الموجز في التاريخ: فتح بيت المقدس (16 هـ)

كان في فلسطين قائد رومي يدعى (الأرطبون) أي القائد الكبير الذي يلي الإمبراطور، وكان أرطبون هذا قد وزع جيشًا كبيرًا جدًا على الرملة والقدس؛ تحسبًا لأي هجوم من المسلمين، وذلك بعد هزائم الروم المتتالية أمام المسلمين، وبعد فتح عدد من مدن الشام؛ كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يستأمره بفتح بيت المقدس، فقال عمر رضي الله عنه كلمته الشهيرة: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظر عما تنفرج(1)، وكان يقصد أن كلا القائدين أدهى الرجال في قومهما.

بعد أن انتصر عمرو بن العاص رضي الله عنه على أرطبون في معركة أجنادين الثانية (15 هـ)؛ فرَّ الروم إلى بيت المقدس، فتبعهم عمرو إليها، وضرب عليهم حصارًا شديدًا، دام أربعة أشهر، وكانت المدينة حصينة ومنيعة، ما من يوم من أيام الحصار إلا وكان يجري فيه قتالٌ شديدٌ؛ حتى يئس الروم من مقاومة الحصار، فكتب أرطبون إلى عمرو بن العاص يغريه بفك الحصار والرجوع، فرد عليه عمرو قائلا: أنا صاحب فتح هذه البلاد، فأجابه أرطبون: إن صاحب فتح هذه البلاد رجل اسمه (عمر)، فعرف عمرو أن المقصود بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إلى عمر يطلب منه المجيء، فخرج عمر في مدد من الجند إلى الشام، فنزل بالجابية فخطب الناس، ثم جاءه أهل إيلياء فصالحوه على الجزية، وفتحوها له، فكتب لهم عمر رضي الله عنه كتاب أمان، منحهم فيه حرية الاعتقاد، وأمنهم على صلبانهم وكنائسهم(2)، وهو كتاب عظيم، يدل على سماحة الإسلام، وعدله مع الأمم الأخرى، وهذا نصُّ الكتاب:

"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها، وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صُلُبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يُضارَّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية، كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت (اللصوص) فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بِيَعهم وصُلُبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان؛ فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين؛ إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبى سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة"(3).

بعد ذلك دخل عمر بيت المقدس، وصلى فيه، حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر ببناء مسجد في مقدمته، أمام الصخرة، وبعد ذلك استنفر عمر رضي الله عنه الناس لنجدة أبي عبيدة بن الجراح في حمص، بعد أن أحاط به الروم ليحتلوا المدينة من جديد، فسيَّر إليه عمر رضي الله عنه الجيوش، حتى هزم الروم، ثم كان بعد ذلك فتح الجزيرة الفراتية كلها(4)، وخرج هرقل من بلاد الشام، واستقرَّ بالقسطنطينية(5)، وبهذا تنتهي فتوحات الشام زمن الخليفة الراشد: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لتبدأ بعدها فتوحات مصر وليبيا.

(1) الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 3/605.

(2) ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/55.

(3) الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 3/609.

(4) تطبق الجزيرة الفراتية على المناطق الواقعة بين نهري دجلة والفرات، شمال شرق بلاد الشام، وشمال غرب العراق، وجنوب شرق تركيا، ينظر: الحربي، عاتق بن غيث، معجم الْمَعَالِمِ الْجُغْرَافِيَّةِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ (مكة المكرمة: دار مكة للنشر والتوزيع، ط 1، 1402/1982) 1/82.

(5) الحميري، الاكتفاء، مصدر سابق، 2/250.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين