بيان فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي بشأن الإعدامات التي وقعت في مصر في قضية عرب شركس


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه
(وبعد)
فإن مما تسيل له الأعين عبرات، وتذوب منه القلوب حسرات، وتصعد منه الصدور زفرات: ما يحدث في مصر، البلد الوحيد الذي ذكر في القرآن خمس مرات، ودخله أو أقام فيه أكثر من رسول. مصر بلد الأزهر، وقلعة الدعوة، ودار الثقافة الإسلامية، وقلب العروبة النابض، وحصن الإسلام الصامد، وذخيرة الأبطال: من وقائع تذهل لها العقول، وتندهش منها النفوس: ما يجري في المحاكم، وما يصدر من غرائب الأحكام، يصدرها قضاة يحكمون في قضايا الأمة الكبرى، فيقضون بالإعدام على العشرات، وعلى المئات من شرفاء أبناء مصر في قضايا ظالمة، لم يثبت أن لهم بها صلة، ولو ثبتت الصلة، فلا يمكن أن يحكم فيها بهذه الأحكام الهائلة، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها من الحق الواقع برهان.
ولابد لي أن أبين موقفي للناس، قياما بواجب العلماء، وإقامة للحجة، وإبراء للذمة.
كما قال سبحانه: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]. وليس هذا دفاعا عن حزب أو جماعة أو فصيل؛ بل هو دفاع عن المصريين كل المصريين.
لقد رأيت الشعب كله - إلا فئة قليلة فقدت رشدها- يستنكر هذا الزور ويستبشعه، ولكن هذه الفئة التي ليس لها عقل به تفكر، ولا عين بها تبصر، ولا أذن بها تسمع: تصفق لما تقوله وتفعله السلطة الظالمة، والرئاسة الطاغية، أيا كان ما تفعله، وما ترتكبه من جرائم.
وكنت أحب أن يكون موقف علماء الأزهر الشريف قويا واضحا، وأن ينتفض علماؤه انتفاضة العلماء الربانيين، لا مرتزقة السلاطين، ولا سيما أمام هذه الإعدامات الجائرة. كنت أود من المشايخ المعممين الكبار: أن يقفوا يوما .. مرة واحدة مع الحق، ويقولوا: لا. يقولونها لله .. حتى ينقذوا أنفسهم من النار، وينقذوا الأمة من الهلكة.. ولكن هيهات هيهات!
وإني لأحذر أشد التحذير من سكوت العلماء والناس، عن الدماء التي تراق بغير حق، والأرواح التي تزهق بغير جريرة : أن يغضب الله لها، فيوقع عذابه على الجميع، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال:25]. إن لعنة هذه الدماء ستصيب جميع من شارك في إراقتها، ومن حرض عليها، ومن سكت عنها ولم ينكر.
وقد علمنا صلى الله عليه وسلم، أن أفضل الجهاد " كلمة حق عند سلطان جائر " . (رواه النسائي عن طارق بن شهاب)
وقال: " إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم: فقد تُودِّع منهم". عن عبد الله عمرو. أما أن نقول للظالم: أنت المنقذ، وفيك الأمل. فهذه هي الكارثة حقا!
أريد من شعبنا المصري الأصيل: أن يعلم قيمة الإنسان الذي استخلفه الله في الأرض، وسخر له جميع ما فيها، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، كيف ينتهك هؤلاء حرمته، ويستحلون دمه.
وقد قرر القرآن مع كتب السماء {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة:32].
وإن لم يقترف الإنسان من الجرائم الكبيرة، ما يهدر دمه في شرائع الله وقوانين الناس، لم يجز لأحد من الناس – حاكما أو محكوما- أن يعتدي على نفسه أو بدنه. قال تعالى: { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء:33].
وقد شدد الإسلام في ذلك غاية التشديد في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
وقال صلى الله عليه وسلم: " لن يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دما حراما". قال ابن عمر –راوي الحديث-: إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها، سفك الدم الحرام بغير حله". (رواه البخاري).
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعا وموقوفا: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم". رواه النسائي والترمذي، ورجح الموقوف. والنصوص في هذا كثيرة.

وإنا لنعجب من قضاة يجلسون في مقام داود عليه السلام، يستهينون بأمر الدماء، ويقضون بقتل المئات، دون أن يعيشوا في القضية، ويعرفوا كل ما فيها، من ظواهرها وخوافيها، ويطمئنوا تماما إلى كل إجراءاتهم، وأن ليس فيها عبث ولا تلاعب، ولا تزوير ولا تدليس.
لم تسأل المحاكم كل واحد منهم عن ذنبه سؤالا واضحا مكررا، وتسمع دفاعه عنه، وتكرر ذلك أكثر من مرة، كما كان القضاة المحترمون يفعلون في القضايا التي يتهم فيها رجل أو اثنان، يقول المتهم ويُسمع، ويُراجع ويناقش.
وآخر القضايا قضية عرب شركس، وكيف حكم القضاة على أناس ثبت عند الناس، ممن معهم ومن حولهم: أنهم قد سجنوا: بعضهم في السنة التي قبل الواقعة، وبعضهم بأيام قبلها.
هذه أيام فاصلة في تاريخ مصر.. أيام عصيبة، تحمل في طياتها شدائد ومحنا، يُفتن فيها الناس عن دينهم الحق، وقيمهم الأصيلة، وقناعاتهم الراسخة ، هذه أيام تمحيص وابتلاء، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [الأنفال:37].
وصدق الله إذ يقول:{ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]
أجدد الدعوة لجماهير الشعب المصري كله .. للثورة على هذا الانقلاب الدموي الغاشم، الذي يقتل العباد، ويخرب البلاد.
أدعو الإسلاميين وغير الإسلاميين، بل أدعو الذين أيدوا الانقلاب في أول الأمر ثم تبين لهم حقيقته أن يرجعوا إلى الحق، وأن يضعوا أيديهم في أيدي إخوانهم، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
لتجتمع الكلمة، ولتصطف الأقدام، ولتنهض الثورة تحت شعارات ثورة يناير: العيش .. الحرية.. العدالة الاجتماعية .. الكرامة الإنسانية
{ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89].

  يوسف القرضاوي
رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين