الملأ: مؤسسة الحكم في القرآن الكريم

من الشائع أن اليونان القديمة هي مهد النظام الديمقراطي الذي نشأ في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان يقوم على مشاركة الشعب في صنع القرارات السياسية من خلال الاجتماعات العامة والتصويت، وهذا يوحي ضمنًا بأن أنظمة الحكم في سائر الأمم كانت أنظمة استبدادية تقوم على حكم الفرد الذي لا شريك له، لكن هل كانت أنظمة الحكم فعلا استبدادية في سائر الأمم في الأزمنة القديمة؟

إننا إذا طالعنا قصص الأمم السابقة في القرآن الكريم، ونظرنا في أحوال الرسل مع أقوامهم، سنعثر على إشارات إلى أنظمة الحكم السائدة آنذاك، وهي إشارات تجعل المتأمل يقطع بأن أنظمة الحكم لدى هذه الأمم لم تكن أنظمة استبدادية تجمع السلطة المطلقة في يد حاكم واحد، بل سنجد - في بعض الأحيان - مؤسسات للحكم يمثل الحاكم فيها رأس السلطة، وفي أحيان أخرى سنجد أن مؤسسات الحكم لا رأس لها، بل يصدر الحكم فيها بالتشاور، وربما كان أفراد هذه المؤسسة رؤوسًا لأنظمة صغرى تمثل لبنات للنظام العام.

إن أعضاء هذه المؤسسة هم الذين يسميهم القرآن (الملأ)، وهم أشراف الناس ورؤساؤهم ومقدَّموهم الذين يُرجع إلى قولهم([1])، وسموا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة، والعيون جلالة([2])، أو لأنهم يجتمعون على رأي فيملؤون العيون رواء ومنظرا، والنفوس بهاء وجلالا([3]).

وهؤلاء الملأ هم الذين يصدر الملك/ رأس السلطة عن رأيهم، ولا يستبد برأيه دونهم، ونرى ذلك جليًّا في قول ملكة سبأ حين جاءها كتاب سليمان عليه السلام: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 32، 33].

فقولها: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} ينفي استبداد رأس السلطة باتخاذ القرارات، وقولهم: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} يجعل الكلمة الفصل لرأس السلطة بعد استعراض الآراء، ويوحي كذلك بأن الشورى لم تكن ملزمة للحاكم، وإنما يختار من أقوال معاونيه وآرائهم ما يراه مناسبًا.

ومما يؤكد وجود الشورى في هذه الأنظمة القديمة قول الرجل الذي نصح لموسى عليه السلام بالخروج: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20].

فقد فُسِّر قوله (يأتمرون) على وجهين: أحدهما: يهمون بك، والآخر: يتشاورون فيك([4])، وائتمر القوم: إذا تشاوروا([5]).

قال الطبري: "قال الرجل الذي جاءه من أقصى المدينة يسعى لموسى: يا موسى إن أشراف قوم فرعون ورؤساءهم يتآمرون بقتلك، ويتشاورون ويرتؤون فيك"([6])، واستشهد الطبري على معنى الارتياء والهمّ بقول الشاعر:

مَا تَأْتَمِرْ فِينَا فَأَمْـ

(م)

ـرُكَ فِي يَمِينِكَ أَوْ شِمَالِكْ

واستشهد على معنى التشاور بقول النمر بن تولب:

أَرَى النَّاسَ قَدْ أَحْدَثُوا شِيمَةً

 

وَفِي كُلِّ حَادِثَةٍ يُؤْتَمَرْ

وما يؤكد أن الشعوب القديمة كانت ترفض استبداد الحاكم بالرأي دون مشورة، قول ثمود لصالح عليه السلام: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24].

فقولهم {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} يوحي بأنهم لم يكونوا ينقادون لشخص واحد ينفرد دونهم بالرأي والحكم، وأن تدبير شؤون الجماعة وأمورهم كان موكولا إلى جماعة من أولي الرأي والمشورة؛ ولذلك استنكروا أن يكونوا تابعين لصالح عليه السلام وحده، ورأوا أن انقياد الجماعة لرأي شخص واحد مجانبة للصواب وضلال عن القصد والاستقامة([7])، وهو معنى قولهم {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ}.

وفسرت كلمة (سُعُر) على وجهين، الأول: العناء والعذاب، وهو قول قتادة([8]) والفراء([9])، وفي ذلك بيان لعاقبة الاستبداد من إذلال الرعية واستعبادهم([10]).

والثاني: الجنون([11])، وعلى هذا يكون كلامهم امتدادًا وتأكيدًا لقولهم {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ}، أي: أن استبداد شخص واحد بالأمر دون الجماعة أمر لا تقبله العقول، ولعل في قول الله تعالى عنهم: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] إشارة إلى عدد كبراء ثمود ورؤسائها، فهم الذين اجتمعوا وتقاسموا وأصدروا الأمر، لكنهم لم يباشروا المؤامرة بأنفسهم، وإنما انتدبوا رجلا وعهدوا إليه بالأمر، ويؤكد هذا قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]، فقولهم: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} دليل على أنهم جماعة من أهل الرأي، وليسوا جماعة من اللصوص أو قطاع الطرق، وأن إليهم اتخاذ القرار دون مباشرة التنفيذ؛ لذلك ستكون عندهم الجرأة والثقة - إذا هم تمكنوا من قتل صالح عليه السلام - أن يثبتوا غيابهم عن مكان الجريمة، وبالتالي براءتهم من قتله.

وقد تلجأ بعض الأنظمة إلى توحيد الكلمة والانضواء تحت راية واحدة وملك واحد، من غير استبداد بالأمر دون أهل المشورة والرأي، كما فعل بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 245].

فالحرب ومواجهة الأعداء تقتضي توحيد الصف والكلمة، وهذا لا يتواءم مع تفرق الكلمة بين رؤساء الأسباط الاثني عشر؛ لما في ذلك من تغاير الآراء وتباينها، فاقتضى ذلك أن يذعن الجميع لرأي ملك واحد يوحد كلمتهم ويجمعهم، وينقاد له الجميع؛ لذلك اجتمع زعماء الأسباط ورؤساؤهم وطلبوا من نبيهم عليه السلام أن ينصب لهم ملكًا يقاتلون من ورائه.

خلاصة القول أن المدنية والحضارات الإنسانية قامت على الشورى من أول نشأتها، وإشارات القرآن إلى ذلك تبين أهمية الشورى، ولعلني في مقال آخر أتناول صفات (الملأ) التي أهلتهم للحكم.

 



([1]) النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين ابن الأثير، ت: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ/ 1979م، 4/ 351، والغريبين في القرآن والحديث، أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي، ت: أحمد فريد المزيدي، ط1، مكتبة نزار مصطفى الباز، المملكة العربية السعودية، 1419هـ/ 1999م، 6/ 1769، 1770.

([2]) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، السمين الحلبي، ت: محمد باسل عيون السود، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417هـ/ 1996م، 4/ 106.

([3]) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ت: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، لبنان، ص 473.

([4]) انظر: تهذيب اللغة، الأزهري، ت: محمد عوض مرعب، ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2001م، مقدمة المؤلف، 1/ 30.

([5]) السابق، باب الراء والميم، 15/ 212.

([6]) تفسير الطبري، ت: أحمد محمد شاكر، ط1، مؤسسة الرسالة، 1420هـ/ 2000م، 19/ 547.

([7]) انظر: السابق، 22/ 589.

([8]) انظر: الطبري، 22/ 590.

([9]) انظر: معاني القرآن، الفراء، ت: أحمد يوسف نجاتي وآخرين، ط1، دار المصرية للتأليف والترجمة، مصر، 3/ 108.

([10]) انظر: مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1421هـ/ 2000م، 29/ 45.

([11]) انظر: السابق، وتهذيب اللغة، باب العين والسين مع الراء، 2/ 53.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين