المعين على تدبر الكتاب المبين سورة الحجرات -5 –

الشيخ مجد مكي

[قَالَتِ الأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {الحجرات:14}.
قال بعض الأعراب- وهم نفر من بني أسد مقيمون في البادية - الذين أعلنوا انتماءهم للإسلام انتماءً قائماً على مصالح دنيويّة: صدَّقنا بالله ورسوله بقلوبنا تصديقاً كاملاً. قل لهم ـ يا رسول الله ـ: لم تُصَدِّقوا بقلوبكم تصديقا يوافق القلب فيه اللسان ،فلا تقولوا : آمنا ، ولكن قولوا: اسْتَسْلمنا وانقدنا ظاهراً مَخَافَةَ القتل والسَّبْي، ولم يدخل بعدُ الإيمانُ في قلوبكم،ويصير فيه ويستقر إلى الآن، ويُتوقَّع ذلك منكم إن صدَّقتم تصديقاً جازماً، وأخلصتم في طاعة الله ورسوله. وإن تُطيعوا الله ورسولَه، وتنفّذوا أمرهما وتتركوا نهيهما ظاهراً وباطناً، سِرَّاً وعلانية، لا يُنقصكم من ثواب أعمالكم وأجورها شيئاً، إنَّ الله كثير الستر لكم – أيها المؤمنون - ، دائم الرحمة بكم عظيم العطف عليكم .
[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحجرات:15} .
وليس الإيمان هو ما زعم هؤلاء الأعراب ، إنما الإيمان الصحيح هو إيمان الذين صدَّقوا بالله ورسوله تصديقاً يقيناً ثابتاً ، ثمَّ لم يشكُّوا فيما آمنوا به من أية جهة، فقد بلغ من قوَّة إيمانهم أنه يستحيل أن يطرأ عليهم شك في المستقبل ، ومن دلائل صدق إيمانهم أنهم بذلوا جهدهم وقدراتهم بتقديم أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وإعلاء كلمته ونصرة دينه، والجهاد في سبيل الله يشمل كلَّ أنواع الجهاد، ومنه: مجاهدة النفس، وجهاد الدعوة، والإعداد والقتال، أولئك رفيعو المنزلة هم الصَّادقون في إيمانهم، لا من قالوا : آمنّا ولم يوجد منهم غير الإسلام . وفي هذا تعريض بأولئك الأعراب وأمثالهم، أن ادِّعاءهم الإيمان غير صحيح ، وحثّ على الصدق والإخلاص.
[قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] {الحجرات:16} .
قل ـ يا رسول الله ـ لهؤلاء الأعراب: أتُعَرِّفون الله بدينكم الذي أنتم عليهن وتريدون أن توهموا أنكم مؤمنون حقا؟ والحال أنَّ الله سبحانه يعلم ما في السموات التي تحيط بالأرض من جوٍّ وأجرام وعوالم عُلوية ،وما في الأرض التي هي موطن الحياة الدنيا ،ويحيط سبحانه بهما كامل الإحاطة لا تخفى عليه خافية، واللَّهُ بكلِّ شيءٍ مما هو موجود من المخلوقات أو محتمل الوجود عليمٌ لا يحتاج إلى إخباركم، ولا يخفى عليه ما في قلوبكم من الإيمان أو الكفر، والبر أو الفجور.
[يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] {الحجرات:17} .
يُدِلُّ هؤلاء الأعرابُ عليك ـ يا رسول الله ـ ويتطاولوا بقولهم: أسْلَمنا ولم نُحاربك، ويزعمون أنهم يتكرَّمون عليك بهذه النعمة. قل لهم: لا تَمنُّوا عليَّ اسْتسلامكم الظاهر، بل الله يُنْعم عليكم النعمة العظمى، أن أرشدكم ووفَّقكم للإيمان على ما زعمتم وادَّعيتم، إنْ كنتم صادقين في إيمانكم.
[إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {الحجرات:18} .
 
 
إذا كنتم تكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقولون : آمنّا، فالله سبحانه يعلم كلَّ ما غاب عن العباد في السموات والأرض، ممَّا لا تصل إليه حواسُّهم وتدركه عقولهم، لا يخفى عليه شيءٌ فيهما، فكيف يخفى عليه حالكم؟ بل يعلم سرَّكم وجهركم،ويعلم الصادق منكم والكاذب، والله سبحانه بصير بما تعملونه من خير أو شر ،وسيُجازيكم عليه.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين