العلاقة
المثلى بين المهاجرين والأنصار تقوم على العرفان المتبادل، وعدم غمط الناس وبطر
الحقّ والنكران، فلكل من جناحي العلاقة مسؤولياته وإسهاماته، ولكل حقوقه واحترامه.
العرفان
سلوك اجتماعي مكتسب، نتربى فيه على أننا جزء من كل، وفضاء حريتنا يمتد ما امتد
إليه طموح كرامتنا تحت سقف حدود الله فلا نعتديها، وحرية كل مرعية ضمن تراتبية أن
المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وحرية كلٍ تنتهي عندما تبدأ حرية أخيه،
والمساحات المتقاطعة في هذه الحقوق تحكمها موازنات التدافع بالتي هي أحسن.
يتأسس
هذا على أن تكون الهجرة لله، والنصرة لله، فالنية مقدّمة على العمل، فمن كانت
هجرته لله، فهجرته إلى ما هاجر إليه، فهو يهاجر في أرض الله الواسعة، لا يستسلم
لاستضعافه، ولا يبرر به ركونه للذين ظلموا، بل يخرج من بيته مهاجرا في سبيل الله
ليجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة، مراغما يرغم به أنف من يستضعفونه ويذلونه، وسعة
يوسّع الله عليه ما أراد من يستضعفونه إذلاله وحصاره بها، استخفافا بحقوقه وكرامته
التي كرّمه الله بها.. والله ضامن له
بهجرته، ووقع أجره على مولاه. وأولئك هم الصادقون.
ومن
ينصر المهاجر فهو ينصر الله، وأولئك هم المفلحون.
في
سبيل الله تشمل كل ما يرضى الله عنه ولا يخالف أمره من أسباب الهجرة المشروعة
للسعي في طلب الحلال والسعة (الحرية والكرامة)، أو الامتناع عن الحرام من ظلم وأذى
وتضييق واستخفاف وإهانة ومعصية، مصداق ذلك ما جاء في الحديث الصحيح عن الرجل الذي رجا
الصحابة أن يكون سعيه في سبيل الله، فقال الرسول ﷺ:
(إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله وإن
كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها
فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).
فما
دمت تسعى في حلال وحق وكرامة وسعة فأنت في سبيل الله، وما دمت تنصر حقوق
المستضعفين وكرامتهم، ولا تجد في نفسك حاجة مما أوتوا، وتؤثر على نفسك ولو كان بك
خصاصة فأنت تنصر الله لنصرك المهاجرين في سبيل الله..
فإن
تخلّفت النوايا، وما ثمة سبيل لله يرعى فما ثمّة إلا سبيل الشيطان يحضر حيث غاب
اسم الله، وما ثمة إلا الرياء والمفاخرة والتكاثر والعنصرية والكبر والجحود
والتنمّر وبغي الإنسان على أخيه الإنسان، ولو أقمنا الوزن بالقسط ولم نخسر
الميزان، وكان شرع الله ضابطنا وميزاننا السنّة والقرآن،
وكنا
أمة يهدون بالحقّ وبه كانوا يعدلون، ولم يكونوا مطففين يستوفون إذا اكتالوا، ولا
يخسرون إذا كالوا!
وما
أروع من ذلك العرفان الذي لم يجحد فيه مهاجر للأنصار فضلهم، ولا ظلم نفسه ليجامل
من ضيّفوه وآووه ونصروه، اسمعوا له ﷺ
في خطبته حين وجد الأنصار من قسمته، وما خصّ به بعض قومه، (فحمِدَ اللهَ وأثنَى علَيهِ بما هوَ أهلُهُ، ثمَّ قالَ: يا معشرَ الأنصارِ،
ألَم آتِكُم ضُلَّالًا فهداكُم اللهُ، وعالةً فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألَّفَ اللهُ
بينَ قلوبِكُم؟ قالوا: بلَى، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونَ يا
معشرَ الأنصارِ؟ قالوا: وما نقولُ يا رسولَ اللهِ وبماذا نُجيبُكَ؟ المَنُّ للهِ ورسولِهِ،
قالَ: واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم: جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ،
وعائلًا فآسَيناكَ، وخائفًا فأمَّنَّاكَ، ومَخذولًا فنصَرناكَ )...
هذا
العرفان الذي يجعلنا ندرك ما لنا وما علينا، فضل غيرنا وقيمة أنفسنا، هو عنوان
علاقة متوازنة سليمة لتعايش حقيقي في مجتمع متنوّع الثقافات.
وبدعاء
النبي ﷺ
أختم داعيا:
اللَّهُمَّ
ارْحَمِ الأنْصارَ، وأبْناءَ الأنْصارِ، وأبْناءَ أبْناءِ الأنْصارِ
وتقبّل
من المهاجرين في كل زمان ومكان هجرتهم، واجعلها في سبيلك، واكتب أجورهم، واكتبنا
في صحيفتهم واجعلهم في ضمانك، وآوهم وانصرهم، وردّهم إلى ديارهم ردّا عزيزا
كريما..
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول