{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ
يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً }[النساء:100]
مع
دخول العام الهجريّ الجديد (1446) تطلّ علينا ذكرى الهجرة النبويّة، بما تحمل من
حقائق ومعانٍ، لا يشبع المُؤمنون من تدبّر دروسها وعبرها، وهي تعطيهم كلّ عام
أنوارًا نبويّة مشرقة، وجرعات إيمانيّة متجدّدة، تحيي فيهم الأمل، وتجدّد الهمم..
ومهما
تكلّم الخطباء والعلماء، وكتب الكتّاب، وحلّق المُفكّرون، فيبقى المَزيدُ المَزيدُ
من المَنبع النبويّ الثرّ، يعطي ويزيد، ويمدّ الأمّة بكلّ جديد..
وأكتب
اليوم بعض الخواطر والمَعاني حولَ الهجرة، ومن واقع الآلام والمَآسي التي تعيشها
الأمّة في شتّى بقاع الأرض.. وكلّ هذه الخواطر ينتظمها هذا العنوان: "عزم
ثائر، وبشائر.. ومخاطِر".
من
وحي الآية: استبشر أيّها المُهاجر في سبيل الله بوعد الله تعالى الذي لا يُخلف: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}،
فلست طريدًا ضائعًا كما يظنّ الظالمون، بل أنت تأوي إلى ركن شديد، فأخلص النيّة
لله عزّ وجلّ، وحرّرها من كلّ هوى أو شائبة، وستجد أمامك بشائر الحقّ تترى.
والهجرة
لله تعالى فتح من الله، لا تقف في وجهه قوّة: فعندما تضيق علينا الأرض بما رحبت،
وتسدّ على الناس أبواب النصرة والعون من الناس، يفتح الله تعالى باب الهجرة لله،
وفي سبيل الله، وهو جلّ وعلا يزكّي هذا الحلّ ويعليه، ويدعو إليه، ويرغّب فيه، إذ
يقول سبحانه: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ
يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النساء:100] .
ويأمر
اللهُ به أمرًا عازمًا، ويوجبه وجوبًا مؤكّدًا، لا يسع المُسلم أن يترخّص في الأخذ
به بشيء من المَعاذير، إِلاَّ أن يكون مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ العاجزين: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي
الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا
فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ
المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ
عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:97ــ99] . والآيات من
الوضوح بما يغني عن كلّ بيان ..
على
أنّ الهجرة لم تكن إلاّ وسيلة للإعداد والاستعداد لجولة للحقّ جديدة، وصولة من
صولاته على الباطل رشيدة، وما الهجرة النبويّة عن أفهامنا وعقولنا، وواقعها
وآثارها ببعيدة عن هذا المَعنى وأبعاده وآثاره: {وَاللهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}[يوسف:21] ..
فانظر
كيف خرج نبيّنا ﷺ مهاجرًا من
مكّة، مستخفيًا طريدًا في ظاهر الأمر، وكيف عاد بعد سنين قليلة فاتحًا منتصرًا، مالكًا
لزمام الأمر في مكّة، بل في أكثر جزيرة العرب غالبًا بأمر الله جلّ وعلا من عصى أمره.؟
فالهجرة لله بحقّ، ولنصرة الحقّ لا بدّ أن يأتي بعدها الفتح من الله تعالى ..
لقد
كانت الهجرة في صورتها الظاهرة هربًا من القتل، ومحاولة وأد الدعوة في مهدها،
ولكنّها كانت في حقيقتها كسرًا لقيود التسلّط الظالم، وهيمنة الطغيان المُتحكّم،
وفتحًا في عالم المَبادئ والقيم، واتّصالًا بعالم جديد، وقوم آخرين.. يهيّئهم الله
ليكونوا محضنًا للحقّ، ملائمًا لنشأته وقيامه، ورسوخه في الأرض واستقراره، ثمّ
انسياحه فيها، لا يحدّ رحابة نوره وهداه حدود، ولا قيود..
كن
على خطى الحبيب: يكفيك أيّها المُهاجر أن تستشعر أنّك على خطى الحبيب ﷺ،
وعلى خطى مَن سبقه مِن الأنبياء والمُرسلين، الذين كانت عين الله تكلأهم، وعناية الله
ترعاهم، في كلّ خطوة يخطونها ..
والعاقبة
للمُتّقين: وكان من لطف الله تعالى وعنايته أن جعل العاقبة لهم على أعدائهم: نصرًا
وتمكينًا، وإعلاء لكلمة الله، وإذلالًا لأعدائه.. فتذكّر دائمًا: أنّك إن كنت مع
الله تعالى.. كان الله معك، ولن تقوى قوّة من قوى الأرض أن تقف في وجهك.! فعلام
الخوف من البشر.. ولا يمنعك شيء من ذلك من حسن التدبير، وإحكام الخطوات، والأخذ
بالأسباب.. وليكن شعارك في الحياة ما أطلقه بعض السلف :دينَكَ دِينَكَ.! إنّه لحمك
ودمك: إنّك إن عشت لنصرة دين الله، وجعلت خطواتك كلّها في سبيل الله فأنت في حضرة
ملك المُلوك، وعزّه ورعايته، وهو له الخلق كلّه، والأمر كلّه.. وهل يعقل أن يضام
من يكون كذلك حاله.؟!
حذار
من المُنزلقات والمَخاطر: وفي طريقك أيّها المُهاجِر لا بدّ لك من المُنزلقات
والمَخاطر، لتُمتَحن إرادتك، ويكتشف معدنك وصدقك: ففي كلّ منعطف عقبة، ومع كلّ
عقبة تحدّ للإرادة، وأنت بين إغراءات الفتنة بالدنيا المُختلفة رغبًا أو رهبًا،
وتنوّعها في كلّ منعطف من حياتك.. والعاقل السعيد من استعصم بالله تعالى، وسمع هذه
المُغريات تقول له بلسان حالها: {إِنَّمَا نَحْنُ
فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البقرة:102] .
ولحكمة
ربّانيّة عليا جاءت دعوة النبيّ ﷺ:
"اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردّهم على أعقابه".
ومن
أخوف المَخاطر أمامك وعليك أن تزلّ قدمك، وتتبدّل نيّتك، فيكون سعيك لدنيا تصيبها،
ومغانم عاجلة تقتنصها، تبرّر لنفسك أخذها بأنّها ممّا أحلّ الله تعالى، ولا تتعارض
مع أصل نيّتك وسعيك..! فاحذرها ثمّ احذرها..
وأختم هذه الخواطر بهذه النفثة الشعريّة:
نفثة
تعاطف مع هموم المُطارَد المُهاجِر
أيّها
الخلّ المُهاجِر!.
لا
تُهاجر.. لا تُغادِر..
هذهِ
الأرضُ سَواء..
ليسَ
فيها مِن مجير..
ليسَ
فيها مِن نَصير..
كلّ
مَن فيها مُطارِد ومُطارَد..
فابقَ
في أرضِكَ رابط..
واحمل
العِبءَ وجاهد..
قارِعِ
الظلمَ بعَقل..
قارِعِ
الظلمَ بفِعل..
قارِعِ
الظلمَ بصَبر ..
قارِعِ
الظلمَ بأنواع التألّق والعطاء..
قارِعِ
الظلمَ أغظه.. إنّه بعض الهراء ..
قارِعِ
الظلمَ بأخلاق الأباة الفاتحين..
إنّما
العُقبى لمَن يَهوَى المَنون ..
إنّما
الهجرةُ قَلبٌ لا يَهُون ..
إنّما
الهجرةُ رُوحٌ تَقتفي خَطوَ الأمين ..
كن
لمَن بعدك في الحقّ إمامًا..
كُن
تقيًّا، كُن رشيدًا، كُن سَلامًا..
لا
تجب وَغدًا ولا تسمع مَلامًا ..
سَوفَ
يَمضُون إلى تِيه الضياع ..
سوف
يجنون الشقا صَاعًا فصَاع ..
سَوفَ
يلقون الردى سقط المَتاع ..
لا
تَهِن.. فالوهن مأكول حرام ..
أو
ككفر بالذي خَلقَ الأنام ..
هو
مَوتٌ أو كموتات اللئام ..
أنتَ
شَبل في خطى نهج الحبيب ..
أنتَ
بالإيمان بدر لا يغيب ..
حارس
أنتَ لذيّاك العَرين ..
كن
أمينًا كن وفيًّا بالعهود
كلّما
راموك قهرًا زُلزِلُوا بين الخطوب ..
ثمّ
تاهوا بين آفات الدروب ..
فاصدق
العَهدَ وبادر ثمّ بادر ..
أيّها
الخلّ المُهاجِر .!
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول