تقريب الظلال: سورة الممتحنة

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فهذا تقريب سورة الممتحنة من تفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب.

هذه السورة حلقة من حلقات إعداد الجماعة المسلمة المختارة؛ لتقوم بمنهج الله في الأرض كما يريده الله، وقد استغرق إعدادُها زمنًا طويلًا، ومرَّ بمراحل وخطوات كثيرة، السورةُ توقفنا على مرحلة من تلك المراحل والخطوات، وهي أبعدُ في موضوعها ومقصدها عن الاقتصار على ذكر حادثة وقعت لصحابي وقت ضعفٍ، أو غفلة؛ بل إنها تتجاوز الموقف الحادث لتوقفنا على ضرورة الانتباه إلى مكنونات النفس البشرية عمومًا، النفس التي ما تزال متعلقة برواسب الماضي وشوائبه، وكيف ينبغي أن تطهرَ منه؛ لتصفوَ لقيادة البشرية كلها، وإقامة منهج الله في الأرض، وتكون كما كانت نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، التي تبدو في تعامله مع هذا الحادث الذي نزلت فيه السورة، أو مع حوادث أخرى مرَّت بها الجماعة المسلمة.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقتنص الحوادث والوقائع التي تقع من أصحابه ويلتقطها، ثم يجعلها مادة عملية، يربيهم بها على منهج الله في صورته الأخيرة في الأرض، على أن بعض تلك الحوادث كانت تتكرر مرات كثيرة، ويُعاد صهر الجماعة الناشئة فيها مرة تلو الأخرى؛ حتى تسمو نفوسهم، وتكون خليقة بحمل المنهج الأخير الذي اؤتمنت عليه، لأن الله تعالى الذي خلق تلك النفوس؛ يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب منذ اللمسة الأولى؛ لأن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، كانت عوامل قوية تغلب عوامل التربية والإعداد أحياناً؛ فتحتاج تلك العوامل في مقاومتها إلى التذكير المتكرر، والصهر المتوالي؛ لذا كانت الأحداث تتوالى كما هي مرسومة في قدر الله، وتتوالى الموعظة بها، والتحذير على ضوئها، والتوجيه بهديها، مرة بعد مرة؛ لتصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله، بتوفيق الله، على يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

سورة الممتحنة تطالعنا على صفات العالَم الذي يريده الله في الأرض، عالم رباني إنساني، يقوم على الإيمان بالله وحده، ويرتبط أفراده جميعاً بعروة الإيمان، التي تذوب أمامها فواصل النسب والقبيلة، والجنس والأرض، ويُجعل مكانها عقيدة الإيمان بالله وحده، يستمد الكلُّ فيها مقوماتِه من توجيه الله وحكمه، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله، ودون قيام هذا العالَم بتلك المواصفات؛ ستبقى عوائق الجاهلية من نسب وقبيلة، وجنس وأرض، وهوى قلب، ورغبات نفس، وغيرها؛ ستبقى قائمة، تحول دون قيام المنهج الأخير في الأرض.

تطالعنا سورة الممتحنة على أن نفوس بعض المهاجرين كانت ما تزال مشدودةً إلى ما خلفت في مكة، من ذرية وأزواج، وذوي قربى؛ على الرغم من كل ما ذاقوه من قريش من أذى وعنت، وكانت تلك النفوس تودُّ أن لو وقعت بينهم وبين قريش المحاسنةُ والمودةُ، وأن لو انتهت هذه الخصومة، التي تكلفهم قتال أهليهم وذويهم، وتقطع ما بينهم من صلات، وكان الله يريد تخليص هذه النفوس من تلك الوشائج كلها، وتجريدَها لدينه، وعقيدته، ومنهجه، وهو يعلم ثقل الضغط الواقع على تلك النفوس من الميول الطبيعية، ورواسب الجاهلية، كيف وهم العرب أشدُّ الناس احتفالاً بعصبية القبيلة، والعشيرة، والبيت، ولكنه مع ذلك كان يأخذهم بالعلاج الناجع البالغ، يأخذهم ويربيهم بالأحداث، ثم بالتعقيب عليها؛ حتى تصفو نفوسهم من تلك الشوائب والوشائج كلها.

وقد روي أن هذه السورة نزلت في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لـمَّا كتب إلى قريش عام الفتح، يعلمهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد غزوهم، وذلك بعد أن أعلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعدداً من أصحابه بوجهته، وقد روى البخاري في صحيحه قصة حاطب التي نزلت فيها السورة، قال علي رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير، والمقداد، فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوا منها» قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، قال: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة، إلى ناس بمكة من المشركين، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا حاطب، ما هذا؟» قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش، يقول: كنت حليفاً، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين مَن لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما إنه قد صدقكم»، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»؛ فأنزل الله السورة: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق﴾ [الممتحنة: 1] إلى قوله: ﴿فقد ضل سواء السبيل﴾ [البقرة: 108](1). 

إن المتأمل فيما فعله حاطب رضي الله عنه، وهو من المهاجرين البدريين الذين اطلعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سر الحملة؛ يدرك حالات الضعف التي تمر بها النفس البشرية، مهما بلغت في كمالها وقوتها، وأنه لا عاصم لها إلا الله وحده، كما أن الحادث يطالعنا على ما ينبغي أن يكون عليه المربي حالة الضعف الطارئ على نفوس أصحابه، إذ ينبغي عليه أن يعينهم، وينهض بهم من عثرتهم، فلا هو يطاردهم، ولا يسمح لأحد أن يطاردهم، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع حاطب رضي الله عنه، إذ قال لأصحابه: «أما إنه قد صدقكم»، ثم إن حادثة حاطب تطالعنا أخرى على عظيم أدب المسلمين مع قيادتهم، وتواضعهم في الظن بأنفسهم؛ فلم يقل أحد منهم: هذا حاطب الذي عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسر الحملة يخون السر ويفشيه، ولو أودعناه نحن ما بُحنا به؛ لم يرد شيء من ذلك عنهم ، والسورة -كما قلنا- أبعد مدىً من حادثة حاطب.

يقول تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ [الممتحنة: 1] يناديهم بنداء ودودٍ موحٍ، يشعرهم فيه أنهم منه وإليه، وأن من يعاديهم يعاديه؛ لأنهم رجاله، الذين ينتسبون إليه، ويحملون شارته، ولا يجوز لهم أن يلقوا المودة إلى عدوهم وعدوه، ثم يهيج قلوبهم بذكر جريرة هؤلاء المشركين عليهم، وعلى دينهم؛ فيقول: ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ وهل يبقى بعد هذه الجرائر الظالمة مكان للمودة والموالاة؟ حاربوكم وأخرجوكم لا لشيء؛ إلا لأجل عقيدتكم، لإيمانكم بالله ورسوله، ولا محلَّ للمودة بينكم وبين المشركين ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾، لا يجتمع في قلبٍ واحد أن يهاجر ابتغاء مرضاة الله، ثم يواد من كفر بالله.

ثم إنه تعالى يحذرهم مما تكنه قلوبهم إلى أعدائهم من المودة فيقول: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾، ثم يتدرج في تهييج قلوبهم ضد أعدائهم؛ فيبصرهم بحقيقة عدوهم، وما يضمرونه لهم من الشر والكيد فيقول: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ [الممتحنة: 2]، إنهم لن تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها منكم؛ إلا وتصرفوا معكم تصرف العدو الأصيل، وفوق ذلك: ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ وهذه الأمنية منهم هي أشدُّ الأذى وأعظمه.

ثم تأتي اللمسة التي تعالج وشائج القربى، المتأصلة في النفوس، التي تضطر البعض أحيانًا لموادة أعداء الله من أقاربه وذويه -كما حصل مع حاطب-؛ لتقول لهم: إن تلك الوشائج كلها ستنقطع يوم القيامة، وستبقى وشيجة الإيمان بالله وحده، وإن ذلك مما يهون على العبد شأن تلك الوشائج كلها فترةَ الحياة القصيرة، ويتجه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع، وشيجة الإيمان وحدها ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الممتحنة: 3]، وبعد ذلك تأتي الآيات التي تربط آخر هذه الأمة بأولها، لأنهم قافلة واحدة، ممتدة في الزمان، متميزة بالإيمان، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة، تربطهم بأبيهم إبراهيم عليه السلام صاحب الحنيفية، الذي عانى من عاطفة القرابة ووشائجها؛ حتى خلص ومن معه من المؤمنين، وتجرَّد لعقيدته وحدها ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4]، إن القافلة المؤمنة التي قادها إبراهيم عليه السلام قد مرَّت بمثل ما مرَّت به الجماعة المسلمة في المدينة، وبمثل ما يمرُّ به كل من يحمل راية هذا الدين، وانتهت إلى التبري من تلك الوشائج والروابط كلها، والخلاص إلى الوشيجة التي لا تنقطع في الدنيا والآخرة، وشيجة العقيدة، وإن هذا ليوحي للمؤمن بأن الأمر ليس جديداً، ولا مبتدعاً، ولا هو تكليف يشق على المؤمنين، بل هو فرع من شجرة، قد غرسها إبراهيم بيده، وإن موقف إبراهيم عليه السلام إذ تبرأ من قومه، ومما يعبدون، وآمن بالله وحده؛ لهو فصل الخطاب في مثل هذه التجربة، التي يمر بها المؤمن في أي جيل، إنها مفاصلة حاسمة جازمة، لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بين المؤمن والكافر، بعد أن انقطعت بينهم وشيجة العقيدة، وأواصر الإيمان، ولقد كان البعض يجد في قول إبراهيم لأبيه: ﴿لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ ثغرةً يبث من خلالها عواطفه الحبيسة، ومشاعره الموصولة بذوي قرابته من المشركين؛ فجاء القرآن يشرح لهم موقف إبراهيم من أبيه، وأن ذلك كان منه قبل أن يستيقن إصرار أبيه على الشرك ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ وفوض أمره إلى الله، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة قائلاً: ﴿رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ ويستطرد القرآن هنا في ذكر دعاء إبراهيم فيقول: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لا تسلطهم علينا فيكون في ذلك فتنتهم، فيقولون: لو كان الإيمان يحمي أهله ما سُلطنا عليهم وقهرناهم، ﴿وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ يُنهي الخليل دعاءه بإظهار عجزه البشري عن بلوغ المستوى الذي يكافئ نعم الله وآلائه؛ فيطلب مغفرته؛ لأنه القادر الحكيم سبحانه، ثم يعود ويقرر لهم الأسوة نهاية المقطع فيقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [الممتحنة: 6]، وينتهي هذا المقطع بعد أن أوقف المؤمنين على تجارب من سبقهم من الرهط الكريم؛ فلا يعودون يشعرون بالغربة، أو الوحشة وهم يسلكون هذا الطريق؛ بل يدركون أنها طريق معبدة، قد سلكها من سبقهم، إبراهيم والذين آمنوا معه.

بعد أن بينت الآيات السابقة للمؤمنين أنه لا بد من المفاصلة الحاسمة الجازمة بينهم وبين المشركين استجابةً لوشيجة العقيدة؛ جاءت الآيات بعدها لتنسِّمَ على قلوبهم نسمات الأمل الندية، وهم الذين يرغبون بزوال حالة العداء والجفوة بينهم وبين ذويهم من المشركين؛ فتقول: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة: 7]، إنه رجاء الإسلام في إسلام هؤلاء المشركين، رجاءً يخفف الله به عن النفوس المتعبة بمشقة المقاطعة والحرب للأهل والعشيرة، وكان ما رجاه الإسلام، ففتحت مكة، وأسلمت قريش، وانضوى الجميع تحت راية واحدة، وطويت الثارات، وائتلفت القلوب، ذلك أن الإسلام دين سلام وحب، يهدف إلى أن يظلل العالم كله بظله، ويجمع الناس تحت لوائه، وإن الذي يحول دون ذلك عدوانُ أعدائه عليه، وعلى أهله، وإذا ما سالموه؛ فالإسلام غير راغب في الخصومة، ولا متطوع بها؛ بل إنه في حالة الخصومة؛ يستبقي على أسباب الود في النفوس بعدالة المعاملة، ولا ييأس من إسلام خصومه، واقتناعهم بأن الخير أن ينضووا تحت لوائه، وبين يدي هذا الرجاء في إسلام المشركين؛ يضع الإسلام قاعدته الكبرى في التعامل معهم؛ فيرخص للمؤمنين موادة من لم يقاتلوهم في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ويحصر سبب الخصومة في العقيدة وحدها؛ فيقول: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)﴾ [الممتحنة: 8، 9]، وهذه القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد، التي تتفق مع طبيعة هذا الدين، ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، فهي تبرز قيمة العقيدة، وتجعلها الرايةَ الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون، فمن وقف معهم تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصدَّ الناس عنها، ولم يحُل بينهم وبين سماعها، ولم يفتنِ المؤمنين بها؛ فهو مسالم، لا يمنع الإسلام من البر به، والقسط معه، تلك هي قاعدة الإسلام الكبرى في علاقاته الدولية؛ وإذا ما أثبتت لنا التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين؛ إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون؛ نعاملهم بقاعدة: ﴿وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ﴾ ننبذ إليهم عهدهم، وننهي حالة المعاهدة والموادعة معهم؛ لنأمن غدرهم. 

يأتي بعد هذا التأصيل -لقاعدة الإسلام الكبرى في معاملاته الدولية القائمة على العدل- الحديثُ عن حكم المؤمنات المهاجرات: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)﴾ [الممتحنة: 10، 11]، وقد نزلت هذه الآيات بعد صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين، ومما جاء في بنود الصلح: "على ألا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك؛ إلا رددته إلينا"، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصل أسفل الحديبية؛ جاءته نساء مؤمنات مهاجرات؛ ولم يكن نصُّ الصلح قاطعاً فيما يتعلق بهجرة النساء؛ فنزلت هاتان الآيتان تمنعان ردَّ المؤمنات إلى الكفار؛ حتى لا يُفتنَّ في دينهنَّ لضعفهنَّ، وتقرران الأحكام المترتبة على هذا المنع، وتنظِّمان التعامل مع هذه الحالة على أعدل قاعدة تتحرى العدل في تعامل الإسلام مع خصومه، دون تأثر منه بسلوكهم الجائر، على طريقته في كل معاملاته الداخلية والدولية.

وأول إجراء يتخذُ مع تلك المهاجرات امتحانُهم؛ ليُعلمَ سبب هجرتهن، قال ابن عباس: "كان يمتحنهن: بالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض، وبالله ما خرجت التماسَ دنيا، وبالله ما خرجت إلا حباً لله ورسوله"، يُمتحنَّ في الظاهر، أما الباطن فـ ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾، وإذا ما أقررن بالإيمان ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ؛ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ لأن وشيجة العقيدة قد فرقت بينهم، والقلب إذا ما خوى من الإيمان؛ لا يستطيع قلبٌ مؤمنٌ أن يتجاوبَ معه؛ على أن هذا الأمر كان متروكاً بلا نص أولَ الإسلام، فلم يكن يُفرَّقُ بين الأزواج المؤمنين وزوجاتهم الكافرات؛ لأن المجتمع المسلم لم تكن قواعده قد استقرت بعد، أما بعد فتح الحديبية؛ فقد آنَ أنْ تقعَ المفاصلة الكاملة؛ ويستقرَّ في نفوس المؤمنين أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله.

وعلى قاعدة العدل والمساواة في الإسلام كان الإجراء الثاني في هذا التعامل الدولي؛ أن يُردَّ للزوج الكافر قيمةُ ما أنفقه من مهر لزوجته المؤمنة التي فارقته؛ تعويضاً للضرر، ويُردَّ للزوج المؤمن قيمةُ ما أنفق من مهر لزوجته الكافرة، وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاحُ المؤمنات المهاجرات؛ إذا ما آتوهن مهورهن، على خلاف فقهي في هل تجب عليهن عدة، وما مقدارها، ثم يربط القرآن هذه الأحكام والإجراءات بالضمانة الكبرى، ضمانة الرقابة الإلهية، وخشية الله وتقواه؛ فيقول: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ ويكفي أن يدرك ضمير المسلم مصدر الحكم؛ ليستقيم عليه ويرعاه، وهو يوقن أن مرده إلى الله، ثم قال: ﴿وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا﴾ إذا ما امتنعت الكوافر، أو أهليهن من رد ما أنفقه الزوج المؤمن عليهن؛ فإن الإمام يعوضه من بيت المال، أو مما يقع بين يديه من أموال الكفار، ويربط القرآن هذا الحكم بالضمان الذي يتعلق به كل حكم، وكل تطبيق فيقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾، وهكذا يتجسد في هذه الأحكام والإجراءات المتعلقة بالمؤمنات المهاجرات وأزواجهن الكفار؛ يتجسدُ تصور الإسلام للمقاطعة والمفاصلة القائمة على أساس العقيدة، يتجسدُ واقعاً عملياً؛ ميَّز صفوف المؤمنين عن صفوف الكافرين.

ثم بيَّنت السورة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يبايع تلك المهاجرات وغيرهن على الإسلام؛ فقالت: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة: 12]، وما جاء في الآية من أسس هي المقومات الكبرى للعقيدة، وللحياة الاجتماعية الجديدة، فلا إشراك بالله، ولا إتيان للحدود، ولا سرقة، ولا زنا، ولا قتل للأولاد، والشرط الأخير: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ وهذا الشرط هو أحد قواعد الدستور في الإسلام، يقرر أن لا طاعة على الرعية لإمام، أو حاكم؛ إلا في المعروف، الذي يتفق مع دين الله وشريعته، وأنه لا طاعة مطلقة لولي الأمر في كل أمر! وهي القاعدة التي تجعل قوة التشريع والأمر مستمدةً من شريعة الله، لا من إرادة إمام، ولا من إرادة أمة إذا ما خالفت شريعة الله، فالكل محكوم بشريعة الله، ومنها تُستمدُّ السلطات، فإذا بايعنَ على هذه الأسس الشاملة؛ قُبلت بيعتُهنَّ، واستغفر لهنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما سلف منهنَّ.

وفي الختام يهتف للذين آمنوا بالصفة التي تميزهم عن غيرهم فيقول لهم: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾ [الممتحنة: 13]، ينهاهم عن موالاة أعدائهم نهاية السورة، كما نهاهم عن ذلك بدايتها، والذين غضب الله عليهم هم اليهود، ولا يُمنع دخول النصارى وغيرهم في الآية، من الذين قد حرموا أجر الآخرة، فلم يعد لهم رجاء، ولا تعلق بها، كما لم يعد للكفار في الدنيا رجاء، ولا أمل في بعث من مات، ولا في محاسبته.

 

(1( البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق، 5/145.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين