( ٤ ) تدخل الهوى
( أو العواطف ) في الحكم:
الهوى
ميل النفس إلى الشهوة. وقيل سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية،
وفي الآخرة إلى الهاوية. انظر: المفردات للراغب الأصفهاني
(ص ٥٤٥)
وعُرف
بأنه " ميلان النفس إلى ما تستلذه الشهوات من غير داعية الشرع ».
انظر: التعريفات للشريف الجرجاني ( ص ۲۷۸).
وقد
ذمَّ القرآن الكريم اتباع الهوى، وبين أنه يُضل صاحبه عن الحق والصواب؛ بل قد
يدفعه إلى التكذيب بالحق استكبارا وعنادًا، وربما حمله على ارتكاب جريمة القتل،
وفيما يلي بضعة آيات كريمات لا تحتاج إلى تعليق:
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ}[ ص: ٢٦ ] .
{
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن
ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف: ٢٨.
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ
تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} الفرقان: ٤٣ .
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ
أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} المؤمنون:
٧١.
وقال
تعالى مخاطباً بني إسرائيل: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ
رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ
وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} البقرة: ٨٧ .
ويسمي
بعض المفكرين الغربيين الهوى بـ ( التحيز ). ويعرفون التحيزات بأنها (طرق في
التفكير يقررها سلفا قوى ودوافع انفعالية شديدة كالتي يكون مصدرها منافعنا الذاتية
الخاصة، أو ارتباطاتنا الاجتماعية. التفكير المستقيم
والتفكير الأعوج، روبرت هـ ثاولس ( ص ۱۸۳ ).
يقول
جوزيف جاسترو (٢): [التفكير السديد ( ص ۱۱۵،
۱۲۰،
۱۲۱،
۱۲۹ )،
بتصرف] (إن التفكير الصحيح فن عسير على
الكثيرين لسببين على الخصوص: الأول: أن عقولا كثيرة ليس لديها الكفاءة لهذه
المهمة... والثاني: هو تدخل الانفعالات والعواطف... فكثيرا ما نقبل، أو نصل إلى
نتيجة تحت تأثير رغبة، أو أمل، أو خوف... وهذا هو الهوى).
إن
الهوى هو الحكم على شيء مقدما، وفي أثناء عملية الاستدلال يجعلنا الهوى نتجاهل بعض
الوقائع، ونبالغ في تقدير بعضها الآخر، ميلا منا نحو نتيجة معينة موضوعة في ذهننا
منذ البداية..
يعبر
ثاولس ( ص ۱۸۷ ) عن
هذه الفكرة بقوله : ( إننا نكون تحت تأثير الهوى والتحيز ميالين إلى تصديق ما نرغب
في تصديقه، أو نحتاجه أن يكون صحيحًا، وإلى إنكار ما نرغب في إنكاره أو ما نحتاجه
أن يكون باطلا ..
إن
عراقيل التفكير ليست واضحة كعراقيل الكلام. والمفكر نفسه قد لا يفطن
لوجود عراقيل في تفكيره، كمايجهل المصاب بعمى الألوان حقيقة آفته إلى أن يكتشف مع
الزمن - أن الناس من حوله يرون الأشياء على خلاف ما يراها.
وليس
من الضروري أن يكون الهوى فجا، غليظا، واضحا للعيان؛ بل قد يكون دقيقا خفيا، فإن
الأهواء على درجات متباينة، ويمكن أن تتسرب إلى التفكير من مستويات كثيرة. ومعرفة
خطر الأهواء نافع في الاحتياط منها في خطوات تفكيرنا المنطقية .
وقديما
أشار الشاعر الحكيم إلى قريب من هذا المعنى فقال:
وعين الرضا عن كل عيب
كليلة
*** ولكن عين السخط
تبدي المساويا
( ٥ ) المبالغة في
التبسيط:
يُروى
عن إميرسون أنه قال: ما أشق عمل في العالم؟ وأجاب: إنه التفكير فلا غرابة إذن أن
يميل الناس – بدافع الكسل
النفسي والعقلي - إلى تبسيط الأمور المعقدة وتلخيص الكتب المطولة، وحل المشكلات
العويصة بجملة سهلة الفهم، سهلة الحفظ !
إن
المريض بالبدانة يعلم أن عليه اتباع نظام غذائي صحيح ليشفى من مرضه، ولكن المختص
هو الذي يرسم له ذلك النظام بالتفصيل ويغيره بعد فترة معينة إذا اقتضى الأمر
التغيير، ويراقب صحته في أثناء اتباعه لذلك النظام.
يقول
ثاولس: [في كتابه التفكير المستقيم والتفكير الأعوج، تحت عنوان: التبسيط المسرف
في التفسير ( ص ۲۰۳
- ٢١٤ )، بتصرف.] (إن
المسائل المعقدة حول الحقائق الواقعية لا يمكن إيفاؤها حقها من القول في معظم
الحالات والإعراب عنها بكلمات قليلة.. وأكثر الناس لا يعنون بالتعقيدات، ولا
يأخذونها في الحسبان، وإنما يشعرون بأنهم واقفون على القضية وقوفا تاما، وأنهم
ألموا بها إلماما تاما إذا هم استطاعوا أن يضعوا مسألة معقدة في قالب بسيط.
من
ذلك - مثلا - نظرية أينشتاين في النسبية تحولت إلى مجرد عبارة بسيطة: ( كل شيء
نسبي )! ولخصت أيضًا على هذه الصورة نتائج الأبحاث العلمية المعقدة في التغذية حول
القيمة لمختلف أصناف الأكل بعبارات مثل: (الحليب مغذ) و(الخس غني بالفيتامينات (.
والحقيقة
أنَّ لأمثال هذه العبارات مزية علمية كبيرة وهي أنها سهلة الحفظ، وسهلة الانتقال
من شخص إلى آخر؛ ولذا فإن من السهل أن يتعزز الإيمان بها بقوة الإيحاء، فإن شاعت
عبارة، وتنوقلت بين الناس أصبحت ( شعارًا ) له مفعول في سلوك عدد كبير من الناس،
وفي توجيه هذا السلوك وجهة معينة. وليس استعمال الشعار وسيلة للتأثير في سلوك
الناس شيئًا منافيًا للحكمة بحكم الضرورة. فالزعيم الحاذق - مهما كانت عملياته
الفكرية معقدة يحتاج في الإعراب عن مذهبه إلى صيغ مبسطة لتكون مقبولة على نطاق
واسع، ولكن الخطر يكمن في أن تصبح هذه الصيغ المبسطة قواعد تحكم التفكير.
إن
التفكير المبسط له بعض النفع في النواحي العملية إلا أنه - في واقع الأمر - قد
يكون عقبة في سبيل التفكير المستقيم.
فإذا
كان الغرض الذي نرمي إليه هو الحقيقة وليس الكسل أو المصلحة الخاصة، فالواجب علينا
ألا نسمح به لما له من سلبيات كبيرة في المدى البعيد.
( ٦ ) الخلط بين
التقدير والتقديس
احترام
الكبراء والعلماء والفضلاء وتقديرهم أمر منسجم مع الفطرة السليمة، ودعت إليه
الشريعة الحكيمة؛ فقد جاء عن رسول الله ﷺ
أنه قال: (إن من إجلال الله: إكرام ذي الشيبة المسلم،
وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط). رواه أبو داود رقم ( ٤٨٤٣ )، وحسنه النووي، والعراقي، وابن حجر.
وقال:
(ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) رواه أبو داود رقم ( ٤٩٤٣ )، والترمذي رقم ( ۱۹۲۱ )،
وقال: حسن صحيح. كما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
لكن
الاحترام والتقدير شيء، والمبالغة في الاحترام إلى درجة التقديس شيء آخر.
ويحسن
بنا - ونحن نتحدث عن التقدير والتقديس - أن ننتبه إلى الأمور المهمة التالية:
١- الحق ليس
حكرا على أحد، فكل إنسان يخطئ ويصيب، والمعصوم هو النبي عليه الصلاة والسلام. ٢ -
العالم الكبير قد تحدث منه زلة كبيرة، يعتذر له عنها، ولا تقدح في سائر فضائله.
٣-
قد يكون الرجل متفوقا في علم دون علم، فيكون لرأيه وكلامه وزن فيما برع فيه، لا
فيما سوى ذلك. وكم من إمام في الحديث لا باع له في الفقه، وكم من إمام في العلوم العقلية
بضاعته في الحديث مزجاة. 4- قد يتصف العالم بخُلق دون خُلق؛ فالكمال في الرجال
حاشا الأنبياء - غير موجود. وتختلف حظوظ العلماء قلة وكثرة من فضائل كالذكاء
الحاد، والحكمة العميقة، والتقوى، وسعة الأفق، والذاكرة القوية، وحسن الخلق.. وكم
من عالم مخلص تقي نقي لا يكتب حديثه لقلة ضبطه !
قال
الجاحظ: (ولكل أحد نصيب من النقص، ومقدار من
الذنوب وإنما يتفاضل الناس بكثرة المحاسن، وقلة المساوئ فأما الاشتمال على جميع
المحاسن والسلامة من جميع المساوئ دقيقها وجليلها، وظاهرها وخفيها، فهذا لا يُعرف ) رسائل الجاحظ ٨٣٦/١
5 - قد يدرك الطالب الصغير أمرا يخفى على العالم الكبير، وهذا لا
يعني أنه أعلم منه.
٦- مخالفة
الصغير للكبير في بعض الرأي لا تعني عدم الاحترام، ومخالفة العالم لمن هو أعلم منه
لا تعني الانتقاص من منزلته، أو رفع النفس إلى مستواه. وما أكثر مخالفة أصحاب أبي
حنيفة لإمامهم في الرأي، وظل هو الإمام وظلوا هم الأصحاب.
7-
الحق لا يُعرف بالرجال، لكن الرجال يعرفون بالحق فلا أحد أجل من أن يخطئ، ولا أحد
أصغر من أن ينصح ويصوب.
8- الأدب مطلوب دائما، وعلى كل حال.
(7) عدم التفرقة بين النص وتفسير النص:
لا
شك أن نصوص الكتاب الكريم مقدسة؛ لأنها كلام الله سبحانه وتتلوها في المرتبة
الأحاديث الصحيحة؛ لأنها كلام الرسول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. لكن بعض الناس
يعطون فهمهم للنص أو فهم العالم الذي يحبونه والإمام الذي يتبعونه مرتبة النص
نفسها، ويعدون من خالف فهمهم مخالفًا للنص!..
ولا
يخفى ما في هذا الأمر من البعد عن الحق والصواب. ولهذا السبب ضلل أقوام أقواما، وفسق
أناس أناسًا؛ بل وزعم بعض الناس أنهم وحدهم هم أهل التوحيد الخالص !
إن
أكثر نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة؛ أي: تحتمل أكثر من معنى واحد والبشر
متفاوتون في عقولهم وعلومهم، وقوة فهمهم واستنباطهم؛ لذلك كان الاختلاف بينهم في
فهم تلك النصوص أمرا طبيعيا. وشتان بين من يقول: إن هذه الآية خطأ، وإن هذا الحديث
باطل، وبين من يقول: إن فهم فلان لهذه الآية أو ذاك الحديث خطأ، وأنا أرى رأيا
آخر، أو أرجح فهما آخر.
وهؤلاء
هم الصحابة الكرام، معدن اللغة العربية، وفهمهم حجة فيها، اختلفوا في فهم كلام
النبي، وهو سيد الفصحاء والبلغاء.
روى
البخاري ومسلم - رحمهما الله - في صحيحهما، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -
أن النبي ﷺ لما رجع من الأحزاب
قال: (لا يُصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)،
فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي،
لم يرد ذلك منا، فذكر للنبي ﷺ
فلم يُعنف أحدا منهم.
فالنص
– إذن - شيء، وتفسير
النص، أو فهمه شي آخر.
ومن
المستحسن في نهاية هذه الفقرة إيراد الخبر الطريف التالي:
اتفق
أربعة فنانين ألمان على أن يرسموا في وقت واحد لوحة للطبيعة في تيفولي قرب روما.
كان
الأربعة أصدقاء حميمين، تربوا في بيئة واحدة، ودرسوا في مؤسسة تعليمية واحدة،
وخلفيتهم الثقافية واحدة، وتعاهدوا على رسم المنظر الطبيعي بدقة وإخلاص وتجرد
وموضوعية.. فماذا كانت النتيجة؟
أربع
لوحات مختلفة اختلافا شديدًا! مما دعا جان باتیست کورو إلى القول: إنها الطبيعة من
خلال نفسيات الرسامين الأربعة ! . انظر كتاب: إنسانية الإنسان، رينيه دوبو. ترجمة د. نبيل الطويل ص
١٥٤.
(8) أخطاء المقارنة:
في
المقارنة بين أمرين: أو شخصين، أو جماعتين، أو حزبين أو بلدين أو نظامين ... يضع
بعض الناس حسنات هذا أمام عيوب ذاك، ويحكمون لأحدهما على الآخر، والصواب أن نضع
حسنات الطرفين في كفتين متقابلتين ونوازن بينهما، ثم نفعل بالعيوب مثل ذلك. آخذين
بالحسبان أن الحسنات تتفاوت فيما بينها في الأهمية وكذلك العيوب.
فالحفاظ
على سنة التطيب - مثلا - ليس كالحفاظ على سنة التهجد في الفضل، وإغلاظ القول للأخ الأصغر
ليس كإغلاظه لأحد الوالدين
(9) تناقض الموازين أو
الكيل بمكيالين:
المراد
بتناقض الموازين أن يستعمل الإنسان ميزانين مختلفين لوزن حالتين متشابهتين، أو
استعمال ميزان واحد في الحكم على قضيتين مختلفتين. ويحصل هذا أحيانًا في الأمور
الفقهية الخلافية دون أن يفطن مرتكب هذا الخطأ إلى ما يقع فيه من التناقض؛ فنجد
الشخص – مثلا –
يستشهد على صحة الرأي الشرعي الذي يحمله بقول الإمام الذي يتبع مذهبه، أو العالم الذي
يميل إليه، في الوقت الذي لا يرضى منك أن تستدل بقول الإمام الذي تتبع مذهبه، أو العالم
الذي تميل إليه، ويقول لك: أريد الدليل من الكتاب أو السنة ونسي أنه أتى بدليله من
فهم العلماء لا من الكتاب والسنة !
وتناقض
الموازين، أو (الكيل بمكيالين) هو نوع من أنواع الظلم للحقيقة، وهو ظلم معنوي عند
الحديث عن التفكير وعيوبه، وقد يكون (ظلما ماديا) على مستوى الأفراد، أو الجماعات
أو الأحزاب، أو الشعوب، أو الدول... فيمارس كل واحد من هؤلاء نوعا من الظلم يختلف
باختلاف دواعيه وأسبابه، وموضوعه.
وقد
أشار القرآن الكريم إشارة رائعة إلى هذا النوع من أنواع الظلم بقوله: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا
عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ
عَظِيمٍ (5)} المطففين : ١ - ٥
إذ
بدأت سورة المطففين بإعلان الحرب من الله عليهم. والمطففون هم الذين يبخسون حقوق
الناس في الكيل والوزن عن الواجب لهم من الوفاء، جمع: مُطفّف؛ من الطفيف، وهو
التافه القليل؛ لأن ما يبخسه المطفّف شيء نزر حقير. وهو وعيد شديد لمن يأخذ لنفسه
وافيا، ويعطي لغيره ناقصا قليلا كان أو كثيرًا.
وأنا
أرى الشبه شديدا بين (التطفيف المادي) و(التطفيف المعنوي)؛ بل قد يكون الثاني أخطر
بكثير !
(١٠) الخطأ في استعمال
اللغة:
قال
عثمان المهري: أتانا كتاب عمر بن الخطاب له ونحن بأذربيجان يأمرنا بأشياء، ويذكر
فيها: تعلموا العربية فإنها تُثبت العقل، وتزيد في المروءة . صبح الأعشى
المقالة الأولى، تحت عنوان: المعرفة بالنحو وبيان وجه احتياج الكاتب إليه.
وقال
زوج ابنة الإمام الشافعي - رحمه الله -: «
أقام الشافعي علم العربية وأيام الناس عشرين سنة، فقلنا له في هذا، فقال ما أردتُ بهذا
إلا استعانة للفقه. الفقيه والمتفقه الخطيب البغدادي، (
٢/ ٤١ ). أي: ظل عشرين سنة يتبحر في اللغة وعلومها ليفهم القرآن والسنة حق
الفهم.
وهو
الذي يقول: أصحاب العربية جن الإنس يبصرون ما لم يبصر غيرهم. آداب
الشافعي ومناقبه الرازي ( ص ١٥٠ ). وكان علماء
الدين يقولون: من تكلم في الفقه بغير لغة تكلم بلسان قصير. وفي هذا كفاية لإثبات
أهمية اللغة في الفهم والتفكير.
يقول
وليم شانر في كتابه الطريق إلى التفكير المنطقي تحت عنوان: الدقة في استعمال اللغة: التفكير المنطقي نوع من
المحادثة التي نقوم بها مع أنفسنا. إننا نسأل أنفسنا، ونبحث عن إجابات لأسئلتنا،
ثم نقارن كل إجابة بالأخرى. ولكي نقوم بهذه المحاولة نجد أنفسنا مضطرين إلى
استخدام الألفاظ، ودون هذه الألفاظ لا نستطيع أن تفكر تفكيراً منطقياً، إن الألفاظ
لَبِنَاتُ التفكير المنطقي، وإذا شئنا أن نفكر تفكيرا صائبا فإن من الواجب أن نفهم
ما يتعلق بمادة البناء التي نستخدمها.
ويقول
جوزيف جاسترو التفكير السديد ( ص ٢٥٦، ٢٥٧ )، بتصرف.:
إن
جزءا كبيرًا من تفكيرنا يجري في ألفاظ؛ فالكلام والكتابة يبلوران الألفاظ
وينظمانها. والحجة القانونية أو العلمية، ومخاطبة الناس جميعًا أفرادا وجماهير
تقوم على صياغة الأفكار في قوالب الألفاظ: فالتدرب - إذن - على الاستعمال الصحيح
للغة، وتوسيع دائرة المفردات هو أحد أنواع التدرب على التفكير، والألفاظ -
أيضًا قد تعرقل التفكير وتؤذيه إذا استخدمت بشكل عائم غائم من غير أن يكون وراءها
رصيد من أفكار صحيحة واضحة، وما أكثر أخطاء التفكير الناجمة عن خداع الألفاظ .
إن
معرفتك كيف تقول ما تفكر فيه بشكل سديد مبدأ من أهم مبادئ (الصحة المنطقية)، إذ
الفكر ينضج عن طريق التعبير؛ لأنك حين تكون بصدد الكتابة أو الكلام تتعلم كيف تفكر
تفكيرا سديدا لتحسن التعبير، كما تتعلم كيف تفكر تفكيرا سديدا وأنت تعمل لتحسن
التنفيذ.
ومن
الأخطاء الخطيرة التي يقع فيها بعض الناس، وتكثر عند الشعراء والأدباء، أنهم
يجعلون المعاني تابعة للألفاظ، فيسترسلون مع التعابير والمفردات بشكل يهدد المعنى؛
ومن ثم يهدد التفكير :
قال
الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه الله -: [دلائل الإعجاز
ص 401]
ومن
هنا رأيت العلماء يذمون من يحمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضم لهما المعنى،
(أي: يجعله تابعا لهما لا متبوعا)، ويُدخل الخلل عليه من أجلهما، وعلى أن يتعسف في
الاستعارة بسببهما.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول