الله هو الحق المبين

 

 

 إنَّ بعض الناس يتناول الحقائق العليا بعبارات ساخرة، فلا حرج علينا إذا دافعنا قضايا الإيمان بأسلوب يمزج بين الجد والتهكم، وليعذرنا القراء إذا رأونا نسوق الأمثلة والشواهد جامعة بين هذه الأطراف الـبعيدة.

لو قيل لك: إنَّ إسكافاً في إحدى حارات القاهرة شارك - بعلمه - في إرسال صواريخ الفضاء! وبعث الأقمار المصنوعة! فماذا تقول؟ ستقول يقينا: هذه أضحوكة! لماذا؟ لأن إطارة هذه الأقمار توفر عليها نفر من العلماء العمالقة أتقنوا من الدراسات الكونية ما يعجز أمثالهم عن مناله.

 إن سبعين قنطاراً تنطلق في الفضاء وتعود وفقَ خطَّة مرسومة مُتحدِّية قوانين الجاذبية وعواصف المجهول عمل هائل، تراصت عقول كبيرة في إتقان كل أنملة منه. وليس ثَمَّ مجال للقاصرين والجاهلين لتحمل وجودهم بَلَهْ مشاركتهم، فما للأساكفة وهذا الأفق؟

ولو قيل لك: انظر هذا القصر الوسيق الأركان السامق البنيان! إنَّ أحد البغال التي تشدُّ عربات النقل هو الذي شاده! إنَّك - بداهة - ستثق من أن القائل قد جُنَّ. لماذا؟ لأنك تعلم أنَّ أفكاراً نيِّرة وأيدياً قادرة هي التي خطَّطت الشكل، ثم أقامت الأركان، وصاغت الأبواب والنوافذ، ونسجت شبكة الضوء والماء، ووزعت عليه، علواً وسفلاً، أنواع الطلاء، وأنى للبغال كلها هذه القدرة؟ ولكن العقل الإنساني الذي يستسخف هذه الفروض، لا يزال يهوى عند بعض الناس حتى يحول هذه الفروض الغبية إلى حقائق محترمة.

إطارة قمر صغير تحتاج إلى ذكاء لامع، وعلم واسع وتقدير دقيق، وبصر عميق. أما إطارة الألوف المؤلَّفة من الكواكب الضخمة الرحبة فلا تحتاج إلى شيء من هذه الصفات؟ إنَّ إسكاف أفندي بغبائه هو الذي يُطيِّرها ويديرها!

 بناء بيت محدود يحتاج إلى هندسة وقدرة وفن وإبداع، وهذه الصفات لابدَّ أن تكون طبعاً في ذات لا في فراغ. أما بناء الكون الكبير الطويل العريض، فلا يحتاج إلى شيء من هذه الصفات. إنَّ بغل أفندي يستطيع ببهيمته أن يضع الرسم، ويبرز البناء. إنَّ الإيجاد والتدبير وظائف عالية، لا يمكن أن تتم إلا إذا تصورنا إرادة عليا، وقدرة عليا، وحكمة عليا وعلما أعلى، وإبداعا أعلى، وهذه الصفات لا تتصور إلا في ذات المريد القادر الحكيم العليم بديع السموات والأرض ذي الجلال والإكرام.

هذه بَداهة لا تحتاج إلى كدِّ الذهن، وإجهاد الفكر، ومع ذلك فإنَّ أحد الكتَّاب أخذ يتناول لغز الحياة، لماذا؟ ليحلَّ هذا اللغز على أساس أن إسكافاً طيَّر القمر الصناعي، وأنَّ بغلاً بنى أهرام الجيزة!. وأن شيئاً باطناً في تراب الأرض هو الذي أنبتَ سنابل القمح، ولفَّ كل حبة في غلالها، ونسقها صفوفا مُتراكبة، وأودع بها النشا والزلال والسكر... الخ. شيء باطن في تراب الأرض لا عقل له، ولا إحساس، ولا مَشيئة، ولا تدبير هو الذي صنع هذا. هكذا يريد منا أن نفهم وأن نُصدِّق. إنها غرائز في الطين ـ ليس لها مصدر إلا الطين ـ جعلت هذا الطين، ينبثق عن الحدائق الزاهرة والحقول العامرة!.

 فما تلمح على صدور الأغصان من ثمار، وما تشم رائحته من أزهار، وما تقيم به حياتك من عناصر طيبة كمنت في هذه الحبوب المحصودة والفواكه الجنيَّة، هذا كله، من صنع (العلامة طين أفندي) قام من تلقاء نفسه، فلا ألوهية هنالك، ولا وجود أعلى. وطين أفندي هذا هو أخو إسكاف أفندي الذي شارك علماء الروس والأمريكان تطيير أقمارهم!

(لا إله والحياة مادَّة)، هكذا يريد أن يعلمنا الكاتب البائس الباحث عن حلٍّ للغز الحياة! اسمعه يقول: (ما الحياة؟ وما سِرُّها؟ من الذي عَلَّم الكتكوت أن يكسر البيضة عند أضعف أجزائها ويخرج؟) إنَّه طبعاً اهتدى إلى ذلك بعقله الخاص!.

(من الذي عَلَّم الطيور الهجرة عبر البحار والصحاري إلى حيث تجد الغذاء الأوفر والجو الأحسن، وإلى حيث تتلاقى وتتوالد؟ ومن الذي يُسدِّد خُطَاها طول هذه الرحلة من ألوف الأميال فلا تضل ولا تتوه؟)، إنها طبعا عرفت ذلك بعبقريتها الملهمة!.

(من الذي عَلَّم دودة القز أن تنسلخ من ثوبها مرَّة بعد أخرى، ثم تنزوي في ركن لتبني لنفسها شرنقة من حرير تنام فيها ليالي طويلة مثل أهل الكهف، ثم تخرج منها فراشة بيضاء جميلة، يقول الكاتب الألمعي: هذا الانتقال المنظَّم الدقيق من نمط في الخلق إلى نمط آخر. هذا التطوُّر من دودة إلى حشرة، الذي تتعاون فيه الألوف المؤلفة من الخلايا، يحدث تلقائياً بلا مُعَلم؟).

أي: ليس هناك مُلهم من الخارج تولى هذا الأمر وأشرفَ عليه، إذن كيف حدث؟ يقول: (إنَّ المعلِّم هو الفطرة المرشدة المغروسة في المادة الحيَّة بطريقة لا يعرفها أحد). والطريقة التي لا يعرفها أحد هذه هي الحلُّ الموفق المحترم للغز الحياة!.

قل أيَّ شيء في قطع صلة الموجودات ببارئها الأعلى يكن الكلامُ علماً تقدمياً مَسموعاً، مهما كان الكلام سخيفاً سمجاً.

 النطفة تحوَّلت إلى إنسان سوي العضلات، مُكتمل الحواس، ذكى العقل؛ لا لأن موجداً أعلى تولى ذلك وأشرف عليه، بل لأنَّ النطفة من تلقاء نفسها مَشَت في هذا الطريق، وبلغت تمامها كما يتحوَّل الشخص المفلس إلى غني مكثر بجده واجتهاده!.

 هذا هو منطق العلم، ولا بأس أن نتمشى مع هذا المنطق في مراحل خلق الإنسان لنستقرَّ على حقيقة واضحة فيه.

يبدأ وجود الإنسان عقيب التقاء الحيوان المنوي بالبويضة السابحة في رَحِم الأنثى والحيوان المنوي كائن عجيب فهو مع ضآلته المتناهية يحتوي على خصائص الرجل الماديَّة والمعنويَّة، وعنه تكون وراثة المشابه في طول القامة وقصرها مثلاً، في سواد الشعر أو شقرته، في لون الجلد، في حدَّة المزاج والذكاء أو في ضد ذلك... الخ.

 ونسأل: من صنع هذا الكائن العجيب؟ أهو الرجل؟ أنا وأنت خَلقنا هذا الحيوان وأودعنا فيه أسرار السلالة البشرية والمواهب الشخصية؟ لا بداهة، فما يذكر أحد منا أنَّه فعل شيئا من هذا!

أم أنَّ لقمة الخبز التي أفلتت من بين الأسنان أخذت تكافح في سبيل الترقي فتحولت من تلقاء نفسها إلى دم، ثم إلى مني؟ إنَّه شيء مضحك أن نتصوَّر هذه اللقمة من الخبز قد رسمت لنفسها خطة كاملة لإيجاد بشر، أو للتحول إلى بشر يمشي على ظهر الأرض. 

إذن من الذي خلق هذا الحيوان وجعل في كيانه الدقيق مشروع بناء إنسان؟ ليس إلا الله!: [أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ] {الواقعة:57-59}، إنَّ هذا الخالق الكبير يحكم الأسباب ولا تحكمه الأسباب، وهو مُستطيع أن يخلقَ البشر بوسائط أخرى غير ما يُعرف في النشأة الأولى للإنسان الآن. ولذلك يقول بعد الآيات السابقة: [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ] {الواقعة:60-61}.

 ولنتابع النظر في أطوار خلق الإنسان بعد النطفة المعلومة، إنَّه يتدرج في أعماق الرحم آخذا طريقه إلى التمام.

 ترى من يشرف على تكوينه وتصويره، الأب أم الأم؟ إنَّ دور الأب انتهي فماذا تصنع الأم في تطوير هذا الجنين؟ من الذي يشقُّ الأجفان ليضعَ العين المبصرة، ومن الذي يصنعُ الآذان، ويضع فيها حاسَّة السمع، ومن ومن؟!.الخ.

إنَّ الجنين في بطن الأم تحت أمعاء مشحونة بالطعام والفضلات، ووسط أجهزة لا تعي إلا ما سخرت له من وظائف مُعينة، فهل يراد منا أن نتصوَّر الخالقَ للسمع والبصر والفؤاد هو الجهاز البولي أو الجهاز الدوري؟.

إننا نتصوَّر بغلاً يَبنى الأهرام، ولا نتصور هذا الذي يفترضه الملحدون حين ينكرون الألوهية في هذا المجال الناطق باسمها الدال على عظمتها.

إنَّ الخلقَ يا أولي الألباب وظيفةٌ لها مؤهِّلات، إنَّ إيجاد شيء من عدمٍ أو من غير عدم يقتضي أوصافاً مُعيَّنة لابدَّ منها، إنَّ تجميع آلات الراديو ووصلها بالتيار لتنطق عمل لا تطيقه دابَّة من الدواب، ففاقد الشيء لا يعطيه، إنما يستطيع هذا امرؤ له عقلٌ وخِبْرة.

والذين يتصوَّرون العالم المنسَّق الرتيب قد كوَّنته مادَّة لا روح بها ولا وعي، قوم يُريدون أن يشيعوا غفلتهم أو تغفيلهم بين الناس وهيهات.!

 قال لي أحد هؤلاء: أتنكر نظرية التطوُّر؟ فقلت له: لنفرض جدلاً أنَّ نظرية التطور أضحت حقيقة علمية ثابتة، وليست نظرية يمكن أن يعدل العلماء عنها إلى تفسير أصدق لأصل الأنواع فماذا تفيده تلك النظرية؟ هب الإنسان كان أولاً (أميبا) ثم ارتقى حتى أصبح كما هو الآن، أفمعنى ذلك أنَّه لا إله؟ كلا إنَّ الزعم بأن هذا التطور يتم من تلقاء نفسه لأنَّ بالأشياء خصائص تجعلها تتدحرج من فوق إلى تحت أو تتدرج من تحت إلى فوق، هكذا من غير مؤثر خارجي، زعم فارغ من العلم والمنطق!.

إنَّك تتصوَّر في تراب الحقول الذي تأنقت فوقه الأزهار والأثمار عبقرية مُصورة خلاقة، وأنا لا أتصور في تراب الحقول شيئاً من هذا وأرجع وجود الأزهار والأثمار إلى كائن أعلى هو الجدير بأن يُسمَّى الخالق المصور.

 إنك تستقبل الوليد حين ينفتح عنه الرحم، زاعماً أنَّ في جسم الأم المصانع التي نسجت اللحم، وأنشأت العظم، وأوجدت المخ قابلاً للذكاء والتفكير، وأنا لا أرى في جسم الأم إلا مجالاً لعمل المشرف الأعلى، الذي يقول: 

[وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ] {المؤمنون:12-14}.

 إنَّك تنظر إلى القصر المشيَّد فتقول: بناه ما في البلاط من خصائص، وما في الأخشاب من طبائع! وأنا أقول: لا، بل مهندس معه أدوات التفكير والتنفيذ، إنَّ ما تُسمونه علماً هو الجهل بعينه: [أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا] {الفرقان:44}.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(من كتاب: الجانب العاطفي من الإسلام، للعلامة الشيخ محمد الغزالي)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين