النصوص القرآنية والنبوية في الجهاد ومنهج فهمها

النصوص القرآنية والنبوية في الجهاد ومنهج فهمها

د. يوسف عبد الله القرضاوي

 

التقديم للبحث:

إن موضوع (الجهاد في الإسلام) من أعظم الموضوعات خطرا، وأبعدها أثرا، لما له من قيمة وأهمية في الحفاظ على هوية الأمة، والدفاع عن كيانها المادي والمعنوي، وعن رسالتها التي هي مبرر وجودها وبقائها.

وبغير الجهاد يصبح حماها مستباحا، وتهون الأمة عند أعدائها، فتغزى الأمة في عقر دارها، ويتحكم أعداؤها في رقابها، فقد نزع الله من صدور عدوها المهابة منها، بعد أن كانت تنصر بالرعب على أعدائها مسيرة شهر.

ولكن من الخطر والخطل أيضا: أن يفهم الجهاد على غير وجهه، ويوضع في غير موضعه، وتستباح باسمه دماء معصومة، وأرواح بريئة، وتستحل باسمه حرمات وأموال وديار بغير حق، ويتهم بسبب ذلك المسلمون والإسلام بالعنف والإرهاب والعدوان، والإسلام بريء كل البراءة من هذا الاتهام.

ومشكلتنا في هذه القضايا الكبرى: أن الحقيقة تضيع فيها بين طرفي الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، لقد رأينا في النظر إلى موضوع الجهاد ثلاث فئات: فئة تريد أن تُهيل التراب على الجهاد، وأن تسقطه من حياة الأمة، وأن تجعل أكبر همِّها ومبلغ علمها: أن تربِّي الأمة - كما تقول - على القِيَم الروحية، والفضائل السلوكية، وتعتبر هذا هو (الجهاد الأكبر): جهاد النفس والشيطان، ويتفق على هذا الاتجاه دعاةُ التصوف السلبي الموروث من عهود التراجع والتخلف، ودعاةُ العلمانية الدخيلة، المتغرِّبون، يشاركهم عملاء الاستعمار الغربي والشرقي، من اليمين واليسار، الذين يريدون أن يجرِّدوا الأمة من أسلحتها، لتبقى عارية مكشوفة أمام أعدائها.

وفي مقابل هذه الفئة: فئة فهمت الجهاد على أنه (قتال العالم كله): مَن حارب المسلمين أو وقف في سبيل دعوتهم، أو فتن المسلمين في دينهم ... ومَن ألقى إلى المسلمين السلم، ومدَّ يد المسالمة والمصالحة للمسلمين، فلم يَشهَر في وجوههم سيفا، ولم يظاهر عليهم عدوا. فكل هؤلاء كفار تجب مقاتلتهم، وكل ما ورد من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، تدعو إلى مسالمة مَن سالمنا، أو البر والإقساط إلى مَن لم يقاتلنا في الدين، ولم يخرجنا من ديارنا، أو يظاهر على إخراجنا، ونحو ذلك: فكلها كانت آيات مرحلية، انتهى مفعولها، وأمست موجودة في المصحف خطًّا، معدومة معنًى. فقد نسختها كلها آيةٌ واحدةٌ سمَّوها (آية السيف)!

 

والفئة الثالثة، هي (الأمة الوسط)، التي هداها الله إلى الموقف الوسط، وآتاها العلم والحكمة، ورزقها البصيرة في فقه الشرع، وفقه الواقع، فلم تقع في تفريط الفئة الأولى التي تريد للأمة أن يبقى حقها بلا قوة، ومصحفها بلا سيف، وأن تبقى دارها بلا حُرَّاس، وحرماتها بلا حُماة. كما لم تقع في إفراط الفئة الثانية وغلوِّها، التي تريد أن تقاتل المسالمين، وتشنَّ الغارة على الناس أجمعين، وتعلن الحرب على الأحمر والأسود، والشرق والغرب.

فرأت أن على المسلمين ألا يقاتلوا إلا مَن يقاتلهم ويعتدي على حرماتهم: على أنفسهم أو أهليهم وأموالهم أو أرضهم، أو يقف في وجه دعوتهم ويصد دعاتها، ويعترض طريقهم، ويفتن مَن دخل في الإسلام باختياره بالأذى والعذاب ومن فعل أيا من هذه الأمور شهر المسلمون السيف في وجهه وقاوموه بالقوة، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِين * فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِين*} [البقرة:190-193]

 

أما الصنف المسالم للمسلمين فواجب المسلمين أن يبروهم ويقسطوا إليهم، كم قال تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الممتحنة:8]

تحميل الملف