عاب الحاقدون على عثمان رضي الله عنه عدة أمور، كان من تلك الأمور ما ذكروا من محاباته رضي الله عنه أقاربه من بني أمية في المناصب والأعطيات، وبعد البحث في أخبار ولاة عثمان رضي الله عنه؛ نجد أنه كان قد استعمل ستة وعشرين واليًا على الأمصار، منهم خمسة من بني أمية، ولما توفي رضي الله عنه لم يكن من بني أمية من الولاة سوى ثلاثة، هم: معاوية بن أبي سفيان، والي بلاد الشام، وعبد الله بن أبي السرح، والي مصر، وعبد الله بن عامر، والي البصرة، رضي الله عنهم، وكان عثمان ُقد عزل عن الكوفة كلاً من الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص.
فلا غرابة ولا عجب أن يكون من بين الستة والعشرين واليًا خمسةٌ من بني أمية الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستعملهم، وكذا استعملهم بعده الشيخان رضي الله عنهم؛ وذلك لكثرتهم، ولما فيهم من شرف وسؤدد، وليس استعمال عثمان رضي الله عنه لهم محاباة منه لهم [ابن العربي، العواصم من القواصم، مصدر سابق، 1/80]، وقد أثبت جميعهم الكفاية والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان، وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان.
حقيقة العلاقة بين عثمان وأبي ذر رضي الله عنهم
مما أثاره الحاقدون على عثمان رضي الله عنه قولهم إنه نفى أبا ذر رضي الله عنه إلى الربذة [الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أيّام، قريبة من ذات عرق، على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكّة، الحموي، معجم البلدان، مصدر سابق، ص: 3/24]، ولم يصحَّ شيء من ذلك البتة؛ ذلك أن أبا ذر رضي الله عنه كان نازلاً في الشام، وكان واليها آنذاك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم؛ فاختلف معه أبو ذر رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] فقال معاوية رضي الله عنه: نزلت في أهل الكتاب، وقال أبو ذر رضي الله عنه نزلت فينا وفيهم، وكان رضي الله عنه يرى أن الوعيد يتناول كلَّ من كنز المال؛ بناء على فهمه لبعض الأحاديث، مخالفًا بذلك جمهور الصحابة رضي الله عنهم في تفسيرها، الذين كانوا يرون أن الآية إنما تتوعد من كنز المال ولم يخرج زكاته فقط.
شكى معاوية أبا ذر إلى عثمان رضي الله عنهم؛ فكتب عثمان إلى أبي ذر أن يقدم إلى المدينة، فلما قدم سأله عن رأيه في الآية، فقال له ما قاله لمعاوية، وأخذ الناس يجتمعون حول أبي ذر رضي الله عنه، ويسألونه عن سبب مجيئه؛ فاستأذن عثمانَ أن ينزل في الربذة، فقال له عثمان: إنما أرسلنا إليك لتجاورنا بالمدينة، فقال: لا حاجة لي في ذلك، ائذن لي بالربذة، قال: نعم، فلم ينفِ معاوية أبا ذر من الشام، ولم ينفهِ عثمان من المدينة، بل إنما ذهب إليها أبو ذرٍ رضي الله عنه طائعًا مختارًا [ابن العربي، العواصم من القواصم، مصدر سابق، 1/73.]، وقد كان ينزل بها منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل إن زوجة أبي ذر رضي الله عنه قد بيَّنت السبب الحقيقي في خروجه رضي الله عنه من المدينة، ونزوله الربذة؛ فعن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه قال: قالت أم ذر: والله ما سيَّر عثمان أبا ذر، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بلغ البنيان سلعًا فاخرج منها» قالت: فلما بلغ البنيان سلعًا وجاوز خرج أبو ذر[الحاكم، محمد بن عبد الله، المستدرك على الصحيحين، تحقيق: مصطفى عبد القادر (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1411/1990) 3/387، قال الألباني: ضعيف، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (الرياض: دار المعارف، ط 1، 1412/1992) 12/489].
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في أبي ذر رضي الله عنه: «رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده ويبعث وحده»، ولما حضرته الوفاة في الربذة أوصى امرأته وغلامه: إذا مت فاغسلاني وكفناني، ثم احملاني وضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا هذا أبو ذر، فلما مات فعلوا به كذلك، فطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره؛ فإذا ابن مسعود رضي الله عنه في رهط من أهل الكوفة، فقال: ما هذا؟ فقيل: جنازة أبي ذر رضي الله عنه، فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده»، فغسلوه وكفنوه، وصلوا عليه ودفنوه، وضم بعد ذلك عثمان عيالَ أبي ذر إلى عياله رضي الله عنهم.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول