تعمير المساجد من سمات الإيمان


روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المسجدَ، فاشهدوا له بالإيمان، فإنَّ الله تعالى يقول: [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ] {التوبة:18}.
الألفاظ:
يعتادُ: اعتاد الأمر، أي: اتخذه عَادة ودَيدناً.
فقه الحديث:
إذا رأيتم الرجل يعتادُ المسجد، ويتخذه للمُكث فيه والعبادة، ولا يتحوَّل عنه إلا لضرورة، كما قيل: المسجد للمؤمن كالماء للسمك، وهو للمنافق كالقفص للطير.
فالمؤمن كلما انصرف عن المسجد تعلَّق قلبه به وعاد إليه، كما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظِلُّه قال: (ورجل مُعلَّق قلبُه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه).
وقوله: (فاشهدوا له بالإيمان)، لأنَّ حب المكان تابع لحب صاحب المكان، وإذا كان لكل مَلِك بيت يحرسه جنده ويؤمُّه المخلصون، وأهل الحاجات يلتمسون من فضله ونداه، فالمساجد هي تلك البيوت التي شرَّفها الله تعالى بنسبتها إليه، وجعلها أحبَّ البقاع إليه، وأمر بعمارتها وتطهيرها للقائمين والعاكفين والركع السجود، وهي البيوت التي: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ] {النور:36} [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ(36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ(37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(38)]. {النور}..
فلا جرم كان اعتياد المساجد وتعهُّدُها أمارة على الإيمان، وإذا نحن شهدنا لصاحبها بذلك فإنما نشهد له بشهادة الله تعالى، فإنَّ الله تعالى يقول: [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ] {التوبة:18} الآية.
فبعد أن بَيَّن الله سبحانه عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد الله في قوله تعالى: [مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ] {التوبة:17} أثبت عمارة المساجد للمسلمين الكاملين وجعلها مقصورة عليهم بالفعل لا بمجرد الشأن والاستحقاق، وهو الذي يَقتضيه مقام الإيجاب، وهم الجامعون بين الإيمان بالله تعالى على وجه الحق الذي بيَّنه في كتابه، من توحيده، وتنزيهه، واختصاصه بالعبادة، والاستعانة، والتوكل، والإيمان باليوم الآخر، الذي يحاسب الله تعالى فيه العباد، ويجزي كل نفس ما كسبت، وبيْن إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها وتدبُّر تلاوتها وأذكارها، التي تُكسب مُقيمها مُراقبة الله تعالى وحبَّه والخشوع له والإنابة إليه وإعطاء زكاة الأموال، وبيْن خشية الله تعالى دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر، وقوله: [فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ] {التوبة:18} أي: فأولئك الجامعون لهذه الخمسة من أركان الإيمان والإسلام، هم الذين يرجون بحق أو يرجى لهم بحسب سنن الله سبحانه في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم، أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحبُّ الله ويرضى من عمارة مساجده حساً ومعنى، واستحقاق الجزاء عليها بالجنة خالدين فيها.
فعمارة المساجد العمارة الحقيقية، بذكر الله سبحانه فيها، وإقامة الصلاة، وإحياء العلم، وغضِّ الصوت، وتجنُّب الإثم والكفر، إلى غير ذلك، تعظيماً لحقِّ المسجد، وحباً في ربِّ المسجد تعالى، إنما تكون من المؤمنين، وهذا حقٌّ لا شبهةَ فيه.
أما من كان حظُّه من المسجد النوم والراحة، أو التماس الصدقات، أو نحو ذلك من المآرب، فهذا لا يعتاد المسجد للمسجد، فلا يستحق إذن هذه الشهادة التي جاءت في الحديث.
فالغرض الأول الذي من أجله أنشئ المسجد، هو عبادة الله تعالى، ثم استخدم ليكون منتدى لجماعة المسلمين تقوى به رابطتهم، وتتوثَّق فيه صلاتهم، فيتشاورون فيما يهمهم من أمور دينهم، ويتباحثون فيما يعود بالخير على جماعتهم.
على أنَّ ذكر الله تعالى في المساجد لم يكن مقتصراً على وقت أداء الصلاة فحسب، بل هو موطن للذكر في كل الأوقات.
ولما قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة تبوك، سنة تسع، ضرب لهم قبَّة في ناحية المسجد، ليسمعوا القرآن، ويروا الناس إذا صلَّوا، فيتأثروا بقراءتهم، ويحاكوهم في صلاتهم. وهذا خير أسلوب في التربية الخلقيَّة ونشر الثقافة الدينيَّة.
ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه: (مشكل الصحيحين) أنَّ عبادة بن الصامت رضي الله عنه كان يُعَلِّم أهل الصُّفَّة الكتابة والقرآن.
تقول دائرة المعارف الإسلامية: ولعلَّ هذا هو الأصل في اتخاذ مساكن للطلبة في المدارس؛ لأنَّ المساجد القديمة كانت تحوي مساكن لهم. (وأهل الصُّفَّة هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يَأوون إلى موضع مُظلَّل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يسكنون)، وذكر الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد عن قُرَّة: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس جلس إليه أصحابه حِلَقاً حِلَقاً.
وقال أنس رضي الله عنه كان الصحابة رضي الله عنهم إذا صلوا الغداة قعدوا حِلَقاً حِلَقاً يقرأون القرآن ويتعلَّمون الفرائض والسنن.
وعن أبي مُعاوية الكندي قال: قدمتُ على عمر رضي الله عنه بالشام، فسألني عن الناس فقال: هل الرجل يدخل المسجد كالبعير النافر، فإن رأى مجلس قوم ورأى من يعرفهم جلس إليهم فقلت: لا، ولكنها مجالس شتى يجلسون فيتعلمون الخير ويذكرونه، قال: لن تزالوا بخير ما دمتم كذلك.
وروى ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من بعض حِجره، فدخل المسجد، فإذا هو بحلقتين إحداهما يقرأون ويدعون الله، والأخرى يتعلَّمون ويُعلِّمون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل على خير، هؤلاء يقرأون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم وإن شاء مَنعهم، وهؤلاء يتعلَّمون ويُعَلِّمون، وإنما بعثتُ معلماً فجلس معهم).


وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: (مجلة لواء الإسلام العدد 1، السنة 14، 1379هـ =1960م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين