الموجز في التاريخ: الفتنة ومقتل عثمان رضي الله عنه

ولي عثمان رضي الله عنه الخلافةَ بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه، ولمن تحت يده، وكان رضي الله عنه قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذنه، ولأجل محدد، وكان عثمان رضي الله عنه ألين منه طبعًا، وأرق معاملةً، ولم يكن يأخذ نفسه، أو الناس بما كان يأخذهم به عمر رضي الله عنه، بل كان يقول عن نفسه: "يرحم الله عمر، ومن يطيق ما كان عمر يطيق" [الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/401]، ولما ولي الخلافة رضي الله عنه أذن لمن شاء بالخروج؛ لذا كان أحب إليهم من عمر رضي الله عنهم، بل لقد أصبحت محبته مضرب المثل عند الناس، ودامت خلافته اثنتي عشرة سنة.

إرهاصات الفتنة

في الشطر الثاني من خلافته رضي الله عنه؛ أخذ بعض الناس ينكرون عليه بعض أفعاله واجتهاداته، ومما كانوا يذكرونه: تغيبه عن بعض الغزوات والمواقع مع رسول الله ، وفراره في معركة أحد، وسياسته المالية في المنح والأعطيات، وسياسته الإدارية في تولية بعض أقربائه، واجتهاداته الفقهية الخاصة، كإتمامه الصلاة بمنى، ومواقفه مع بعض الصحابة كأبي ذر، وعمار بن ياسر، وابن مسعود رضي الله عنهم، وكان رضي الله عنه قد بين للناس موقفه مما نسب إليه، حتى بان افتراء الغوغاء وتضليلهم، وأشار عليه المسلمون بقتلهم؛ لكنه أبى ذلك، وقال: بل نعفو ونقبل [ينظر: التميمي، سيف بن عمر، الفتنة ووقعة الجمل، تحقيق: أحمد راتب (عمان: دار النفائس، ط 7، 1413/1993) 1/55، وينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/346].

فتنة عبد الله بن سبأ

في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه حدثت فتنة أدت إلى قتله، تولى كبرها ابن السوداء: عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي ادعى الإسلام، وجاء بآراء ومعتقدات من يهوديته الحاقدة، وأخذ يروجها بين الناس؛ للنيل من وحدة المجتمع المسلم، وإذكاءً للفتنة فيه، فالتف حوله رهط من أعراب الأمصار وغوغائها، ممن كان لهم سابقة في انتقاد عثمان رضي الله عنه، والطعن فيه، ومن تلك المعتقدات قوله بأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أولى بالرجعة من عيسى بن مريم ، وكان يستدل على ذلك بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85]، وقوله: إن لكل نبي وصيَّاً، وإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنى على ذلك قوله: إن عليَّاً أولى بالخلافة من عثمان، وإن عثمان قد اغتصبها منه، وأخذ يكتب بذلك إلى أتباعه في الأمصار، ويزور الكتب، ويضعها باسم الصحابة أو الولاة؛ فلقيت دعوته قبولًا ورواجًا في بعض الأمصار؛ ولا سيما في مصر، التي جعلها مرتعًا لدعوته، ومنها كان ينظم حملته ضد عثمان رضي الله عنه().

وقد قدم رهط من الأعراب إلى المدينة المنورة، ممن تأثروا بآراء ابن سبأ وأضاليله، واجتمعوا بالصحابة الذين وردتهم كتب بأسمائهم؛ فلم يجدوا منهم تشجيعًا، بل لقد تبرأ أولئك الصحابة مما نسب إليهم من رسائل على لسان ابن سبأ، تؤلب الناس على عثمان، ووجد أولئك الأعراب عثمانَ رضي الله عنه مقدرًا للحقوق، بل لقد ناظرهم عثمان رضي الله عنه فيما نسبوا إليه، ورد على افتراءاتهم، وفسر لهم صدق أعماله؛ حتى قال أحدهم -وهو مالك بن الأشتر النخعي-: لعله مُكر به وبكم، وأدرك عثمان رضي الله عنه أن شيئًا ما يحاك في الأمصار، وأنَّ الأمة تمخض بشر فقال رضي الله عنه: والله إنَّ رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرِّكْها()، لكن ابن سبأ استمرَّ في حبك مخططه التدميري، وأخذ يتنقَّل في الأمصار التي وجد له فيها أتباعًا، كمصر والبصرة والكوفة، والمدينة المنورة، وبدأ أعماله الشيطانية سنة ثلاثين للهجرة.

بدأت أعمال ابن سبأ الشيطانية في الكوفة، عندما نجح الموتورون فيها بإزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة؛ بعد أن أقام عليه عثمان رضي الله عنه حدَّ شرب الخمر [البخاري، صحيح البخاري، مصدر سابق، 5/14]، وعيَّن مكانه سعيدَ بن العاص واليًا عليها، الذي استطاع كشف مخططاتهم، ومعرفة مرادهم وتوجهاتهم، فكتب إلى عثمان رضي الله عنه، يخبره بتعمق الفتنة في الكوفة، وسيطرة الرعاع والغوغاء وأجلاف العرب على الرأي فيها، فرد عليه عثمان رضي الله عنه أن يعيد ترتيب أوضاع الكوفة، ويقدم أهل السابقة والجهاد على غيرهم؛ ممن فتح الله على أيديهم تلك البلاد؛ فغاض ذلك الغوغاء أكثر، وفشت فيهم القالة؛ فأخذوا يعيبون ذلك على الخليفة والوالي، ويعتبرونه تمييزًا، وإقصاءً لهم [ابن الأثير، الكامل، مصدر سابق، 2/480، وينظر: الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/281]، ولكنَّ عامة الناس في الكوفة رفضوا كلامهم وردوه.

لم يستسلم أولئك الموتورون لتصدي سعيد لهم في الكوفة، ورفْضِ عامة الناس لهم، بل نظموا (جمعية سرية) بينهم وبين أتباعهم في الأمصار، وأشار عليهم ابن سبأ أن يبدؤوا في تحركهم ضد الدولة، ويعملوا على عزل الخليفة، والطعن في الولاة الذين يعينهم الخليفة، ويظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار يكتب هو وأعضاء جمعيته إلى أتباعهم في الأمصار زورًا وكذبًا عن ظلم الأمراء، وتسلطهم على الناس، حتى أفسدوا المسلمين ومزقوا كلمتهم، وزعزعوا أُخوَّتهم ووحدتهم.

توجه ابن سبأ إلى الشام ليبث أفكاره فيها، فلم يجد له فيها أتباعًا، كما وجد في غيره من الأمصار؛ فقد كان له معاوية رضي الله عنه بالمرصاد، ولما جاء البصرة نزل عند اللص: حكيم بن جبلة، الذي أمر عثمان بحبسه لإفساده في الأرض، وقد جاء حكيم بأمثاله من اللصوص، وجمعهم بابن سبأ، الذي استطاع تجنيدهم في جمعيته السرية، ولما شعر والي البصرة: عبد الله بن عامر بابن سبأ؛ أخرجه منها، فجاء ابن سبأ الكوفة [الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق، 4/326]، والتقى بالغوغاء، الذين أخَّرهم واليها: سعيد بن العاص، وقدَّم عليهم أهل السابقة والجهاد؛ فعشعش ابن سبأ بينهم وأفسد، وباض وفرَّخ؛ حتى كانوا أول من بدأ هذه الفتنة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين