تكريم الفائزين بمسابقة القراّن الكريم في مخيم تل أبيض

 

إن المتأمل فيما حلّ بالشعب السوري من سفك للدماء ، وانتهاك للأعراض ، وتهجير للآمنين من ديارهم وأوطانهم يحار كيف يتحمل الشعب السوري كل هذه الآلام ثم يزداد حيرة عندما يجد هؤلاء المهاجرين يعيشون آمالا عظاماً ، حيث يشعرون أنهم من خلال هذه المحن أن منحاً تتنَزل عليهم من السماء .
 
الهجرة القسرية عن الوطن ليست نزهة يروِّح بها الإنسان عن نفسه، ولكنها محنة كبيرة يعيشها المهاجر خلال هجرته يقول الشيخ / محمد الغزالي "رحمه الله" وهو يتحدث عن هجرة الصحابة "رضي الله عنهم" من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، (( ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة إنها إكراه رجل آمن في سربه ، ممتد الجذور في مكانه ، على إهدار مصالحه ، والنجاة بشخصه فحسب ، وإشعاره – وهو يصفِّي مركزه – بأنه مستباح منهوب ، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها ، يسير نحو مستقبل مبهم لايدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان ....
 
هذه الصعاب لايطيقها إلا مؤمن .... (1) فقة السنة ص165
 
لذلك قرن الله تعالى المهاجر القسري عن وطنه بمنْ يُقَسر على قتل نفسه فقال: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (النساء : 66).
 
يا لله ما أروع أولئك المهاجرين المؤمنين في المخيمات، الذين وفقهم الله لتكون الضراء التي نزلت بهم خيراً لأنفسهم ولأولادهم ، فاغتنموا أوقاتهم في العلم والتعليم، وحفظ القرآن الكريم وتحفيظه، لقد رأيتُ في هذا المخيم الذي يضم خمسة وثلاثين ألف مهاجر ثلةً من أهل العلم الشرعي وحفظة القرآن  تثلج الصدر وتروِّح عن النفوس .
يوجد في ذلك المخيم عشرة مساجد في عشرة أحياء لا تكاد تتسع للصلوات وتعليم القرآن الكريم، وحلقات علمية متخصصة في الفقه والنحو والحديث وغيرها كلُّ ذلك يتمُّ بفضل الله تعالى تحت إشراف ورعاية لجنة المخيمات في رابطة العلماء السوريين .
 
ضَمَّنا في مسجد الحي الخامس حفل لتكريم (90) طالبا من حلقات تحفيظ القرآن الكريم، فيهم الطفل الذي لم يتجاوز عمره خمس سنوات ، إلى الشيخ الذي بلغ الستين من عمره، وبينهم كهل بلغ السابعة والثلاثين حفظ القرآن كاملاً ، رغم أنه ليس من حملة الشهادات ولا من أصحاب الكفاءات، ولكنَّ إيمانه حدا به إلى أن يغتنم أوقاته فيما ينفعه في دينه ودنياه وآخرته.
 
ومما زاد هذا الحفل التكريمي بهجة وإنشراحاً أن يحضره مجموعة من الأشقاء الأتراك فيهم مفتي البلدة ونائب رئيس المخيم وغيرهما ، حيث أكدوا لنا بمشاركتهم معنا عظمة هذا الدين الذي يعتبر المسلمين مهما تناءت ديارهم واختلفت لغاتهم جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
 
أما خلق الإيثار والتحاب بين أبناء الجسد الواحد فقد لمسناه عند إخوة كرام من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته ، حيث أبى عليهم كرمهم وأُخوتهم إلا أن يكرمونا فَأخْلَوا لنا – نحن وفد رابطة العلماء السوريين – خيمةً كاملةً مع الفرش والأغطية في ذلك البرد القارس وقدموا لنا العشاء والفطور ، رغم تواضعهما إلا أنهما يعتبران في أقصى غاية الكرم والنبل من أناس لا يملكون من المال والطعام إلا النـزر اليسير، وحالهم يُشعرك أنهم يريدون أن يبذلوا كلَّ مايستطيعون حتى ولو مهج أنفسهم ، ولسان حالهم ومقالهم يلهج بالدعاء إلى الله تعالى أن يمن عليهم وعلينا بالفرج والنصر حتى يكرمونا ونكرمهم على أرض سوريا معززة مكرمة بإذن الله تعالى.
 

وفي الصباح الباكر بعد تناولنا الفطور توجهنا مع مضيفنا إلى إدارة المخيم فاستقبلنا رئيس المخيم الذي يجيد اللغة العربية استقبالا يشع بالحفاوة والتكريم، وحوله إخوة سوريون من وجهاء المخيم - منهم مضيفنا - يساعدون إدارة المخيم التركية في تنظيم أمور سكان المخيم وحل مشكلاتهم ، متطوعين ، هذا بالإضافة إلى أنهم يعملون أيضاً مدرسين متطوعين في مدرسة المخيم . لله درهم من أناس يستحقون كل ثناء وتكريم ودعاء أن يمنَّ الله عليهم وعلى جميع المهجرين بالفرج والنصر والعودة إلى الديار ، ونأمل أن يكرمنا الله تعالى بالتواصل مع بقية الإخوة المهجرين في بقية بلدان العالم لإقامة حلقات لتحفيظ وتعليم القرآن الكريم دستور الأمة الذي فيه عزتها وكرامتها فتكون هذه المحنه التي قضياناها قبل تهاوي النظام الغاشم مرحلة إعداد وتربية لغدٍ مشرق بعون الله وتوفيقة ، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون
.