الموجز في التاريخ: الفتوحات الإسلامية زمن عثمان رضي الله عنه

شجع خبر مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلَّاً من الفرس والروم؛ على الطمع في استرداد ملكهم، فأخذ يزدجرد يجمع الفرس حوله لذلك، وكذا فعل الروم، حيث تجمعوا وأخذوا يبحثون عن وسيلة يستردون بها الإسكندرية، وأجلبوا على المسلمين في الشام بجموع عظيمة؛ فواجه عثمان رضي الله عنه ذلك كله بحزم وعزم، فأخضع المتمردين من الفرس، وأعاد سلطان الإسلام إلى بلادهم، واستمر بالفتوحات فيما وراء تلك البلاد؛ حتى قطع الإمدادات عنهم، وبنى فيها قواعد ثابتة للرباط، شحنها بالمقاتلين، وكان من أعظم قادته في فتوحات المشرق: الأحنفُ بن قيس، وعبد الله بن عامر، وغيرهم.

الجبهة الشامية

أحبط عثمان رضي الله عنه مخططات الروم في الشام، وتصدى لهجماتهم على المسلمين فيها، وكان من أعظم قادته على الجبهة الشامية: حبيب بن مسلمة الفهري، الذي أباد جيوشًا كاملة للروم، وتوغَّل في أرمينية في الأراضي البيزنطية، وفتح حصونًا ومدنًا كثيرة [الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/248]، وكان من أعظم ما فعله عثمان رضي الله عنه على الجبهة الشامية؛ بناؤه الأسطول البحريَّ، الذي أضفى على دولة الإسلام في زمنه قوةً فوق قوتها، ولعلَّ هذا من أعظم ما يميز الفتوحات الإسلامية زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه.

لقد كان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه واليًا على الشام زمن الخليفة عمر رضي الله عنه، وكان يلح على عمر رضي الله عنه في غزو البحر، حتى إذا ما أكثر عليه معاوية؛ طلب عمر رضي الله عنه من عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يصف له البحر، ولما قرأ عمر رضي الله عنه وصف عمرو بن العاص للبحر؛ كتب إلى معاوية: أن لا، والذي بعث محمدًا بالحق لا أحمل عليه مسلمًا، ولكن هذه الفكرة لم تبرح معاوية، فقد كان يطمع في فتح بلاد الروم، حتى إذا ما تولى عثمان رضي الله عنه الخلافة بعد الفاروق؛ كتب إليه معاوية بذلك، وألحَّ عليه أن يركب البحر لفتح قبرص؛ فأجابه عثمان رضي الله عنه: فإن ركبت معك امرأتك فاركبه، وإلا فلا، واشترط عليه ألا يكره أحدًا من المسلمين على ذلك [المصدر السابق، 4/257، وينظر: البلاذي، أحمد بن يحيى، فتوح البلدان (بيروت: دار ومكتبة الهلال، 1988) 1/130 -153].

أخذ معاوية رضي الله عنه يعد العدة لذلك، وأمر بإصلاح المراكب، وتقريبها من حصن عكا الذي رممه لذلك، فاجتمع المسلمون بأعدادٍ كبيرة مع معاوية، وركبوا معه البحر إلى قبرص، ثم نزلوا على ساحلها، وأرسلوا إلى أهلها أنهم لا يريدون الاستيلاء على جزيرتهم، إنما يريدون دعوتهم للإسلام، ثم تأمين حدود الدولة الإسلامية بالشام؛ لأن الروم كانوا يتخذون من قبرص محطة يستريحون بها، ويتقوون فيها على غزو المسلمين، لكن أهل الجزيرة لم يستسلموا للمسلمين، ولم يخرجوا لقتالهم، بل تحصنوا فيها، وجعلوا ينتظرون المدد من الروم، فحاصرهم المسلمون ساعات، ثم ما لبثوا أن طلبوا الصلح مع المسلمين، واشترط عليهم المسلمون ألا يعينوا الروم عليهم [ابن كثير، البداية والنهاية، مصدر سابق، 7/172، البلاذي، فتوح البلاد، مصدر سابق، 1/154].

في سنة (32 هـ) نقض أهلُ قبرص العهد مع المسلمين، وأقدموا على إمداد جيش الروم بالسفن؛ ليغزوا بها بلاد المسلمين، فعزم معاوية على الاستيلاء عليها، وتم له ذلك، بعد أن أنزل بهم المسلمون مقتلةً عظيمةً، وسبوا منهم سبيًا كبيرًا، حتى اضطر حاكمهم أن يطلب الصلح مع المسلمين، فأقرهم معاوية على صلحهم الأول، وجعل في الجزيرة جيشًا يحميها من غارات الأعداء.

كان معاوية رضي الله عنه قد جعل عبدَ الله بن قيس على قيادة الأسطول البحري، فغزا عبد الله خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البر والبحر، لم يغرق من جنده أحد، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية في جنده، حتى قتل شهيدًا [ابن الأثير: الكامل في التاريخ، مصدر سابق، 2/470]، ثم في خلافة معاوية رضي الله عنه تطور أسطول المسلمين البحري تطورًا عظيمًا.

الجبهة المصرية

كان عثمان رضي الله عنه قد عزل عمرو بن العاص رضي الله عنه عن ولاية مصر، وولى عليها عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنهم، وكان الروم يتحينون الفرصة لاسترداد الإسكندرية، وإخراج المسلمين منها؛ مستغلين قلة عدد المسلمين فيها؛ ولما وصلت قواتهم شواطئ الإسكندرية؛ كتب أهل مصر إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يعيد عمرو بن العاص أميرًا على مصر؛ ليقاتل الروم؛ لأنه أعلم بحربهم، وله هيبة في نفوسهم؛ فلبى عثمان رضي الله عنه طلبهم، وأعاد عمرو بن العاص على مصر، وكان من سياسة عمرو رضي الله عنه أن ترك الروم يدخلون الإسكندرية، ويعيثون فيها نهبًا ودمارًا؛ ليُشعر المصريين -القبط- بالفرق الهائل بين دخول المسلمين أرضهم، ودخول الروم، وليملأ قلوبهم حقدًا وغضبًا على الروم، فلا يعودون يحبونهم.

سار الروم بعد استيلائهم على الإسكندرية إلى مصر السفلى، وتركهم عمرو رضي الله عنه ينهبون ما في طريقهم، ويهدمون الحصون والأبنية، ولقي منهم أهل مصر الويلات؛ حتى التقى بهم رضي الله عنه عند حصن نقيوس [نقيوس: قرية بين الفسطاط والإسكندرية، كانت بها وقعة لعمرو بن العاص والروم لما نقضوا، ينظر: الحموي، معجم البلدان، مصدر سابق، ص: 5/303]، على شاطئ النيل، وهناك دارت بين الجيشين معركة عظيمة، هزم اللهُ فيها الرومَ هزيمة منكرة، وسار بعدها عمرو رضي الله عنه إلى الإسكندرية فحاصرها، وضربها بالمنجنيق؛ حتى تصدَّعت أسوارها، وضعف أهلها عن الدفاع عنها، ثم دخلها المسلمون فاتحين، وجاء بعدها أهل مصر إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه، يشكرونه على تخليصهم من الروم، ويعلنون ولاءهم له وطاعتهم، ويدفعون له الجزية طائعين، وذلك عام: (25 ه)، ولم يجرؤ بعد ذلك الروم على مهاجمة الإسكندرية [ابن الأثير، الكامل في التاريخ، مصدر سابق، 2/455، وينظر: ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، مصدر سابق، 1/202.].

شمال إفريقية.

عمل عبد الله بن أبي السرح على إكمال فتوحات عمرو بن العاص رضي الله عنهم في إفريقية؛ فجهَّز حملة عسكرية لذلك، انضم إليها عدد من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخيرة شباب آل البيت، كالحسن والحسين، وابن عباس وابن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، وانضمت إلى هذه الحملة قوات نافع بن عقبة، وسارت الحملة حتى وصلت سبيطلة [مدينة من مدن إفريقية، بينها وبين القيروان سبعون ميلا، ينظر: الحموي، معجم البلدان، مصدر سابق، ص: 3/187]، وهناك التقت بجيش جرجير حاكم إفريقية، ودارت بين الجيشين معارك عظيمة، استمرت عدة أيام؛ حتى جاء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، فأشار على المسلمين بتغيير طريقة القتال، واستطاع رضي الله عنه بشجاعته ودهائه قتل جرجير قائد جيش الروم، وما إن قتله حتى ضعف جنده، فولَّوا هاربين، فتبعهم المسلمون، وأوقعوا فيهم مقتلة عظيمة، ثم دخلوا مدينة سبيطلة، وغنموا في هذه المعركة من الأموال ما لم يكن في غيرها، وأصبح بذلك الساحل الجنوبي للبحر المتوسط من ردوس وحتى برقة تحت سيطرة المسلمين [ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، عبد الرحمن بن علي، تحقيق: محمد عبد القادر، وغيره (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1412/1992) 4/344، وينظر: المراكش، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان، إِ. ليفي بروفنسال (بيروت: دار الثقافة، ط 3، 1983) 1/10].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين