الموجز في التاريخ: عمر بن عبد العزيز

الموجز في التاريخ: عمر بن عبد العزيز

(99 – 101 هـ)

 

عبد المعين الطلفاح

يلقب عمر بن عبد العزيز بأشج بني أمية؛ ذلك أن جده َّعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول بعد رؤية رآها: "إن ولدًا من ولدي، بوجهه أثر، يملأ الأرض عدلًا"(1)، وقد أصيب عمر بن عبد العزيز في وجهه لما دخل إصطبل أبيه ينظر الخيل، فضربه فرس في وجهه فشجَّه.

     ولَّاه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، عام: (87 ه)، ثم ضم إليه الطائف، فصار بذلك واليًا على الحجاز كله، بدأ عهده في المدينة بتأسيس مجلس شورى، ضم إليه كبار فقهاء المدينة، وهم: عروة بن الزبير (ت: 93ه)، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة (ت: 98ه)، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (ت: 94ه)، وسليمان بن يسار (ت: 107ه)، والقاسم بن محمد (ت: 107ه)، وسالم بن عبد الله بن عمر (ت: 106ه)، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر (ت: 106ه)، وخارجة بن زيد بن ثابت (ت: 99ه)، وقال لهم: "إني لا أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة؛ فأحرِّج الله على من بلغ ذلك إلا أبلغني"(2)، وكان ينصح الخليفة أن يحدَّ من صلاحيات ولاته على الأمصار، لا سيما في القتل، وقد نجح في ذلك بادي الأمر.

     لـمَّا ولي الخلافة؛ بدأ عهده بخلع نفسه، ثم تولى الخلافة شورى من الناس، أعلن ذلك في أول خطبة له بعد استخلافه(3)، وبخلافته عادت روح الإسلام إلى الأمة من جديد، فقد ساس عمر الناس بالعدل، فردَّ المظالم إلى أهلها، وبدأ ذلك بنفسه؛ فخرج مما في يده من أرض ومتاع، ورده لبيت مال المسلمين، ثم ثنى ببني أمية، واسترد لبيت المال ما أخذوه منه سابقًا، ووجد منهم معارضة ثبت لها عمر حتى تلاشى أمرها، ثم أعن للأمة أن كل من له حق على أمير، أو على جماعة من بني أمية، أو لحقته منهم مظلمة؛ فليتقدم بالبينة لكي يرد عليه حقه؛ فتقدم عدد من الناس ببيناتهم، وراح عمر يردها لهم واحدة بعد الأخرى(4)، ضاربًا بذلك أسمى صور العدل وأرفعها.

     كتب عمر بن العزيز إلى الحسن البصري (ت: 110 ه) يسأله عن صفات الإمام العادل، فأجابه الحسن، وكان مما أجابه به: "الإمام العادل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله؛ فبدَّد، وشرَّد العيال؛ فأفقر أهله، وفرَّق ماله"(5)، وكان من سياسته أن عزل الولاة الظالمين، ونصَّب مكانهم الولاة العادلين، وتابع للناس البذل والعطاء، حتى فاض المال في عهده، ولم يعد يقبله أحدٌ، وقام بإصلاحات شاملة في مؤسسات الدولة كلها، كان من أعظمها تفعيل مبدأ الشورى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغيرها.

     كان لعمر بن عبد العزيز موقف حازم من الخوارج، فقد دعاهم، وسمع منهم، وناظر بعضهم، ثم قاتلهم، ولم يقاتلهم لمخالفتهم رأيه؛ بل قاتلهم بعد أن أخذوا المال، وأخافوا السبيل، وسفكوا الدماء، وكذا كان موقفه من الشيعة والقدرية، والمرجئة والجهمية، وغيرها من الفرق المنحرفة(6).

     وكانت سياسته في الفتوحات؛ إيقاف التوسع في المناطق النائية في أطراف الدولة، ومحاولة سحب القوات الإسلامية من مناطق القتال، بدأ ذلك بأمره المسلمين المحاصرين للقسطنطينية، بقيادة مسلمة بن عبد الملك بالانسحاب، والعودة إلى دمشق، وكذا عهد إلى عامله على الأندلس: السمح بن مالك الخولاني، بأن يخلي الأندلس من الإسلام؛ إشفاقًا عليهم؛ إن خشي تغلب العدو عليهم، لكن السمحَ لم يرَ ذلك، بل كتب إليه: "إن الناس قد كثروا بها، وانتشروا في أقطارها؛ فأضرب عن ذلك"(7)، وكذا كتب إلى عامله على خراسان، يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم، فأبوا ذلك؛ فكتب والي خراسان يعلمه برفضهم، فقال عمر بن عبد العزيز: "اللهم إني قضيت الذي علي، فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي فتح الله عليهم"(8).

     وكذا كان موقفه في كل الجبهات، وذلك لا يعني إلغاء المؤسسة العسكرية، التي تمتد جذورها إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف حركة الجهاد، بل كانت سياسته المرحلية تقتضي ضبط الثغور، وحدود الدولة الإسلامية، والاهتمام بفتح العقول، وإحياء نفوس الشعوب التي دخلت في الإسلام، وإرسال الدعاة إليهم، وإن حدث ما يستدعي القتال أمر به، ودعا إليه، كما فعل مع ملك الروم لما اعتدى(9).

     مات عمر بن عبد العزيز في دمشق، ودفن فيها، وذلك عام: (101 ه)، ولم يرضَ أن يدنو من المدينة المنورة، ويدفن في حجرة عائشة، التي فيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه رضي الله عنهم، وقال في ذلك: "والله لا يعذبني الله عذابًا –إلا النار فإني لا صبر بي عليها- أحب إلي من أن يعلم من قلبي أني أراني لذلك أهلاً"(10).

     مات ولم يترك لأولاده من بعده إلا بضعة دراهم، فعليه رحمات الله ورضوانه، ورحم الله رجاء بن حيوة (ت: 112 ه)، القدوة الحق للعالم المخلص لدينه وأمته، ممن يدخل على الملوك والأمراء، ويعظهم وينصحهم، فقد أحسن لأمة الإسلام؛ إذ أشار على سليمان بن عبد الملك بتولية عمر بن عبد العزيز من بعده.

الهوامش:

(1) ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم، المعارف، تحقيق: ثروت عكاشة (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2، 1992) 1/362، وينظر: ابن عبد الحكم، عبد الله بن عبد الحكم، سيرة عمر بن عبد العزيز، تحقيق: أحمد عبيد (بيروت: عالم الكتب، ط 6، 1404/1984) ص: 24.

(2) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 6/427، وينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 4/9، وينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 9/21.

(3) وينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 9/221، وينظر: الآجري، محمد بن الحسين، أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز، تحقيق: عبد الله عبد الرحيم (بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1980/1400) 56.

(4) ينظر الصلابي، الدولة الأموية، مصدر سابق، 2/127 وما بعدها.

(5) ينظر إجابة الحسن البصري لكتاب عمر: الشيح، عبد الستار الشيخ، عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين (دمشق: دار القلم، ط 2، 1417/1996) ص: 224.

(6) ينظر الصلابي، الدولة الأموية، مصدر سابق، 2/191 وما بعدها.

(7) ينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 5/74، وينظر: ابن عذاري، البيان المغرب، مصدر سابق، 2/26.

(8) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 6/568.

(9) الصلابي، الدولة الأموية، مصدر سابق، 2/300.

(10) ابن سعد، الطبقات، مصدر سابق، 5/316.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين