجنبيَّة تطلع عليه وتكشف من أحواله ما لا يحب هو أو دينه أن تراه؟

وهل يتيسَّر للمرأة إذا كانت جاهلة بقانون الصحَّة وبأسماء الأدوية أن تُمَرِّض زوجها، أو تقوم بتربية أبنائها تربية تحفظ عليهم صحتهم وعقولهم؟)اهـ.

رأت المرأة في فجر الإسلام أنَّ الرجال يهتمون بدينهم، فيجمعون القرآن ويحفظونه ويروون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وينشرونه، فأبت عليها همتها أن تقعد عن مُشاركة الرجال في بناء هذا المجد العلمي، فكتبت لنفسها مصاحف كما كتب الرجال لأنفسهم مصاحف، فكان لعائشة مُصحف، وكان لحفصة مصحف، وكان لأم سلمة مصحف رضي الله عنهنَّ.

أما في الحديث فهناك راويات ومحدِّثات، لهنَّ أثرهنَّ الذي لا يُنكر في هذا الضرب من المعرفة، فقد ذكر النووي أنَّ ما رُوي عن السيدة عائشة رضي الله عنها من الأحاديث يربي على الألفين.

وقد روى البخاري لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما في صحيحه ستة عشر حديثاً، وقد أخذ عنهنَّ كثير من أفاضل الصحابة والتابعين، فعن أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما روى عمر بن الخطاب، وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس، وعروة بن الزبير وعبد الله بن شدَّاد رضي الله عنهم.

هذا وقد ضربت المرأة بسهم وافر في التعليم و التربية، منذ نشوء الإسلام، وتتلمذ عليها عدد ليس بالقليل من أفاضل العلماء.

فقد ذكر ياقوت في تاريخ حياة ابن عساكر المؤرخ المشهور، أنَّ من شيوخه ثمانين امرأة، وروى ابن الجزري وهو الإمام الأعظم في القراءات عن ست العرب أم محمد مشافهة في دارها حديث: (أشراف أمتي حملة القرآن وأصحاب الليل) [قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه سعد بن سعيد الجرجاني وهو ضعيف].

وكانت نضلة بنت أبي حيان صاحب التفسير المشهور، قد حجَّت وسمعت قراءة العلم على الشيوخ، وكان والدها يُثني عليها كثيراً ويقول: ليتَ أخاها كان مثلها! ولما توفيت حزن عليها والدها حزناً عظيماً وانقطع عند قبرها باليرموقة بالقاهرة ولازمه سنة.

بل إنَّ بعض النساء المسلمات قد احترفن التدريس، فعلَّمن الرجال ومنحنهن شهادات في ذلك، منهن أم المؤيد زينب، كانت عالمة، أخذت عن جماعة من أعيان العلماء، وأجازها كثير من العلماء، والإجازة في اصطلاح العلماء قديماً تبيح لصاحبها أن يُلقِّن العلمَ غيرَه، فهي شهادة بالثقة في علمه والأهليَّة في فنه، فمنحت أم المؤيد ابن خلكان المؤرخ إجازة، وهي أشبه شيء بالدبلوم والليسانس في عصرنا.

والسيدة نفيسة ابنة أبي محمد الحسن ينتهي نسبها إلى جدِّها علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت من النساء الصالحات، وإنَّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لما دخل مصر سمع عليها الحديث، وهي صاحبة المقام المعروف.

وبعد: فما الذي يَمنع في هذا العصر – وقد فشا فيه الاستهتار ولا سيما بين نسائه – من أن تخصَّص للنساء دراسات دينيَّة خالصة تتناسب مع واجباتهنَّ وحاجاتهنَّ حتى يتفقهن في الدين تفقهاً قيماً، ويتعلمن من كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يجعلهنَّ رسلَ خير وإرشادٍ في بيوتهنَّ، وعنوان فضل وتثقيف في مجالسهن ومجتمعاتهنَّ، بدلاً من القيل والقال، وقطع القوت في ثَرثرة لا غناء فيها، والتحدث عن (المودَّات) والبدع في تصفيف الشعر وضروب الرقص، والتفنُّن في الحفلات الخليعة والسهرات الماجنة!.

بهذا وحدَه تستقيم حال الأسرة، وبهذا وحدَه يبرأ المجتمع من عيوبه وينجو من عثراتِه، فيسلم للأمَّة فتيانها وفتياتها، وتنضح آدابها، وتسلم أعراضها.

[وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] {الإسراء:82}. [إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الرعد:11}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة لواء الإسلام العدد العاشر، السنة السادسة، 1372، 1952).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين