الموجز في التاريخ: الفتوحات الإسلامية زمن معاوية رضي الله عنه

لم تكن الفتوحات زمن معاوية رضي الله عنه، والأمويين من بعده؛ تختلف في طابعها ومحركها، عن الفتوحات زمن الخلفاء الراشدين قبلهم، ولم يكن محرِّكُ هذا التوسع الكبير في الأرض دوافعُ اقتصادية، كما روَّج ويروِّج لذلك البعض؛ بل كانت فتوحاتهم إسلاميةُ الطابع والمحرك، هدفها: هداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتعزيزٌ لمنجزات الموجة الأولى من حركة الفتوحات، التي بدأها الخلفاء الراشدون، وخططوا لها، وقد سطَّر المجاهدون المسلمون في العهد الأموي صورًا رائعة من التضحية والبطولة، وإخلاص النية لله، القادة منهم والجنود في ذلك سواء.

وقد حاول ملك الروم استغلال الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، وطمع في ضم بعض الأراضي الإسلامية إليه؛ فرد عليه معاوية قائلًا: "والله لئن لم تنته، وترجع إلى بلادك يا لعين؛ لأصطلحنَّ أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقنَّ عليك الأرض بما رحبت"(1)، فعند ذلك خاف ملك الروم، وانكف، وبعث يطلب الهدنة.

الفتوحات في الأراضي البيزنطية

غزو القسطنطينية من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم»(2)، وقال صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»(3)، ولقد أدرك معاوية رضي الله عنه بنظرته الثاقبة؛ أن الفُرس لم تقمْ لهم قائمة بعد سقوط عاصمتهم: (المدائن) بأيدي المسلمين؛ لذا عزم -لإسقاط الدولة البيزنطية- على الاستيلاء على عاصمتها القسطنطينية؛ للتخلص من خطرها، الذي ظلَّ قويًا، في كلٍّ من آسيا الصغرى، وشمال إفريقيا وأروبا، رغم سقوط أهم أقليمين منها بأيدي المسلمين: الشام ومصر، وسار رضي الله عنه لتحقيق هذا الهدف في عدِّة اتجاهات، من أهمها: الاهتمامُ بدُور صناعة السفن، في مصر والشام، وقد اختار لذلك أمهر الصناع وأحذقهم، وأغدق عليهم الأجور والهبات الكثيرة، وتقويةُ الثغور البحرية، في مصر والشام، وشحنها بالمرابطين، والاستيلاءُ على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط، كقبرص وردوس، وغيرهما.

ثم أخذ رضي الله عنه يرسل قواتِه إلى الأراضي البيزنطية، صيفًا وشتاءً؛ لتمهيد الطريق للوصول إلى القسطنطينية، وكان من أبرز قادة تلك الحملات: مالك بن هبيرة السكوني، وعبد الله بن كرز البجلي، وفضالة بن عبيد الليثي، وسفيان بن عوف العامري، وغيرهم، وقد استطاع المسلمون عام: (49 ه) بقيادة: فضالة بن عبيد الليثي، أن يفرضوا حصارًا على القسطنطينية؛ لكن انتشار مرض الجدري بين المسلمين، والشتاء القارص؛ جعل ظروف الجيش صعبة؛ فاستنجد فضالة بمعاوية طالبًا المدد؛ فأمده معاوية بقوات تضم عددًا من الصحابة، منهم: ابن عمر، وابن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو أيوب الأنصاري، إضافة للقائد العام لهذه القوات: يزيد بن معاوية.

ولم تستطع هذه الحملة أن تغير من الواقع شيئًا، ورجع الجيش، ولم يستطع دخول القسطنطينية، وقد مات في هذه الحملة: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ودفن على أبواب القسطنطينية، وبعد ذلك أعدَّ معاوية رضي الله عنه أسطولًا قويًا، وأرسله إلى القسطنطينية، وظل الأسطول محاصرًا لها منذ عام: (54 ه) وحتى عام: (60 ه)، ومع ذلك لم يستطع دخولها، لعدة أسباب، بل لقد تكبد الجيش المسلم خسائر كبيرة، وانتهى الحصار بعقد صلح بين معاوية رضي الله عنه والإمبراطور البيزنطي، رفع بموجبه الجيشُ المسلم الحصار عن القسطنطينية، وعاد إلى بلاد الشام(4).

الهوامش:

(1) ينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 8/127.

(2) البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق، 2924.

(3) أحمد، المسند، مصدر سابق، 18957.

(4) ينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 11/515، 5/232، وينظر: ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 3/56، وينظر: خياط، خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق: أكرم ضياء العمري (دمشق: دار القلم، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط 2، 1397، 1/211، وينظر: أبو عُبيَّة، طه عبد المقصود، موجز عن الفتوحات الإسلامية (القاهرة: دار النشر للجامعات، د. ط، د. ت) 1/34.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين