توجيهُ حديث:

سبق أن وقفتُ قبل شهور، على تسجيل مرئي لأحد طلبة العلم المشتغلين في الدعوة في الداخل المحرر، يتحدث فيه عن حديث: (الشؤم في ثلاثة، الفرس والمرأة والدار..) انتهى فيه إلى أن الحديث وهمٌ من أبي هريرة رضي الله عنه، وأن السيدة عائشة رضي الله عنها هي التي كشفت وهْمَه، وبيَّنت أن أبا هريرة دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لعن الله اليهود، يقولون: الشؤم في ثلاثة، في المرأة والدار والفرس...

فسمع أبو هريرة آخر الحديث ولم يسمع أوله..

فظنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام اليهود، حكاه عنهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد عجبتُ من هذا التوجيه الغلط الذي قرره المتحدث، فكتبتُ التعقيب الآتي:

جزى الله خيرا أخانا الشيخ على جهوده العلمية والدعوية.

وأرجو أن يتسع صدر أخينا لاستدراك أراه مهما، على ما جاء في هذا التسجيل المرئي.

فإنه أوهَم إبطال مضمون حديث (الشؤم في ثلاثة) بتوهيم عائشة لأبي هريرة رضي الله عنهما. وكأنَّ الحديث إنما صحّ عن أبي هريرة.

والأمر ليس كذلك.

فإن الحديث قد جاء في كل من البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وجميعُهم يروونه عن ابن عمر، وليس عن أبي هريرة، رضي الله عنهم.

عقد البخاري في كتاب الجهاد والسِّيَر من صحيحه - وفقهُ البخاري في تراجمه - باباً قال فيه: باب ما يذكر من شؤم الفرس.

ثم روى بسنده إلى عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ.

ورواه مسلم في صحيحه أيضا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بألفاظ عدة، منها: الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ.

وقد أدخل النووي في شرح صحيح مسلم، هذا الحديث ورواياته - وكلُّها عن ابن عمر - تحت باب قال فيه: باب الطِّيَرَةِ وَالْفَأْلِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الشُّؤْمُ.

وأما رواية أبي هريرة التي وهَّمتْها عائشة، رضي الله عنهما، فليس لها من القوة والثبوت ما يدفع أو يقاوم رواية ابن عمر في الصحيحين وغيرهما.

بل هي المدفوعة بما ثبت في الصحيحين، فإن القاعدة المعتبرة عند أهل العلم تقول: (ما في الصحيحين أصح)

حديث أبي هريرة واستدراك عائشة عليه ليس في شيء من الصحيحين، ولا في الكتب الستة، ولا حتى في الكتب التسعة.

وإنمارواه أبو داود الطيالسي في مسنده بسند منقطع كما قرر الحافظ ابن حجر في الفتح، فإنه قال فيه:

وَجَاءَ عَنْ عَائِشَة أَنَّهَا أَنْكَرَتْ هَذَا اَلْحَدِيثَ؛ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ اَلطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّد بْن رَاشِد عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَة: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اَلشُّؤْم فِي ثَلَاثَة. فَقَالَتْ: لَمْ يَحْفَظْ، إِنَّهُ دَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ: قَاتَلَ اَللَّهُ اَلْيَهُودَ يَقُولُونَ اَلشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَة. فَسَمِعَ آخِرَ اَلْحَدِيث وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّله. قُلْت: وَمَكْحُولٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَة، فَهُوَ مُنْقَطِع.* لَكِنْ رَوَى أَحْمَد وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم مِنْ طَرِيق قَتَادَة عَنْ أَبِي حَسَّان، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ دَخَلَا عَلَى عَائِشَة فَقَالَا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اَلطِّيرَةُ فِي اَلْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ. فَغَضِبَتْ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَتْ: مَا قَالَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّ أَهْلَ اَلْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَتَطَيَّرُونَ مِنْ ذَلِكَ. اِنْتَهَى. وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَار ذَلِكَ عَلَى أَبِي هُرَيْرَة مَعَ مُوَافَقَةِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ اَلصَّحَابَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ. انتهى بنصه من فتح الباري لابن حجر- دار المعرفة [6 /61]

هذا، وقد جمع العلماء بين حديث (اَلشُّؤْم فِي ثَلَاثَة) الثابت في الصحيحين، وبين حديث (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ) الثابت في الصحيحين أيضا، بوجوه من الجمع - أقول: بالجمع. وليس الترجيح، لأنه لا يُصار إلى الترجيح ما أمكن الجمع - أطنب واستقصى فيها الحافظ في الفتح، وأوجز فيها الإمام النووي فقال:

قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الشُّؤْم فِي الدَّار وَالْمَرْأَة وَالْفَرَس) وَفِي رِوَايَة: (إِنَّمَا الشُّؤْم فِي ثَلَاثَة: الْمَرْأَة وَالْفَرَس وَالدَّار) وَفِي رِوَايَة: (إِنْ كَانَ الشُّؤْم فِي شَيْء فَفِي الْفَرَس وَالْمَسْكَن وَالْمَرْأَة) وَفِي رِوَايَة: (إِنْ كَانَ فِي شَيْء فَفِي الرَّبْع وَالْخَادِم وَالْفَرَس) وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ مَالِك وَطَائِفَة: هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَإِنَّ الدَّار قَدْ يَجْعَل اللَّه تَعَالَى سُكْنَاهَا سَبَبًا لِلضَّرَرِ أَوْ الْهَلَاك، وَكَذَا اِتِّخَاذ الْمَرْأَة الْمعينَة أَوْ الْفَرَس أَوْ الْخَادِم؛ قَدْ يَحْصُل الْهَلَاك عِنْده بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى. وَمَعْنَاهُ: قَدْ يَحْصُل الشُّؤْم فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي رِوَايَة: (إِنْ يَكُنْ الشُّؤْم فِي شَيْء) وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَكَثِيرُونَ: هُوَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاء مِنْ الطِّيَرَة. أَيْ الطِّيَرَة مَنْهِيّ عَنْهَا إِلَّا أَنْ يَكُون لَهُ دَارٌ يَكْرَه سُكْنَاهَا، أَوْ اِمْرَأَة يَكْرَه صُحْبَتهَا، أَوْ فَرَس أَوْ خَادِم، فَلْيُفَارِقْ الْجَمِيع بِالْبَيْعِ وَنَحْوه، وَطَلَاقِ الْمَرْأَة. وَقَالَ آخَرُونَ: شُؤْم الدَّار ضِيقُهَا، وَسُوءُ جِيرَانِهَا، وَأَذَاهُمْ. وَشُؤْم الْمَرْأَة عَدَم وِلَادَتهَا، وَسَلَاطَة لِسَانهَا، وَتَعَرُّضهَا لِلرِّيَبِ. وَشُؤْم الْفَرَس أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا، وَقِيلَ: حِرَانهَا وَغَلَاء ثَمَنهَا. وَشُؤْم الْخَادِم سُوء خُلُقه، وَقِلَّة تَعَهُّده لِمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالشُّؤْمِ هُنَا عَدَمُ الْمُوَافَقَة. وَاعْتَرَضَ بَعْض الْمَلَاحِدَة بِحَدِيثِ: (لَا طِيَرَة) عَلَى هَذَا، فَأَجَابَ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره بِأَنَّ هَذَا مَخْصُوص مِنْ حَدِيث (لَا طِيَرَة) إِلَّا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَة.

قَالَ الْقَاضِي: قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: الْجَامِع لِهَذِهِ الْفُصُول السَّابِقَة فِي الْأَحَادِيث ثَلَاثَة أَقْسَام:

أَحَدهَا: مَا لَمْ يَقَع الضَّرَرُ بِهِ وَلَا اِطَّرَدَتْ عَادَة خَاصَّة وَلَا عَامَّة، فَهَذَا لَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ، وَأَنْكَرَ الشَّرْع الِالْتِفَات إِلَيْهِ، وَهُوَ الطِّيَرَة.

وَالثَّانِي: مَا يَقَع عِنْده الضَّرَرُ عُمُومًا لَا يَخُصّهُ، وَنَادِرًا لَا مُتَكَرِّرًا، كَالْوَبَاءِ، فَلَا يُقْدَم عَلَيْهِ، وَلَا يُخْرَج مِنْهُ.

وَالثَّالِث: مَا يَخُصّ وَلَا يَعُمّ، كَالدَّارِ وَالْفَرَس وَالْمَرْأَة، فَهَذَا يُبَاح الْفِرَار مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَم. انتهى بنصه من شرح النووي على مسلم دار إحياء التراث [14 /220]

ومن أراد التوسع والاستقصاء فلينظر فتح الباري لابن حجر- دار المعرفة [6 /61]

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين