ثبات وإباء.. على درب الأنبياء وسادة الشهداء

ثباتٌ وإباء.. على دَرب الأنبياء وسادَة الشُّهداء

رابطة خطباء الشام

 

مقدمة:

ظُلمٌ يخيِّم بظلامه على كافّة الأنحاء، واضطهادٌ يطال الأزهار قبل أن تتفتّح على أغصانها، وبندقيّةٌ تترصّد كلّ عصفورٍ يغرّد؛ لتُسكته قبل أن يطرب لسماعه أحدٌ، قهرٌ واستبدادٌ وتسلّطٌ، هكذا كان الحال قبل اثني عشر عامًا، كان فرعون على عرشه لا يسمع مِن أحدٍ كلمةً تُزعجه، والكلّ سمعٌ وطاعةٌ، كأنّك تقرأ الآية الّتي نزلت في اضطهاد فرعون لبني إسرائيل {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4].

لكن لمّا كان دوام الحال مِن المحال، وبعد أن بدأت أزهار الرّبيع العربيّ في تونس وأورقت أشجاره في مصر وصلت نسماته إلى بلاد الشّام، انطلق النّاس إلى الميادين ينيرونها بعد أن أظلمت، ويُتيحون للأزهار أن تَفتَّح مِن جديدٍ على أغصانها، ويأذنون للعصافير أن تشدو بما يُطرب كلّ سامعٍ.

لم يرقْ ذلك لنظام الإجرام، فأطلق كلابه المسعورة على المتظاهرين العزّل؛ الّذين خرجوا يقولون للظّالم "لا"، فأعمل فيهم آلة القتل، واقتادهم إلى السّجون، لكنّ هذا لم يُجدِه نفعًا، بل زاد عليه الأمر مشقّةً، إذ كان دم كلّ شهيدٍ حافزًا إلى مزيدٍ مِن التّضحيات، وكان كلّ أسيرٍ صرخةً مدويّة فيمن ظلّ قاعدًا، صرخةٌ تدفع القاعد أن يهبّ لنصرة إخوانه...

اتّسع الرّتق على الرّاقع، ولم يعد بمقدور النّظام المجرم أن يحتوي المشهد مع ظهور الضّباط والعناصر والشّرفاء مِن الجيش؛ الّذين انحازوا إلى صفّ الحقّ، وقرّروا بدل أن يقتلوا المتظاهرين أن يقوموا بحمايتهم، ليؤدّوا ما عليهم مِن حقٍّ تجاه الأمّة الّتي حملوا لها السّلاح، وبهذا صار للثورة شوكةٌ تدفع بها -ولو قليلًا- مِن بطش النّظام وجبروته.

ثمّ توالت التّشكيلات العسكريّة، وأفتى جمعٌ كبيرٌ مِن مشايخ وعلماء الأمة الإسلاميّة بأنّ نصرة المستضعفين في سوريا مِن باب الجهاد في سبيل الله، وبذلك راجت سوق الجهاد في سوريا بعد كسادٍ، ونزل الرّجال إلى ميادين النّزال؛ يجودون بأغلى ما جاد به إنسانٌ قطّ، يجودون بأرواحهم وجراحهم، حتّى أبهروا العالم بما قدّموا مِن تضحياتٍ.

 

1- فِرعون والمستضعَفون

يخشى فرعون مِن الصّغار أن تنبت فيهم نابتةٌ تدمّر عليه ملكه، ولمّا كان الأمر والنّهي -في ظنّه- عنده؛ أمرَ أن يُقتل الذّكران مِن مواليد بني إسرائيل {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49].

وإنّك لترى نفس الخشية لدى فرعون هذا العصر؛ عندما تراه حريصًا على قصف بيوت المدنيّين بما فيها مِن أطفال، وعندما تراه يقصف المدارس ليئد الصّغار تحت الدّمار، وعندما تراه يقصف مستشفيات الأطفال، وهذه كلّها حوادث موثّقة ومتكرّرةٌ، تنبئك عن خوفٍ مستحكمٍ في داخله مِن الصّغار أن يكبروا {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التّكوير: 8-9].

لكنّ هذا ليس بنافعه، فالصّغار كالفجر يتجدّدون مع كلّ صباحٍ، وينطلقون إلى الحياة متحرّرين عن خوف آبائهم، حتّى يكتبوا يومًا على جدران مدارسهم في درعا -بأناملهم الغضّة- عباراتٍ تبشّر رأس النّظام بما ينتظره مِن أهوالٍ، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

فيأذن للرّضيع الّذي سيستنقذ المستضعفين أن ينشأ في قصر فرعون، وانظر إلى عناية الله وتدبيره إذا أراد الأمر، وانظر كذلك إلى عجز الطّاغية، يترقّب زواله على يد صغيرٍ سيكون مِن بني إسرائيل ثمّ ينشأ الرّضيع في قصره، لا حول لفرعون ولا قوّة في منع ما أراد الله {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 7-9].

فإذا ألقى الله على الرّضيع محبّة منه، وصنعه على عينه فماذا عسى فرعون وجنوده أن يفعلوا؟ {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 38-39].

ثمّ إنّ لطف الله ورحمته لا تنقضي عجائبهما حتّى يردّ الرّضيع إلى أمّه تحت نظر فرعون وحمايته، فلم تُحرم الأمّ مِن ابنها، ولم يُحرم الابن مِن عطف أمّه، فما أعجز الظّلمة وإن ظهروا للنّاس بمظهر القوّة والبطش {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه: 40].

يحرص إعلام الظّلمة أن يصورهم على أنّهم أقوياء لكن ما أعجزهم أمام قدرة الله.

 

2- مُجالدة الباطل

توشك مخاوف فرعون مِن قيام رجلٍ مِن بني إسرائيل أن تتحقّق، ويوشك أن ينبلج فجرٌ بعد ذلك الليل الطّويل، إذ يدخل موسى المدينة على حين غفلة مِن أهلها {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ * فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 14-21].

هكذا انتهت محاولة سيّدنا موسى عليه السلام الأولى بالنّزوح، بالفرار مِن الدّيار خوفًا مِن بطش الظّالمين، كما انتهت محاولاتنا في الكثير مِن بقاع سوريا لمّا انتصر الأحرار الشّرفاء للمستضعفين، ثمّ أُخرجوا مِن ديارهم خائفين يترقّبون، وقبلها أصبح في المدينة خائفًا يترقّب ولكم أصبح الأحرار يترقّبون، لكنّ الحقّ سبحانه يجعل بعد الضّيق فرجًا، ومع العسر يسرين، فيرجع سيّدنا موسى عليه السلام بعد عشر سنواتٍ مِن رعي الغنم في مدين إلى مصر مرّةً أخرى، لكن هذه المرّة يدخلها نبيًّا؛ بعد أن خرج مِنها خائفًا يترقّب، فيحمل عصاه إلى فرعون ليطلب منه أن يتخلّى عن ظلم بني إسرائيل، وهو في ذلك مع أخيه هارون {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 42-47].

إنّها سنّة الأنبياء ﻹ أن يقفوا في وجه الظّلمة مِن أقوامهم، مع ما تحمله هذه المواجهة مِن خطرٍ عظيمٍ، ورُبّ نبيٍّ وقف في وجه حاكمٍ ظالمٍ فقتله، فهذا نبيّ الله يحيى عليه السلام يقف في وجه أحد حكّام دمشق، فتنتهي المواجهة بنبيٍّ شهيدٍ، وإنّك ما رأيتَ حاكمًا ظالمًا غشومًا يسوم النّاس الخسف والنّكال فلا عليك أن تقف في وجهه، ولو أودى ذلك بدنياك، ولا تظنّنّ يومًا أنّ كلّ مَن وقف في وجه ظالمٍ انتصف منه في الدّنيا، بل قد يؤخّر الله الظّالمين ليومٍ تشخص فيه الأبصار، واعلم أنّ هذا الوقوف يحتاج لزادٍ كبيرٍ ورصيدٍ عالٍ من الإيمان، وأنّ هذا طريق الأنبياء، فمن شاء سلك.

 

خاتِمةٌ:

النبوّات ثوراتٌ، لا يأتي النّبيّ إذ يأتي قومه بتصحيح عقائدهم فقط، ولكنّه يغيّر الموازين السّياسيّة إذ يُبعث في القوم، فالسّمع والطّاعة قبل مجيئه تكون لأصحاب النّفوذ والسّلطة والمال، حتّى إذا ما قام النّبيّ في النّاس، وألقى عليهم معجزاته، يصير السّمع والطّاعة للنّبيّ، وهذا الّذي لم يرُق للملأ مِن النّاس، فكان الأصل في الملأ أن يعترضوا على النّبوّات لِما يرون فيها مِن تهديدٍ لمصالحهم ونفوذهم {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 4-7].

والأديان ثورةٌ على الصّعيد الشّخصيّ، بما تحمله للنّاس مِن عباداتٍ تهذّب النّفوس وترتقي بها، وهذا شهر الصّوم على الأبواب، نثور فيه على عاداتنا السّيّئة لنكتسب فيه عاداتٍ حميدةً، فالعادة قيدٌ يقيّد المعتاد، ولا يتمّ التّخلّص منها إلا بالثّورة عليها، واقتلاعها، وخير الشّهور لذلك شهر الخير القادم، فلنستعدّ له بعزمٍ وحزمٍ، ولنجدّد العهد فيه أن نثور على أخطائنا فنصلحها، وأن نحافظ على ثورتنا ضدّ النظام المجرم، فالثّورة عليه شرفٌ ومجدٌ لا يستطيعه كلّ أحدٍ، بل هو في متناول الأيدي العليّة فقط، وما علينا أن نجود بالنّفوس في سبيل ذلك! عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَالَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ). [ 1 ]

 

هوامش:

1 - المستدرك على الصّحيحين للحاكم: 4884

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين