تقريب الظلال: سورة المجادلة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فهذا تقريب سورة المجادلة من تفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب.

تطالعنا هذه السورة على الحركة الهائلة التي قام بها الإسلام في بناء النفوس، التي تعدُّ لبناء المجتمع الإسلامي، والدولة المسلمة، وتقوم على منهج الله في الأرض، تفهمُه وتحققُه، ثم تنقلُه إلى أطراف الأرض في صورة حية متحركة، لا في صحائف وكلمات، ولقد كان المسلمون الذين يعدهم القدر لهذا الدور الضخم ناسًا من الناس، منهم السابقون من المهاجرين والأنصار، الذين نضج إيمانُهم، واكتمل تصورُهم للعقيدة الجديدة، حتى وصلوا بها إلى حقيقة وجودهم، وحقيقة هذا الوجود الكبير من حولهم؛ فأصبحوا بها طرفًا من قدر الله في الكون، لا يجدون في قلوبهم شيئًا إلا الله؛ ولكن أولئك السابقين كانوا قلة بالقياس إلى الجماعة المسلمة المتزايدة العدد؛ حيث كان فيها من لم يتلقَ من التربية الإسلامية القسط الكافي، ولم يتنفس في الجو الإسلامي فترة طويلة، وكان بينهم من دخل فيها من المنافقين على دخلٍ في القلوب، وتربصٍ بالفرص، وذبذبةٍ بين المعسكر الإسلامي، والمعسكرات القوية المناوئة له في ذلك الحين؛ ولذا اقتضت تربية النفوس وإعدادها للدور الكبير المقدر لها في الأرض جهودًا ضخمة، وصبرًا طويلًا، وعلاجًا بطيئًا، في صغار الأمور وفي كبارها.

سورة المجادلة تطالعنا على طرف من تلك الجهود الضخمة، وعلى أسلوب القرآن في بناء تلك النفوس، وعلاج العادات التي نشأت عليها، أو الأحداث والنزوات التي تطرأ عليها؛ علاجًا يليق بالجماعة التي تنضوي تحت كنف الله، وتنتسب إليه، وتؤلف حزبه، وترفع لواءه؛ لتعرف به في الأرض جميعًا؛ فتبدأ السورة بذكر حادثة وقعت لأسرة مغمورة في المجتمع المسلم، تدخلت فيها السماء لتقرر حكم الله فيها، وهي صورة تملأ القلب بعطف الله وقربه، ورعايته لتلك الجماعة التي يصنعها على عينه، ويشعرها بوجوده في أخص خصائصها، وأصغر شؤونها، وفي هذا السياق تبين السورة أن أعداء هذه الجماعة -التي تعيش في كنف الله- مكتوب عليهم الكبت في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة، وأن نجواهم التي يتناجون في خلواتهم لتدبير المكايد للمسلمين مسجلةٌ، وأن الله آخذهم بها ومعذبهم عليها، ثم تنهى السورةُ المسلمين عن التناجي بغير البر والتقوى، وتأخذهم بأدب السماحة وبالطاعة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومجالس العلم والذكر، كما تأخذهم بأدب السؤال والحديث مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما بقية السورة فتنصرف إلى الحديث عن المنافقين الذين يتولون اليهود، ويتآمرون معهم، ويدارون تآمرهم بالكذب والحلف للرسول وللمؤمنين، وتبين أن الله كتب على من يحادون الله ورسوله أنهم في الأذلين، وأنهم الأخسرون؛ تهوينًا لشأنهم الذي كان بعض المنتسبين إلى الإسلام يستعظمه، فيحافظ على مودته معهم، وفي ختام السورة تجيء الصورة الوضيئة لحزب الله، التي كان يمثلها السابقون من المهاجرين والأنصار؛ تختم بها السورة كي ينتهي إليها أولئك الذين ما زالوا بعدُ في الطريق ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...﴾

﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)﴾ [المجادلة: 1 - 4]، كان الرجل في الجاهلية إذا ما غضب من امرأته لأمر ما؛ قال لها: أنت علي كظهر أمي، فتحرم عليه بذلك، ولا تطلق منه، وتبقى كذلك، لا هي امرأته فيصلها، ولا هي حرمت عليه فتتزوج بغيره، وبقي الأمر كذلك حتى وقع في الإسلام مع خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت ، فجاءت خولة رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم تشتكي إلى الله سبحانه؛ فأنزل الله في ذلك قرآنًا؛ بيَّن فيه حكم الظهار وحقيقته، وقد روى الإمام أحمد عن خولة بنت ثعلبة قالت: فيَّ -والله- وفي أوس بن صامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة قالت: كنت عنده، وكان شيخا كبيرًا، قد ساء خلقه وضجر، قالت: فدخل علي يومًا فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنت علي كظهر أمي، قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل علي، فإذا هو يريدني على نفسي، قالت: فقلت: كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت؛ حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، قالت: فواثبني وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إليه صلى الله عليه وآله وسلم ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «يا خويلة، ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه»، قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه فقال لي: «يا خويلة، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك»، ثم قرأ علي: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [المجادلة: 1] إلى قوله: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 4]، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مريه فليعتق رقبة»، قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: «فليصم شهرين متتابعين»، قالت: فقلت: والله يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين مسكينا، وسقًا من تمر»، قالت: فقلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإنا سنعينه بعرق من تمر»، قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر، قال: «قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا»، قالت: ففعلت(1).

هذا هو الشأن الذي افتتحت به سورة من سور القرآن، كتاب الله الخالد، وهذا هو الذي سمع الله ما دار فيه من حوار بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمرأة، فأنزل فيه حكمه من فوق سبع سماوات، وأعطى المرأة حقها، وأراح بالها، ورسم للمسلمين الطريق في مثل هذه المشكلة العائلية اليومية! وإنه لأمر عجيب أن تشعر جماعة من الناس أن الله هكذا معها، حاضر شؤونها، معنيٌّ بمشكلاتها اليومية، مستجيبٌ لأزماتها العادية، وهو الله... الكبير المتعال، العظيم الجليل، القهار المتكبر، الذي له ملك السماوات والأرض، وهو الغني الحميد، ثم قرر سبحانه أصل القضية، وعلاجها من أساسها فقال: ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ إن الظهار قائم على غير أصل، فالزوجة ليست أمَّاً للزوج، والأم هي التي ولدت، ولا يمكن أن تستحيل الزوجة أمَّاً بكلمة تقال، وإنها لكلمة منكرة مزورة ينكرها الواقع، ومع ذلك كله؛ فإن الله ﴿لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ لما سلف من هذه الأمور، وبعد أن بينت السورة أصل الظهار وحقيقته ونكارته؛ ذكرت الحكم القضائي على من أوقعه فقالت: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)﴾ فمن أراد أن يعود إلى الوطء الذي حرمه على نفسه بالظهار؛ فعليه تحرير رقبة من قبل العودة إلى حله، وهذه الكفارة واعظ بعدم العودة إلى الظهار الذي لا يقوم على حق، ولا معروف ﴿ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ﴾ وقد وعظكم به من هو قائم على أموركم بخبرته وعلمه ﴿وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ثم يتابع الحكم بيانًا فيقول: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا﴾ ثم يعقب على هذا بالبيان بقوله: ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وهم مؤمنون! ولكنَّ هذه الكفارات وما فيها من ربط أحوالهم بالله مما يحقق الإيمان، ويجعل له سلطانًا بارزًا في واقع الحياة، وتلك الأحكام والكفارات ﴿حُدُودُ اللَّهِ﴾ أقامها ليقف الناس عندها لا يتعدونها، وهو يغضب على من لا يرعاها ولا يتحرج دونها، ﴿وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ بتعديهم، وعدم إيمانهم، وعدم وقوفهم عند حدود الله كالمؤمنين، وهذه العبارة الأخير: ﴿وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ يجعلها القرآن أيضًا قنطرة للحديث عمن يحادّون الله ورسوله فيقول:

﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)﴾ [المجادلة: 5، 6]، مقطع السورة الأول كان صورة من صور الرعاية والعناية بالجماعة المسلمة، وهذا المقطع الثاني صورة من صور الحرب والنكاية للفريق الآخر، فريق الذين يحادون الله ورسوله، ولا يقفون عند حد الله ورسوله، بل في الحد الآخر المواجه، وهو أمر فظيع قبيح، أن يقف المخلوق موقفًا يتحدى به خالقه ورازقه؛ ولذا استحق أولئك المتبجحون بموقفهم ما استحقه الذين من قبلهم: القهر والذل ﴿كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، وموقفهم ذلك لم يكن عن جهل، ولا عن غموض في الحقيقة؛ بل لقد اتضحت لهم الحقيقة، وعلموها بآيات الله البينات ﴿وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾، فكان جزاء تبجحهم هذا المهانة على رؤوس الجموع يوم القيامة ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا﴾ وإن كانوا قد نسوا هذا المصير؛ فقد ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ لا يند عنه شيء، ولا يغيب عنه خاف، ثم يستطرد السياق من تقرير حقيقة: ﴿وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ إلى رسم صورة حية من هذا الشهود، تمس أوتار القلوب فيقول:

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)﴾ [المجادلة: 7]، فبعد أن تقرر هذه الآيات علم الله الشامل لما في السماوات، وما في الأرض على إطلاقه؛ تقرُب من ذوات المخاطبين، وتهز قلوبهم، ثم تتركها وجلةً ترتعش مرة، وتأنس أخرى فتقول: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ...﴾ فحيثما اختلى ثلاثة فالله رابعهم، وحيثما اجتمع خمسة فالله سادسهم، وحيثما كان اثنان يتناجيان فالله هناك، إنها حالة لا يثبت لها قلب، ولا يقوى على مواجهتها إلا وهو يرتعش ويهتز، في محضر جليل رهيب، محضر الله: ﴿هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا﴾، ثم تأتي لمسة أخرى تُرجف القلوب وتزلزلها، فما يُسِرُّه المتناجون، وينعزلون به ليخفوه؛ سيعرض على الأشهاد يوم القيامة، وينبئهم الله به في الملأ الأعلى في ذلك اليوم المشهود ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، وهذا التقرير تمهيد لتهديد المنافقين، الذين كانوا يتناجون فيما بينهم بالمؤامرات ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وضد الجماعة المسلمة بالمدينة، مع التعجيب من موقفهم المريب:

﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)﴾ [المجادلة: 8] توحي هذه الآيات أن خطة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المنافقين كانت النصح بالاستقامة، والنهي عن المؤامرات التي كانوا يدبرونها مع اليهود في المدينة، وتوحي أن المنافقين لم يستجيبوا لهذا النصح؛ بل استمروا في خطتهم اللئيمة، وفي التدبير السيء للجماعة المسلمة، وتوحي بأن بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية؛ فيحورها إلى معنىً سيئ خفي، كأن يقولوا كاليهود: السام عليكم، وكانوا يقولون وهم على هذه الحال: لو كان نبيًا حقًا لعاقبنا الله على قولنا هذا، وظاهرٌ من سياق السورة أن الله قد أخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما كانوا يقولونه في أنفسهم، وفي مجالس مؤامراتهم؛ فالله قد سمع للمرأة المجادلة، وأن ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم... وقد ردَّ الله عليهم بقوله: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ وهذا كله تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السماوات وما في الأرض، وحضوره لكل نجوى، وشهوده لكل اجتماع، الشيء الذي يوقع في نفوس المنافقين أن أمرهم مفضوح، كما يوحي للمؤمنين بالاطمئنان والوثوق.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)﴾ [المجادلة: 9، 10]، يبدو من هذه الآيات أن بعض المسلمين ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الإسلامي، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور، ليتناجوا فيما بينهم، ويتشاوروا بعيدًا عن قيادتهم، الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية، وروح التنظيم الإسلامي، التي تقتضي عرضَ كل رأي، وكل اقتراح على القيادة ابتداءً، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة، كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة، وما يؤذي الجماعة المسلمة -ولو لم يكن قصد الإيذاء قائمًا في نفوس المتناجين- ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية، وإبداء الآراء فيها على غير علم؛ قد يؤدي إلى الإيذاء، وإلى عدم الطاعة؛ فجاء هذا النداء لهم من الله بالصفة التي تربطهم به ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ينهاهم فيه عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، ويبين لهم الموضوعات التي يتناجى بها المؤمنون ﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ البر: الخير عامة، والتقوى: اليقظة والرقابة لله سبحانه، وهي لا توحي إلا بالخير، ثم نفَّرهم سبحانه من التناجي والمسارة خفية عن الجماعة المسلمة؛ لأن أجواء الانعزال بالحديث تبث الحزن والتوجس في قلوب المسلمين، وتخلق جوًا من عدم الثقة، وإن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم، ويدخلوا إليها الوساوس والهموم ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولكن الله يطمئن المؤمنين بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وقد وردت الأحاديث النبوية بالنهي عن التناجي في الحالات التي توقع الريبة، وتزعزع الثقة بين المؤمنين، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود  قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه»، فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر، أو ستر عورة، في شأن عام أو خاص، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم، وهذا يكون عادة بين القادة المسئولين عن الجماعة، ولا يجوز أن يكون تجمعًا جانبيًا بعيدًا عن علم الجماعة؛ فهذا الذي نهى عنه القرآن، ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو الذي يفتت الجماعة، أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة، وهذا هو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا، ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة، لأن الله حارسها وكالئها، ولن يضر الشيطان المؤمنين ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ وقد وعد الله بحراسة المؤمنين ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾ [المجادلة: 11]، هذه الآية تحض على الإفساح للقادم ليجلس، كما تحض على إطاعة الأمر إذا قيل لجالس أن يرفع فيرفع، وهذا الأمر يجيء من القائد المسئول عن تنظيم الجماعة، لا من القادم، وإن ما ورد في سبب نزول هذه الآية، وأن لها علاقة واقعية بالمنافقين؛ يجعل بينها وبين الآيات قبلها أكثر من ارتباط واحد في السياق، قال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سُبقوا إلى المجالس؛ فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: السلام عليكم أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك؛ فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم؛ فعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يحملهم على القيام، فلم يفسح لهم؛ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر: «قم يا فلان، وأنت يا فلان» فلم يزل يقيمهم بعِدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر؛ فشق ذلك على من أُقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكراهة في وجوههم؛ فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إن قومًا أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب من نبيهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رحم الله رجلًا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا، فيفسح القوم لإخوانهم.

إن الغرض هو إيجاد الفسحة في النفس قبل إيجادها في المكان، ومتى ما رحب القلب؛ استقبل الجالس إخوانه بالحب والسماحة، فأفسح لهم في المكان عن رضىً وارتياح، وقد استجاش القرآن شعور المؤمنين مع هذا التكليف فوعد المفسحين في المجالس بفسحة من الله وسعة فقال: ﴿فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ﴾، ووعد الناشزين الذين يُرفعون من المكان، ويُخلونه طاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برفعة في المقام: ﴿وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ﴾، وبهذه التربية التي يأخذ الله المؤمنين بها؛ يعلمنا أن الدين ليس بالتكاليف الحرْفية، ولكنه تحول في الشعور، وحساسية في الضمير.

ثم تأتي الآيات فتطالعنا على لون آخر من ألوان الجهود التربوية التي بذلك لإعداد هذه الجماعة المسلمة في الصغير والكبير، من شئون الشعور والسلوك فتقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)﴾ [المجادلة: 12، 13]، يبدو من الآيات أنه كان هناك تزاحم على الخلوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليحدثه كل فرد في شأنٍ يخصه، مع عدم التقدير لمهام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجماعية، وعدم الشعور بقيمة وقته، وبجدية الخلوة به، وأنها لا تكون إلا لأمر ذي بال؛ فشاء الله أن يشعرهم بهذه المعاني بتقرير ضريبة للجماعة من مالِ الذي يريد أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في صورة صدقة يقدمها قبل أن يطلب المناجاة والخلوة فقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً...﴾ وقد ورد أن من عمل بهذه الآية علي بن أبي طالب ، ثم لـمَّا شق الأمر على المسلمين، وشعروا بقيمة الخلوة التي يطلبونها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ خفف الله عنهم، ونزلت الآية التالية برفع هذا التكليف، وتوجيههم إلى العبادات والطاعات المصلحة للقلوب: ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ...﴾.

ثم يعود السياق للحديث عن المنافقين، فيحمل عليهم حملة شديدة، تناسب الشر والفتنة التي يدبرونها للمسلمين مع أعدائهم الماكرين اليهود، ويصور فيها بعض أحوالهم ومواقفهم، ويتوعدهم بافتضاح أمرهم، وسوء مصيرهم فيقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)﴾ [المجادلة: 14 - 19]، تدل الآيات وهي تشن هذه الحملة على المنافقين المتآمرين مع اليهود على أن سلطة الإسلام كانت قد عظمت؛ حتى خافها المنافقون، واضطروا عند مواجهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى الحلف الكاذب لإنكار ما ينسب إليهم من مؤامرات وأقوال، يتقون بتلك الأيمان ما يتوقعونه من مؤاخذتهم بما ينكشف من دسائسهم ﴿اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً﴾ بذلك يستمرون في دسائسهم للصد عن سبيل الله، والله يتوعدهم مرات فيقول: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً﴾... ﴿فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ﴾... ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾، وقد استحقوا كلَّ ذلك الوعيد بعد أن تأصَّل النفاق في كيانهم، حتى إنه ليصاحبهم إلى يوم القيامة، فتراهم في حضرة الله ذي الجلال ﴿يَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ﴾ وهو الذي يعلم خفايا القلوب وذوات الصدور، وهم مع ذلك ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ﴾؛ فيدمغهم الله بالكذب الأصيل الثابت فيقول: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ﴾، وقد صاروا لذلك بعد أن استولى عليهم الشيطان ﴿فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾؛ ففسدت قلوبهم، وتمحضت للشر ﴿أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ﴾ الذي يقف تحت لوائه، ويعمل باسمه، وينفذ غاياته ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾.

ولـمَّا كان المنافقون يأوون إلى اليهود؛ شعورًا منهم بأنهم قوة تخشى وترجى؛ أيأسهم الله منهم، وجاء بالوعد الصادق لعباده المؤمنين بأنه كتب على أعدائه الذلة والهزيمة؛ على الرغم مما قد يبدو أحيانًا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)﴾ [المجادلة: 20، 21]، وكان ما وعده الله؛ فدانت البشرية لهذه العقيدة بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد، وظلت هي المسيطرة بصفة عامة رغم عودة الإلحاد إلى بعض بقاع الأرض، وعلى المؤمن أن يتعامل مع وعد الله هذا على أنه الحقيقة الواقعة، وإذا ما خالف الواقعُ هذه الحقيقة في جيل محدود، أو في رقعة محدودة، فهو الواقع الباطل الزائل، الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة، لعلها استجاشة الإيمان لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم.

وفي الختام تأتي المفاصلة الكاملة بين حزب الله وحزب الشيطان، وتضع الميزان الدقيق للإيمان في النفوس: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)﴾ [المجادلة: 22]، فلا يمكن أن يجمع إنسان في قلب واحد وُدَّيَن: وُدًّا لله ورسوله، ووُدًّا لأعداء الله ورسوله، فإما إيمان، أو لا إيمان، أما هما معًا فلا يجتمعان، وروابط الدم والقرابة تراعى في الصحبة بالمعروف للوالدين ونحوها، أما عند الإيمان والمحادة، والحرب والخصومة؛ فإن تلك الأواصر تتقطع، ولذا قتل أبو عبيدة أباه يوم بدر، وهمَّ الصديق بقتل ولده عبد الرحمن، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير، وقتل عمر وحمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم، متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة، ولولا أن الله غرس الإيمان في قلوب أولئك القوم بيده؛ لما استطاعوا فعل ذلك فالله ﴿كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ ثم إنه سبحانه أعطاهم جزاء ما تجردوا من كل رابطة وآصرة ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها﴾ وهم في مقام عال رفيع، ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ رضيت نفوسهم هذا القرب، وأنست به، واطمأنت إليه، ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ﴾ فهم جماعته، المتجمعة تحت لوائه، المتحركة بقيادته، المهتدية بهديه، المحققة لمنهجه، الفاعلة في الأرض ما قدره وقضاه، فهي قدر من قدر الله ﴿أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ومن يفلح إذن إذا لم يفلح أنصار الله المختارون؟ وهكذا تقرر الآية أن من انحاز إلى حزب الله، ووقف تحت راية الحق؛ فهو وجميع الواقفين تحت هذه الراية إخوة في الله، لا يفرقهم نسب، ولا وطن، ولا عصبية، العقيدة تجمعهم، وتؤلف بينهم، العقيدة وحدها لا غيرها!

(1) أحمد، مسند أحمد، مصدر سابق، 45/302، قال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين