المسلمون والعنف السياسي - نظرات تأصيلية
"إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف". من هذا الحديث يمكن تعريف العنف بأنه -كما يقول الشيخ القرضاوي- "استخدام الشدة والغلظة، في غير موضعها، أو في غير أوانها، أو بأكثر مما يلزم، أو بغير حاجة إليها، أو بدون ضوابط استعمالها".
وإذا كان الإسلام يرفض العنف في القول، فأولى أن يرفض العنف في الفعل. بمعنى استخدام القوة المادية أو العسكرية في غير موضعها، أي بالحق والباطل، وفي العدل والظلم.
أما الإرهاب فهو -بحسب القرضاوي-: أن تستخدم العنف فيمن ليس بينك وبينه قضية، وإنما هو وسيلة لإرهاب الآخرين وتخويفهم وإيذائهم بوجه من الوجوه، وإجبارهم على أن يخضعوا لمطالبك، وإن كانت عادلة في رأيك.
بين الجهاد المشروع والعنف المذموم
من هنا يمكن التمييز بين الجهاد المشروع والعنف المذموم بأن الجهاد يتميز بوضوح هدفه، ووسائله، والتزامه بأحكام الشرع، ومكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام: قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال. أما (العنف) -كما يقوم به بعض الجماعات التي تنسب إلى الإسلام- فينقصه الوضوح في الرؤية، سواء للأهداف أم للوسائل، وللضوابط الشرعية.
ومما لا شك فيه -كما يقول القرضاوي-: أن أفضل أنواع الجهاد في عصرنا، وأولاها بالمشروعية والفضل: الجهاد لتحرير فلسطين. ومن البَيِّن أن قدرات الشعب الفلسطيني لا تستطيع قهر العدو الإسرائيلي فانتقل واجب الجهاد العيني إلى جيرانهم وأشقائهم من العرب، ومع عجزهم انتقل واجب الجهاد العيني إلى المسلمين كافة في أنحاء العالم، وهذا واجب المسلمين تجاه أي جزء من أرض الإسلام يحتله عدو غاز كافر.
ويتابع القرضاوي: فإذا تقاعست الحكومات عن هذا الواجب المقدس، فعلى الشعوب والجماهير المسلمة أن تضغط على حكامها بكل ما تستطيع، أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، بواسطة العلماء والدعاة والمفكرين، ورجال الصحافة والإعلام، وأهل الرأي والحكمة، وكل من يمكنه أن يقول كلمة حق، حتى تستجيب لهم الحكومات في النهاية.
العمليات الاستشهادية.. أعلى أنواع الجهاد
أما العمليات الاستشهادية التي تقوم بها فصائل المقاومة الفلسطينية لمقاومة الاحتلال الصهيوني، فهي لا تدخل في دائرة الإرهاب المجرّم والمحظور بحال من الأحوال، وإن كان من ضحاياها بعض المدنيين، وذلك لعدة أسباب يمكن تلخصيها من كلام الشيخ القرضاوي في الآتي:
- المجتمع الإسرائيلي مجتمع عسكري لحمًا ودمًا.
- المجتمع الإسرائيلي (مجتمع غزاة) قدموا من خارج المنطقة.
- هؤلاء هم الذين يسميهم الفقهاء (الحربيين)، ولهم في الفقه أحكامهم الخاصة بهم.
- إذا جاز قتل المسلمين الأبرياء المكرَهين -في حال تترس العدو بهم- للحفاظ على جماعة المسلمين الكبرى، فأن يجوز قتل غير المسلمين، لتحرير أرض المسلمين من محتليها الظالمين: أحق وأولى.
- الحرب المعاصرة تجند المجتمع كله.
- تلك العمليات هي ضرورة ماسة وقاهرة.
ويرد الشيخ على شبهات المعارضين بأن الهدف مختلف تمامًا بين (الاستشهادي) وبين (المنتحر)، وأن الاستشهاديين لا يتعمدون قتل الأطفال، ولا يقصدون ذلك أصلاً، ولكن هذا يأتي تبعًا، وبحكم الضرورة التي لا يمكن تخطيها. وأن هذه العمليات هي "رد" على اعتداء إسرائيل، وأن العدوان "طبيعة" في إسرائيل، وما كان بالذات لا يتخلف، وبأننا لا ينبغي أن نضخم في أثر الضربات الإسرائيلية على الفلسطينيين، ونغفل آثار الضربات الاستشهادية في كيان بني صهيون.
أسباب العنف
وفيما يخص جماعات العنف المنسوبة للإسلام فالنظر بعمق إلى الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة، يفضي إلى عدة أسباب، منها: الظلم الواقع على بلادنا من القوى العظمى، وما يقوم به الحكام في ديارنا العربية والإسلامية من مظالم، لكن الشيخ يرى وراءها -أيضًا- أسبابًا فكرية هي الأكبر تأثيرًا. ويقول: هناك خلل فكري في رؤيتهم للدين، ورؤيتهم للناس، ورؤيتهم للحياة. والخلل الفكري لا يواجه بالسجون والتعذيب والتنكيل، فإن هذا قد لا يزيدهم إلا تشددًا وتعصبًا لأفكارهم.
فلا بد من مواجهة فكرية علمية معهم، يقوم بها رجال ثقات في علمهم، ثقات في دينهم، وقد بعث سيدنا علي رضي الله عنه إلى الخوارج الذين ثاروا عليه: سيدنا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، ليحاجهم ويحاورهم، وما زال يحاورهم ويجادلهم بالحجة والإقناع، حتى رجع منهم عدة آلاف، وبقي بعضهم مصرين على باطلهم.
ملامح فقه جماعات العنف
ويلخص الشيخ ملامح فقه جماعات العنف بالآتي:
- أنها كثيرًا ما تعتمد على المتشابهات وتدع المحكمات.
- تستند إلى الجزئيات وتهمل الكليات.
- تتمسك بالظواهر وتغفل المقاصد، كما تغفل ما يعارض هذه الظواهر من نصوص وقواعد.
- كثيرًا ما تضع الأدلة في غير موضعها، وتخرجها عن سياقها وإطارها.
مناقشة مبررات العنف
ويناقش الشيخ مبررات العنف لدى تلك الجماعات ويمكن تلخيصها بالآتي:
· تكفير الحكومات القائمة: يذكر الشيخ وجود العديد من المظاهر الدينية، وأن الدساتير تنص على أن الشريعة مصدر رئيس أو المصدر الرئيس، ما يثبت إسلامية الدولة بوجه من الوجوه.
· فتوى ابن تيمية حول قتال كل فئة تمتنع عن أداء شريعة ظاهرة متواترة من شرائع الإسلام: يجيب القرضاوي أن الذي يقاتل هذه الفئة الممتنعة: ولي الأمر، كما فعل سيدنا أبو بكر، وليس عموم الناس، وإلا أصبح الأمر فوضى!.
· الأنظمة غير شرعية: يجيب القرضاوي التغلب هو إحدى طرائق الوصول إلى السلطة، إذا استقر له الوضع، ودان له الناس.
· تغيير المنكر بالقوة في حال الاستطاعة: يجيب القرضاوي بأن هؤلاء يغفلون الضوابط والشروط اللازمة لتغيير المنكر بالقوة التي قررها العلماء.
وبعد أن يسرد فقه جماعات العنف باختصار يقول القرضاوي: "هو بلا ريب: فقه أعوج، وفهم أعرج، يعتوره الخلل والخطل من كل جانب. ويحتاج من فقهاء الأمة إلى وقفة علمية متأنية: لمناقشتهم في أفكارهم هذه، والرد عليهم فيما أخطئوا فيه: في ضوء الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وإجماع الأمة.
مكامن الخلل لدى جماعات العنف
ويلخص الشيخ مكامن الخلل لدى تلك الجماعات بالآتي:
·   خلل في فقه الجهاد والنظرة إلى غير المسلمين.
·   خلل في العلاقة بأهل الذمة.
·   خلل في فقه تغيير المنكر بالقوة.
·   خلل في فقه الخروج على الحكام.
ويختم دراسته ببيان أمرين مهمين:
أحدهما: حول مدى شرعية العنف بالصورة التي تمارسها تلك الجماعات، ويشهدها الناس، وأنها لا تستند إلى محكمات الشرع لا في نصوصه البينة، ولا في مقاصده الكلية.
والثاني: مدى جدوى هذا العنف، لو افترضنا شرعيته: هل غيّر وضعًا فاسدًا؟ أو أقام حكمًا عادلاً؟ أو حقق هدفًا من الأهداف الكبرى للأمة؟
 
مفهوما العنف والإرهاب
 
كلمة العنف تتضمن معنى الشدة والغلظة. وقد جاءت بعض الأحاديث النبوية تقابل الرفق بالعنف؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف".[1] وقد اشتهرت كلمة (العنف) في عصرنا، وأصبحت مصطلحا شائعا مجرَّما ومذموما، وهو يشمل مجالات عدة، وأكثر ما اشتهر العنف في عصرنا في المجال السياسي، وهو المقصود بالحديث عند الإطلاق. وقد اشتد النكير عليه، والتجريم له في الآونة الأخيرة، وإن لم يحدده من أطلقوه وجرموه.
وأكثر من يُتَّهم بالعنف المسلمون، وأكثر من يتهمهم به الغربيون. والواقع يقول: إن الغربيين هم أكثر الناس عنفا، وإن المسلمين في العالم كله هم ضحايا هذا العنف، ودماؤهم وحرماتهم مستباحة في كل مكان.
مفهوم العنف
العنف في المفهوم الشائع هو: استخدام القوة المادية أو العسكرية لقهر الخصوم بلا ضابط من شرع أو خلق أو قانون، وبلا مبالاة بما يحدث من جرائها من أضرار. وقد يحدث هذا العنف من الأفراد، أو من الجماعات، أو من الحكومات. ولكنا نلاحظ -عند التطبيق- أن بعض الجماعات تتهم بالعنف، وهي منه براء.
ولكن العنف -فيما أرى- هو استخدام الشدة والغلظة في غير موضعها، أو في غير أوانها، أو بأكثر مما يلزم، أو بغير حاجة إليها، أو بدون ضوابط استعمالها.
وإنما قلت: (الشدة)، ولم أقل: استخدام القوة المادية أو العسكرية كما هو الشائع والمقصود لدى الكثيرين؛ لأن العنف -في نظر الإسلام- لا يقتصر على القوة المادية أو العسكرية؛ بل العنف يشمل -فيما يشمل- الكلام والجدال، والإسلام يرفض العنف بلا مبرر، سواء كان في القول أم في الفعل.
ولهذا كان منهج الدعوة في الإسلام قائما على الرفق لا على العنف، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). وقال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} (الإسراء: 53).
فأمر عباده المؤمنين أن يتحروا في خطابهم لغيرهم الكلمة التي هي أحسن، وليس مجرد الكلمة الحسنة، فإذا كانت هناك كلمتان أو عبارتان إحداهما حسنة، والأخرى أحسن منها، فعلى عباده أن يختاروا التي هي أحسن.
وهكذا يجب أن يتحرى المسلم (الأحسن) في خطابه وفي جداله، وفي دفعه لسيئة غيره، كما قال سبحانه: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34).
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو الأسوة الحسنة التي تتجسد فيها المعاني والمثل العليا التي جاء بها القرآن، فقد كان خلقه القرآن.
روى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "استأذن رهط من اليهود على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا (أي في تحيتهم للنبي): السام عليك (أي الموت والهلاك عليك) قلت: بل عليكم السام واللعنة! فقال: "يا عائشة؛ إن الله يحب الرفق في الأمر كله" قلت: أولم تسمع ما قالوا؟! قال: "قلت: وعليكم".[2]
فهؤلاء اليهود الخبثاء لم يراعوا أدب الخطاب مع الرسول الكريم، بل لوّوا ألسنتهم، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فبدل أن يقولوا: السلام عليكم يا محمد، قالوا: السام عليك! أي الهلاك والموت. ولكن الرسول الكريم لم يشأ أن يجعل من ذلك معركة، ورد عليهم قائلا: وعليكم؛ أي الموت يكون علينا وعليكم، وعلَّم زوجه عائشة الشابة المتحمسة الرفق في الأمر كله.
وإذا كان الإسلام يرفض العنف في القول، فأولى أن يرفض العنف في الفعل، بمعنى: استخدام القوة المادية أو العسكرية في غير موضعها، أي بالحق والباطل، وفي العدل والظلم.
بين العنف والإرهاب
هل العنف والإرهاب شيء واحد أم بينهما فرق؟ بعض الذين تحدثوا في الموضوع لم يجعلوا بينهما فرقا. ورأيي: أن بينهما عموما وخصوصا، كما يقول أهل المنطق؛ فكل إرهاب عنف، وليس كل عنف إرهابا؛ إذ العنف -فيما رأينا- أن تستخدم فئة من الناس القوة المادية في غير موضعها، وتستخدمها بغير ضابط من خُلُق أو شرع أو قانون.
ومعنى (في غير موضعها): أن تستخدم القوة حيث يمكن أن تستخدم الحجة أو الإقناع بالكلمة والدعوة والحوار بالتي هي أحسن، وهي حين تستخدم القوة لا تبالي من تقتل من الناس، ولا تسأل نفسها: أيجوز قتلهم أم لا؟ وهي تعطي نفسها سلطة المفتي والقاضي والشرطي، هذا هو العنف الذي نجرمه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين