تقريب الظلال: سورة الحشر

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد، فهذا تقريب سورة الحشر من تفسير: (في ظلال القرآن) لسيد قطب.

سورة الحشر سورة مدنية، نزلت في حادثة إجلاء بني النضير، في السنة الرابعة للهجرة، بعد معركة أحد، وقبل معركة الأحزاب؛ نزلت تصف حادث الجلاء، وتذكر سبب وقوعه، ثم تعقب عليه بطريقة القرآن في التعقيب على الأحداث، والتربية بها.

مما يذكر عن سبب الحادث كما جاء في السير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ذهب في نفر من أصحابه إلى بني النضير، يستعينهم في دفع دية قتيلين، فاستقبلته اليهود بالبشر والترحاب، ووعدوه بما طلب؛ ثم تآمروا بينهم على اغتياله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأطلعه الله تعالى على ما بيَّتت يهود؛ فنهض من بينهم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أرسل إليهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه أن اخرجوا من بلادي، وأمهلهم عشرة أيام، ومن وجده بعد ذلك ضرب عنقه، وذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم عملاً بقاعدة الإسلام في العهود ونقضها: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)﴾ [الأنفال: 58، 59]، وتهيَّأ صلى الله عليه وآله وسلم لحربهم، وأخذت بنو النضير تتهيَّأ للجلاء؛ لعلمها أنه خانت ميثاق الصحيفة، فتدخل رأس المنافقين: عبد الله بن سلول، وراسلهم: أن اثبتوا ولا تخرجوا، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم؛ فتحصنت يهود في الحصون، وأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لن نبرح دارنا؛ فأصنع ما بدا لك؛ فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكبر أصحابه، وقال: «حاربت يهود»، وبعد العشرة أيام؛ حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحرَّق بعض نخيلهم وقطَّعه؛ فاعترضت عليه يهود، ودام الحصار إلى أن أيقنت يهود خذلان المنافقين لهم، ودبَّ الله الرعب في قلوبهم؛ فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرجوا من المدينة، فوافق على أن لهم دماءهم، وما حملت إبلهم؛ إلا السلاح؛ فأخذوا يهدمون بيوتهم التي احتموا بها، وخرجوا إلى أذرعات الشام، ومنهم من سكن خيبر، وأنزل الله في ذلك سورة الحشر، تذكر أحداث الجلاء، وما جرى خلاله، ثم تعقب عليها، وتربي به الجماعة المسلمة في المدينة، والأجيال من بعدها.

افتتحت سورة الحشر بالتسبيح، واختتمت كذلك بالتسبيح، تسبيح الوجود كله لله تعالى، ثم قصَّت علينا إخراج بني النضير من ديارهم، وإعطائها للمؤمنين المسبحين بحمد الله، الممجدين بأسمائه الحسنى.

أول مقطع في السورة يذكر الحادث الذي نزلت فيه السورة ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ﴾ جاءت صيغة التعبير في الآية تقرر أن الله تعالى هو الذي تولى هذا الإخراج، من غير ستار لقدرته من فعل البشر، وبيَّن أنه ساق الـمُخرجين للأرض التي منها يُحشرون، وكأنه يقول: لن تكون لأولئك الـمُخرجين عودةٌ إلى الأرض التي أخرجوا منها! ثم إن الله تعالى أكد أنه هو الذي تولى إخراجهم بنفسه؛ فطالعنا على ما جال في النفوس فقال: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾، أي: لا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم، ولا هم كانوا يتصورون وقوعه؛ بعد أن اغتروا بقوتهم، ومناعة حصونهم، ونسوا أن قوة الله تعالى لا تردها الحصون؛ ﴿فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾، أتاهم من المكان الذي لم يحسبوا حسابه، من مأمنهم، من قلوبهم، وبيَّن لهم في ذلك أنهم لا يملكون ذواتهم، فضلاً على أن يملكوا حصونهم فيمتنعوا بها عنه سبحانه، ولـمَّا أتاهم من قلوبهم، ودبَّ فيها الرعب؛ تسلطوا بأنفسهم على تلك الدور والحصون يخربونها بأيديهم، ويمكنوا المؤمنين من إخرابها! ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ وبعدها يأتي الهتاف القرآني، والقلوب مهيئةٌ للعظة، متفتحةٌ للاعتبار؛ فيقول: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ بما جرى لبني النضير، وتذكروا أن الله الذي قذف الرعب في قلوبهم، وسلطهم على دورهم وحصونهم؛ هو القادر على أن يفعل ذلك بأعدائه في كل زمان، وفي كل وقت؛ نصرةً لأوليائه المؤمنين؛ إذا ما أخلصوا الإيمان به، ثم أخذوا بأسباب النصر؛ فلا تغرنكم -والحال هذه- قوةُ عدوكم، ولا تركنوا لضعفكم! 

إن يهود بني النضير قد شقوا لهم طريقًا غير طريق الله ورسوله، واتخذوا جانبًا غير جانبه سبحانه؛ فكفروا بالنبي الذي جاءت صفته في توراتهم، بعد أن كانوا يرقبونه، وينتظرون خروجه؛ فلذا استحقوا العذاب في الدنيا، والوعيد في الآخرة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ومصيرهم هذا هو مصير المشاقين لله في كل أرض، وفي كل وقت ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر أصحابه أثناء الحصار أن يقطعوا بعض نخيل بني النظير ويحرِّقوا بعضه؛ فنادته يهود: أما كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال تقطيع النخل وتحريقه؟ فأنزل الله في ذلك تطميناً لقلوب المؤمنين، يصوب ما فعلوه بأولئك الذين كفروا وشاقوا الله ورسوله فقال: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)﴾ وقد كانوا منهيين عن ذلك قبل هذا الحادث وبعده؛ ولكن هذا الاستثناء احتاج إلى بيان خاص؛ ليشفي قلوبهم، ويخزي عدوهم؛ فنزلت الآية بالبيان.

يأتي المقطع الثاني من السورة يتحدث عن الفيء، الذي أفاءه الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والفيء: ما أخذه المسلمون من مال الكفار المحاربين من غير قتال، كما حدث في جلاء بني النضير، والغنيمة ما أخذوه منهم بالقوة والقتال، كما كان يوم بدر، ولكلٍّ منهما حكمه، والفيء خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبولي الأمر من بعده، يصرفه في مصالح المسلمين الذين ذكرتهم الآية، قال تعالى:﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾، وذو القربى هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أن كانت الصدقات لا تحل لهم؛ فأعطوا من الغنيمة الخمس، ومن الفيء نصيباً، ثم إنَّ الآية لا تكتفي ببيان حكم الفيء؛ وإنما تذكر علتَه، واضعةً بذلك قاعدةً كبرى من قواعد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي فتقول: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ﴾، وأخرى في التشريع الدستوري للمجتمع الإسلامي فتقول: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾؛ لتتجاوز بذلك الحادث الواقع، إلى آماد كثيرة في أسس النظام الاجتماعي الإسلامي.

القاعدة الأولى: قاعدة التنظيم الاقتصادي: الملكية الفردية في الإسلام محددة بهذه القاعدة الكبرى: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ﴾، فلا يكون المال في الإسلام متداولًا بين الأغنياء فقط، ممنوعًا عن التداول بين الفقراء، وكل وضع ينتهي فيه المال إلى التداول بين الأغنياء؛ وضعٌ يخالف النظرية الاقتصادية في الإسلام، ويخالف هدفاً من أهداف التنظيم الاجتماعي في الإسلام، ولقد أقام الإسلام نظامه الاقتصادي على أساس هذه القاعدة؛ ففرض الزكاة في الأموال، والزروع، والأنعام، وغيرها، ثم حدد الأصناف التي تصرف لها تلك الزكوات، وجعل أربعة أخماس الغنيمة للمجاهدين، فقراء كانوا أم أغنياء، وجعل الفيء كله للفقراء، وشرع المزارعة والمساقاة وغيرهما، وحرم الاحتكار والربا، وكل ذلك وغيره؛ حتى لا ينحصر المال بأيدي طائفة في المجتمع الإسلامي، وهذا نظامُ الإسلام في اقتصاده، الصادرُ َمن لدن حكيم خبير، جعله متوازنَ الجوانب، متناسقَ الحقوق والواجبات، توازنَ الكون وتناسقه!

القاعدة الثانية: قاعدة تلقي التشريعات من مصدر واحد: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، هذه القاعدة تمثل النظرية الدستورية الإسلامية، وتبين أن القانون إنما يستمد سلطانَه من التشريع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرآناً أو سنة، وكل مَن يشرع قانوناً يخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ فليس لقانونه سلطان، والقاعدة بهذا تخالف كل تشريع في الأرض تُجعل فيه الأمةُ مصدرَ السلطات، بمعنى أنَّ لها أن تشرعَ لنفسها ما تشاء، وكلُّ ما تشرعه فهو ذو سلطان؛ ذلك أن مصدر السلطات في الإسلام إنما هو الشرع، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأمة تنفذُ هذا الشرع وتحرسُه، والإمام نائب عن الأمة في هذا، ولا يجوز لها أن تخالف هذا الشرع؛ أما إذا ما نزلت بالأمة نازلة، لا نصَّ فيها من كتاب ولا سنة؛ فللأمة أن تشرع لها من الأحكام والقوانين؛ بما لا يخالف أصلاً من أصول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس في شيء من ذلك مناقضة لنظرية الإسلام الدستورية، وإنما هو فرع عنها، وهذا نظام فريد، لا يماثله نظام من النظم الوضعية، التي عرفتها البشرية، وبه تنحصر سلطة الأمة في هذه الحدود، ثم إنَّ الآية تربط هاتين القاعدتين بالمصدر الأول، والضمانِ الأكبر، الذي لا احتيال عليه، ولا مهرب منه، المطلعِ على السرائر، الخبيرِ بالأعمال؛ فتدعو إلى التقوى، وتخوف من العقاب فتقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.

إنَّ الفيء وإن كان قد وزِّع في هذه الحادثة على المهاجرين خاصة -عدا رجلين من الأنصار-؛ إلا أنَّ حكمَه عام، يوزع على الفقراء، ممن ذكرتهم الآيات التالية من المهاجرين، والأنصار، وممن يأتي بعدهم من الأجيال، وإنَّ الآياتِ إذ ذكرت الأحكام لم تذكرها جافةً مجردةً، إنما أحاطت كلَّ طائفة من تلك الطوائف الثلاثة بصفاتها الواقعية الحية، التي تصور طبيعتها وحقيقتها؛ فقالت: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾، فهذه الآية تبرز صورة المهاجرين الذين أكرهوا على الخروج من ديارهم لا لذنب؛ إلا أن يقولوا ربنا الله، خرجوا تاركين ديارهم وأموالهم، معتمدين على فضل الله ورضوانه، وهم مع فقرهم وحاجتهم؛ ينصرون الله ورسوله بقلوبهم وسيوفهم؛ فاستحقوا لذلك أن يصفهم الله بأجلِّ الصفاتِ فيقول: ﴿أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ فقد كانوا صورة الصدق التي تدبُّ على الأرض، ويراها الناس.

ثم تأتي الصورة الوضيئة الصادقة، التي تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار فتقول: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ لقد تبوَّأ الأنصارُ الإيمان، كما تبوأوا الدار من قبل؛ فصار الإيمان دارَهم ووطنَهم، الذي تعيش فيه قلوبهم، وتسكن إليه أرواحهم، يثوبون إليه ويطمئنون، كما يثوب المرء إلى داره ويطمئن؛ فصاروا بإيمانهم ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ وسجلوا بحبهم للمهاجرين، وإيوائهم لهم موقفاً ما شهدت البشرية مثله قط، حتى إنهم أقرعوا فيما بينهم لإنزال المهاجرين في دورهم؛ ذلك أنَّ عددَ الراغبين في الإيواء منهم، المتزاحمين عليه، كان أكثرَ من عدد المهاجرين، ولـما أعطي المهاجرون فيء بني النضير؛ لم يجد الأنصار في صدورهم شيئاً عليهم، وذلك لنظافة صدورهم، وبراءة قلوبهم المطلقة، وبلغوا بذلك القمة العليا فصاروا ﴿يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ ونفوس البشر مبنية على الشح، المعوقِ عن كل خير، ومن يقيه الله شحَّ نفسه؛ فقد نال الفلاح في حقيقته ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، ولا يمكن أن يصنع الخيرَ شحيحٌ، يهُمُّ دائما أن يأخذ، ولا يهُمُّ مرةً أن يعطي.

ثم يأتي ذكر الصورة الثلاثة لمن جاء بعدهم، وهي صورةٌ نظيفةٌ، رضيَّةٌ واعيةٌ، تبرزُ خصائص الأمة المسلمة، في جميع الأوطان والأزمان ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ تتجه نفوس هذه الطائفة لربها بطلب المغفرة، لا لذاتها فحسب، بل لسلفها الذين مضوا على الإيمان أيضاً، وتطلب براءة القلب من الغل لكل الذين آمنوا، في رأفة ورحمة فتقول: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ وهذه الآية وغيرها من الآيات تتجلى فيها طبيعة هذه الأمة، كما تتجلى الآصرة القوية التي تربط أولها بآخرها، في توادٍ وتعاطف، وشعور بوشيجة القربى العميقة، التي تتخطى الزمان والمكان، والجنس والنسب، وتتفرد وحدها في القلوب، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة؛ فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة، كما يذكر أخاه الحي، أو أشد، في إعزاز وكرامة، وحب ورحمة، وهي والله صورة باهرة، تمثل حقيقة قائمة، كما تمثل أرفعَ وأكرمَ مثال للبشرية يتصوره قلب كريم.

وبعد أن ترسم السورة صورة الإيمان الوضيئة متمثلاً في تلك الطوائف الثلاث؛ تعود للحادث الذي نزلت فيه لترسم صورة فريق آخر، ممن اشترك فيه، فريق المنافقين، الذين وعدوا اليهود بالنصر، ثم لم يفوا لهم به، بل خذلوهم حتى قذف الله الرعب في قلوب اليهود؛ فتقول: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾، وأول ما يلفت الأنظار في هذه الآية تقريرُها القرابة بين المنافقين والكفار من أهل الكتاب، فالمنافقون إخوان الكفار؛ ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام، يدل على تلك الإخوة التوكيدُ الشديدُ الذي قالوه لإخوانهم الذين كفروا ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ ولكن الله العليمَ بحقيقتهم، الخبيرَ ببواطنهم يؤكد غير ما يؤكدون، ويقرر غير ما يقررون فيقول: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ وكان ما شهد به الله، فكذب المنافقون فيما أعلنوه لإخوانهم وقرروه، ثم إن الآيات تكشف عن حقائق أخرى، قائمة في نفوس المنافقين وإخوانهم الذين كفروا فتقول: ﴿لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ فهم يرهبونكم أكثر مما يرهبون الله تعالى، ولو كانون يخافون الله تعالى لما خافوا أحداً من عباده، ثم تكشف السورة عن حقيقة أخرى، قائمة في نفوس أولئك القوم، نشأت عن حقيقة رهبتم للمؤمنين أكثر من رهبتهم لله؛ وهي أنهم: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ إنهم وإن خدعتنا مظاهرهم؛ فخُيِّل إلينا أنهم متضامنون فيما بينهم؛ إلا أن الخبر الصادق من السماء يقول: إنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم، فهم مختلفون، متناحرون، قلوبهم شتيتة متفرقة، وما تزال الأيام تكشف بين الحين والحين هذا الستار الخادع؛ فتبدو من ورائه حقيقة ذلكم الخلاف الحاد، المستعر بينهم، على خلاف حال المؤمنين، الذين تتضامن أجيالهم، وتجمعهم آصرة الإيمان، من وراء فواصل الزمان والمكان، والجنس والوطن والعشيرة، وما ينال المنافقون والذين كفروا من المسلمين؛ إلا عندما تتفرق قلوب المسلمين، فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين، التي عرضتها الآية في المقطع السابق في هذه السورة، فأما في غير هذه الحالة؛ فالمنافقون أضعف وأعجز؛ لأن ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ بتقرير هذه الحقائق في نفوس المؤمنين؛ يهون عليهم أمر عدوهم، وترتفع هيبتُه من قلوبهم، ويدركون حقيقةَ حالهم وحالَ عدوهم، والله قد أطلعهم على هذه الحقائق بعد أن ساق لهم حادثاً قد وقع، عقَّب عليه، وشرح دلائله بما يفيد منه الذين شهدوه، ومَن يتدبره ممن جاء بعدهم، ولم يكن الحديث عن تلك الحقائق مجرد خيال محلق، أو رؤىً طائرة.

لم يكن حادث إخراج بني النضير هو الأول من نوعه؛ فقد سبقه إخراج بني قينقاع، الذين أشارت إليهم الآية فقالت: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ وتجلت في إخراجهم عن المدينة حقيقة الصلة بين المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، وذلك بعد أن وقف رأس المنافقين ينافح عن بني قينقاع ويدافع؛ حتى رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النهاية أن يجلوا عن المدينة، وأن يأخذوا معهم أموالهم ومتاعهم إلا السلاح، ورحلوا إلى الشام؛ فالآية تشير إلى هذه الواقعة، وتقيس عليها حال بني النضير وحقيقتهم، وحال المنافقين مع هؤلاء وهؤلاء، ثم تضرب للمنافقين -الذين أغروا اليهود بالنصر- مثلاً بحال الشيطان مع الإنسان، الذي يستجيب لإغرائه، ثم ينتهي وإياه إلى شر مصير: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ﴾، وبهذا الحشد من الصور، والحقائق والتوجيهات؛ تنتهي قصة بني النضير في السورة، ليتجه الخطاب بعدها للمؤمنين، فيهتف بهم باسم الإيمان الذي يربطهم بصاحب الخطاب، يدعوهم فيه إلى التقوى، والنظر فيما أعدوه للآخرة، ويحذرهم نسيان الله؛ فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ يدعوهم إلى التقوى التي تجعل القلب خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها، ويدعوهم ليفتحوا صفحة أعمالهم وما قدموا؛ بل صفحة حياتهم كلها، يتأملون وينظرون في رصيد حسابهم، وما قدموا لغدهم، وإنها دعوةٌ كفيلة بأن توقظ القلب إلى مواضع ضعفه، ومواضع نقصه، ومواضع تقصيره، مهما كان قد أسلف من خير، وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً؟ ونصيبه من البر ضئيلاً؟ إنها دعوة لا ينام بعدها القلب أبداً، ثم إنَّ الآية تزيد القلوب حساسية، ورهبة، واستحياء؛ فتقول: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ ثم تحذرهم من أن يكونوا: ﴿كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ﴾، ذلك أن الذي ينسى ربه؛ يهيم في هذه الحياة بلا هدف يرفعه عن السائمة التي ترعى، ينسى إنسانيته، فلا يعود يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ﴿أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ﴾ طريقهم طريق أهل النار، وطريق المؤمنين طريق أهل الجنة و﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ﴾ لا يستويان حالاً، ولا سلوكاً، ولا وجهةً، ولا مصيراً، مصير أصحاب الجنة، واضح مذكور، يُعنى به اللفظ فيقول: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ ومصير أهل النار مسكوت عنه معروف، ضائع لا يُعنى به التعبير! ثم تأتي الآية بعد ذلك لتذكر أعظم حقيقة في هذا الوجود، حقيقة ثقل القرآن وأثره، وسلطانه المزلزل، الذي لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ يجد تلك الحقيقة من يفتح كيانه لتلقي شيء من حقيقة القرآن؛ فيهتز ويرتجف، والله خالق الجبال يقول عنها ما يقول، ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

وفي آخر السورة تأتي التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى، وصفاته المجيدة؛ في ثلاثة مقاطع، كل مقطع منها يبدأ بصفة التوحيد؛ كأنما الوجود كله قد وعى حقيقة القرآن؛ فانطلق لسانه بها، وتجاوبت أرجاؤه مسبحة بأسماء الله الحسنى ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)﴾ تقرر هذه الآيات في مطلعها وحدانية الله تعالى في ألوهيته، وتزرع في الضمير رقابة العبد لله، في السر والعلانية؛ لأنه سبحانه ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ كما تزرع في قلبه الطمأنينة والرحمة؛ لأن الذي تعبده ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ الذي لا يطارد عباده، ولا يريد لهم الشر، بل الهدى والخير؛ لأنه مالك الخير كله، ولا مالك سواه، فهو ﴿الْمَلِكُ﴾ الذي لا يُخدم سواه، وإذا ما خدمه العبد وحده؛ أفاض عليه الملكُ من قداسته المطلقة، وطهارته المطلقة؛ لأنه ﴿الْقُدُّوسُ﴾؛ فينظُف قلبُ المؤمن ويطهر، ويأمن في جوار سيِّده ويسلم، فمن أسمائه ﴿السَّلَامُ﴾ الذي يفيض على الوجود سلاماً، وطمأنينةً، ويهب عباده الأمن والإيمان فهو ﴿الْمُؤْمِنُ﴾ وهو مع ذلك له السلطان والرقابة، والقهر والجبروت، والغلبة والاستعلاء فهو ﴿الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ﴾ لا يشاركه أحد في صفاته، ولا يتصف بها سواه ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ثم تتوالى الصفات المترابطة، اللطيفة الفروق، التي تستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء، والإيجاد والإخراج ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ فالخلق هو التصميم، والبرء هو التنفيذ، والتصوير إعطاء الملامح المتميزة، والسمات التي تمنح لكل شخص شخصيته الخاصة، فسبحان من ﴿لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ في ذاتها، بلا حاجة إلى استحسانٍ من الخلق، وسبحان من ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ في مشهد يشع في جنبات الوجود، وينبع من كل موجود.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين