القول في الدعاء للكافر الميت بالرحمة

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فإن الدعاء بالرحمة والمغفرة للكافر الميت لا يسوغ عند عامَّة العلماء حتى نقل القاضي عياض والنووي الإجماع على منعه، وسند الإجماع النصوص الظاهرة كقوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى) [التوبة: 113] فإذا منعه لذوي القربى مع شدَّة الميل لهم، فمنعه في غيرهم أولى في القياس والنظر.

وهذا قاطع لأنه قرَّر المنع بنفي الكون، وهو أبلغ في النهي من مجرَّد تسليط النفي على الفعل، إذ معناه أنه يمتنع صدور الاستغفار للمشرك منهم بحال، كقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً} [الأحزاب 53].

وأما من يفتي من العصريين بجوازه، فلا سند لهم إلا عمومات غلطوا في نقلها أو فهمها، كما يحتجُّ بعضهم بقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف 156] ويذهل عن تتمتها بقوله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} الآية! ولهذا قال العلماء بالتفسير؛ قتادة وغيره: وسعت رحمته البر والفاجر في الدنيا، وهي في الآخرة للذين يتَّقون خاصة.

وقد فسَّره بما بعدها وهو قوله: {الذين يتَّبعون النَّبي الأمِّي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} ومفهومه: أن من لم يتَّبع النبيَّ الأمِّي من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار، فلا تناله رحمته تعالى، كما أخرج ابن جرير عن قتادة، قال: {عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء} فقال إبليس: أنا من ذلك الشيء! فأنزل الله: {فسأكتبها للذين يتقون}معاصي الله {والذين هم بآياتنا يؤمنون} فتمنَّتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطا وثيقا بيِّنا، فقال: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} فهو نبيكم، كان أميًّا لا يكتب صلى الله عليه وسلم.

وقد أجمع أهل التأويل على قولين في معناها، فمنهم من قال كابن عباس وغيره: هي من العام الذي أريد به الخصوص، وهذا الذي ذكره عبد العزيز الكناني المكي لبشر المريسي في مناظرته بحضرة المأمون، فإنه ذكر له وجوه محامل نصوص القرآن، فذكر منها الخبر الخاص الذي مخرجه عام مثل: (ورحمتي وسعت كل شيء) قال: وهي لم تسع إبليس والكفار، لقوله: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك) وهؤلاء العصريون من هنا أُتي المتحذلق منهم، من جهة عدم معرفة الأصول ووجوه الخطاب القرآني وأنواعه.

ومن أهل العلم بالتفسير كالحسن وغيره من قال: إن عمومها في الدنيا للبر والفاجر، وخصوصها لأهل الإسلام في الآخرة، كما نقله عنهم أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما، فهي عامَّة في الدنيا خاصَّة في الآخرة كقوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) فهو عام من وجه خاص من وجه.

ولم يقل أحد من العلماء إنـَّها من العموم الشمولي، وأنَّ عمومها شامل للمسلم والكافر، في الدنيا والآخرة، كما يقوله هؤلاء العصريُّون بلا سند ولا أصل، فالقول به غلط ظاهر لما تقرر في الأصول من عدم جواز إحداث قول ثالث ينقض أصلًا مشتركًا عليه بين القولين.

وهكذا القول في نظائره كقوله تعالى: (إن ربك واسع المغفرة) ونحوه، فإنه يختص بأهل الإسلام في الآخرة على معنى دخول الجنة، والنجاة من النار، ومن حمله على عمومه في الدنيا والآخرة للمسلم والكافر، فقد ناقض وضرب نصوص القرآن بعضها ببعض، لأنَّ الله أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأخبر بأنَّ الجنة لا يدخلها إلا مؤمن بالله ورسوله، وغير ذلك من النصوص القاطعة، والقطعيَّات لا تتناقض.

ومن أغرب ما رأيناه في المسألة، استدلال الشيخ عصام تليمة للجواز بخطاب النبي عليه الصلاة والسلام لهرقل بعظيم الروم أو للمقوقس بعظيم القبط، ويروم عبثًا تقرير أن الشهادة إنما تطلق على الكافر الميت بحسب عرف دينه، فيزعم أنه يطلقها على هذا المراد!

وهذا لو سلم فغايته أن يفيد إطلاق الشهادة مقيدة فيقال: شهيد النصارى، ومعلوم أن قياس هذا الإطلاق على تسمية المقوقس بعظيم القبط، قياس مع الفارق وهو باطل، لأن الكلام إنما هو في الميت. وهذا المقوقس حي، والحي الكافر يسوغ الدعاء له بالرحمة والمغفرة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لقومي).

وأيضا: يقال له: هل يدخل الكافر الميت بالشهادة له بالجنةَ أم لا؟ فإن قال: يدخل، فقد ناقض النص والإجماع اللذين دلَّا على أنه لا يدخل الجنَّة إلا نفسٌ مؤمنة، وهذا كافر بالله ورسوله.

وإن قال: لا يدخل، فأي طائل من وصفه بالشهادة؟ وهذا عبث يتنزَّه عنه الشارع الحكيم، وإن أراد بالشهادة معنى آخر فما هو؟ فليذكره حتى نتكلم عليه.

والعجب أنه يحتج بحديث: شهداء الدنيا، وهم المبطون والغريق وغيرهم ممن صحَّ بـهم الخبر النبوي، وهذا من جنس العبث واللعب بالدين ونصوصه وأحكامه، فإن الأحاديث الواردة في هذا المعنى تختص بالإجماع بمن مات على الإسلام بغرق وحرق وهدم ونحو ذلك، والأعجب منه أن هذا المستدل حين ساق الحديث، أورده بلفظ: (شهداء أمَّتي) ثم يستدل به على جواز إطلاق وصف الشهادة على من مات كافراً!

وقد يستدل بعضهم بقوله تعالى: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) {التوبة 80} تخريجًا على قول الحسن وقتادة وعروة إنه تخيير، والجمهور على أنه تأييس بدليل قوله بعدها: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) وعلى القول بأنه تخيير فقيل: إنه منسوخ بقوله تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) {المنافقون: 6} ولهذا عُدَّ هذا من موافقات عمر رضي الله عنه، لأنه أشار على النبي عليه الصلاة والسلام بترك الاستغفار فنزلت الآية على مقتضى مشورته، كما أشار إليه الحافظ السيوطي في (نظم موافقات عمر) بقوله:

وقولهُ لا يؤمنونَ حتى ... يُحكِّموكَ إذ بَقْتْلٍ افْتَى

وآيةٌ فيها لبَدْرٍ اوْبَهْ ... ولا تُصَلِّ آيةٌ في التوبهْ

وقيل: إنه خاصٌّ بولد عبد الله بن أُبي لتطييب خاطره، وقيل: يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أن المغفرة قطعًا لن تحصل لهم لقوله تعالى: (لن يغفر الله لهم) فرخَّص في مجرد الاستغفار لهم، له عليه السلام خاصَّة، تحنُّثا لأنه تعهَّد بذلك فكانت الرخصة فيه للتبرر من العهد كموعدة إبراهيم في الاستغفار لأبيه سواء، ولهذا نفى كونه بعد واقعة ابن أُبي بقوله: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) فمن يجوّزه اعتماداً على استغفاره لابن أُبي فإنه يناقض نص القرآن بالنفي الصريح، ولهذا لم يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره، ومع هذه الاحتمالات الظاهرة لا يتم الاستدلال.

وفي (المسند) وحسَّنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي عن علي عليه السلام، قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت: تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أليس قد استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك؟ قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) {التوبة: 113} إلى آخر الآيتين، قال عبد الرحمن: فأنزل الله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) {التوبة: 114}.

فأبطل النبي عليه الصلاة والسلام استدلال من استدلَّ باستغفار إبراهيم لأبيه، على الاستغفار للمشرك ولم يفصل، ومعلوم أن ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال كما قاله الشافعي، ولا بيَّن، والمقرر في الأصول أنَّ ترك البيان عن وقت الحاجة لا يسوغ، وهذا قاطع في امتناع صدور الاستغفار للمشرك الميت.

وأيضا: فإن إبراهيم عليه السلام إنما استغفر لأبيه -على الخلاف هل كان أباه أو عمه- لوعد تقدَّم منه بأن يؤمن، ولهذا لما تبيَّن له أنه كافر بالله تعالى، تبرأ منه، كما قال تعالى: (فلما تبيَّن له أنه عدو لله تبرأ منه) {التوبة 114}.

وقد حكى الفخر في (تفسيره) أنَّ من الناس من حمل قوله: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) على صلاة الجنازة، قال: (وبـهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار: تخفيف العقاب، قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين، وهو قوله: {ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً} وفي هذه الآية عمَّ هذا الحكم، ومنع من الصلاة على المشركين، سواء كان منافقًا أو كان مظهرًا لذلك الشرك، وهذا قول غريب).

وهو على غرابته، يختص بالاستغفار ولا يعم الشهادة، لأن الشهادة يلزم منها دخول الجنة، والكافر ممنوع من دخولها أبد الآبدين، وأمَّا الاستغفار فلا يلزم منه ذلك، بل إن قُدِّر جوازه على هذا القول الغريب، فالمراد به تخفيف العذاب كما تراه في كلام الفخر، وبه تعلم أن من تـهوك في إطلاق لقب الشهيد على الكافر الميت فقد جازف وارتكب جهلا فاضحا!

وأيضا: فلا يلزم من حمْل النَّهي في الآية عن الاستغفار للمنافقين، على صلاة الجنازة، جواز الاستغفار للكافر الميت، لأن النهي عنه -على تقدير أن هذه الآية لا تفيده- قد أفادته ودلت عليه النصوص الأخرى كما يأتي، فكيف والنص الدال على النهي عن الاستغفار لهم، مستقلّ عن النهي عن الصلاة عليهم، فقصره عليه بلا دليل تحكُّم وهو فاسد.

وليعلم أن من الناس من خلط بين مسألة انتفاع الكافر بأعماله الصالحة في الآخرة، وبين الدعاء له بالرحمة، فتوهَّم أنَّ الثانية أصل للأولى، واندفع يقرر الخلاف في الدعاء للكافر الميت بالرحمة، بناء على الخلاف في انتفاعه بأعماله الصالحة، واجترأ بعض الدكاترة على تخطئة العلماء الناقلين للإجماع كعياض والنووي، بمجرد هذا الفهم الخاطئ!

وهذا من جنس غلط الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى-في مسألة القراءة عند القبور، فإنه توهَّم أنـها مبنية على مسألة حكم وصول ثواب القراءة للميت وانتفاعه بـها، فنسب للشافعي المنع من قراءة القرآن عند القبر لأجل قوله بأن ثواب القراءة لا يصل للميت، مع أنَّ الشافعي نصَّ في القديم والجديد على استحباب القراءة عند القبر!

ولا يلزم من القول بانتفاع الميت الكافر بأعماله الصالحة في الآخرة، القول بجواز الترحُّم عليه، لأن معنى انتفاعه بعمله الصالح تخفيف العذاب عنه كما ورد الخبر به في حال أبي طالب، وكذلك لا يلزم من القول بعدم وصول ثواب القراءة للميت، القول بعدم جواز القراءة على قبره، لأنَّ الشافعي نصَّ على أنه ينتفع بنزول السكينة بقراءة القرآن عند قبره وإن لم يصل ثوابـها إليه.

ومن الناس من خلط بين مسألة جواز غفران بعض الشرك، وهو قول طوائف من أهل الكلام والنظر وهي مسألة خلافية، وبين مسألة امتناع الاستغفار والترحم على موتى المشركين، وهي مسألة اتفاقية إجماعية، فتوهم أنَّ الثانية لازمة للأولى ومبنية عليها، وهو غلط قبيح ولهذا عجز عن أن يأتي بنقل واحد عن أهل العلم ممن يجوز مغفرة بعض الشرك، في أنه يجوز الاستغفار للمشرك الميت والترحُّم عليه، ولن يقدر عليه أصلا، لأنـهم داخلون في الإجماع الذي حكاه القاضي عياض والنووي على امتناع الاستغفار والترحم للميت الكافر.

ووجه الخلط: أن مسألة جواز غفران بعض الشرك مختصَّة بالمسلم إذا وقع منه الشرك، وله أدلة لأجلها خصَّ بعض المتكلمين بـها عموم النصوص التي فيها أن الشرك لا يغفر منه شيء، ومن هذه الأدلة حديث الرجل الذي أمر أولاده بحرقه وذَرِّ رماده وقال: "لئن قدر الله عليَّ ليجمعني"، فهذا شك في قدرة الله وهو شرك، ومع هذا غفر الله له لأن معه الأصل وهو التوحيد، وهذه المسألة مختصَّة بالمسلمين ولا تجري في المشركين والمرتدين! فلا يلزم من القول بذلك، القول بجواز الاستغفار والترحُّم على المشرك الميت.

ومنهم من أخطأ الفهم عن الله في قوله: (إن تعذِّبـهم فإنـهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) {المائدة 118} وهذا يفضي إلى تضادّ النصوص واختلافها ولابد وهو مجمع على منعه في نصوص الشارع، لأن نصوص الكتاب قاطعة بأنـهم مخلَّدون في النار، كقوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) {المائدة 72}.

فيتعين أنَّ المراد بآية (إن تعذبـهم) أنه عليه السلام تأدب مع ربه ففوَّض الأمر إليه فيما لا وحي فيه، فقضى الله بأن كل كتابي لم يؤمن بالنبي الخاتم مخلد في النار، وأيضا فقول المسيح عليه السلام منسوخ بشرع نبينا صلى الله عليه وسلم الخاتم، وأيضًا فكلام المسيح عليه السلام خرج بمقتضى رأفته ورقته، ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر به في قضية حكمه على أسرى بدر، وهو عليه السلام لم يحكم عليهم، بل فوَّض حكمهم إلى الله تعالى، فجاء القاطع بحكمهم أنـهم مخلَّدون في النار، فلا يستقيم ردُّ القطعي المحكم بظنّي متشابه فإن هذا من صنع أهل البدع والضلال عائذاً بالله منهم.

على أنَّ في الحيل الشرعية مندوحة عن مخالفة نصِّ الشارع، فإذا اضطر للدعاء للميت الكافر لأجل مقام يقتضي الحال فيه المداراة في سياسة أو إعلام، فله أن يدعو وينوي، فيضمر في نفسه معنى الرحمة من نصب الدنيا وتعبها كما قالوا في التهنئة للكافر بعيده وتعزيته بموت.

والغريب أن هؤلاء الذين يرقبون في الإنسان حقَّ إنسانيَّته، فيدعون للكافر الميت بالرحمة بمجرد ذلك، يغفلون في الرب جل جلاله حقَّ ربوبيَّته، وفي النبي صلى الله عليه وسلم حقَّ نبوَّته، اللذين لم يحترمهما الكافر فكفر بـهما، فلا أعظم في سبِّ الرب من الشرك به تعالى، ولا أعظم جرمًا في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم من الإعراض عن اتِّباع شرعه، ومعلوم أن الترحُّم على الكافر الميت فيه غمط لحق الله ورسوله ورفع من منتقصهم، ولهذا نـهي عنه.

وأما إنسانيته فتكريمها بدفنه كما أخرج ابن حزم أن أم الحارث بن ربيعة وكانت نصرانية فماتت، فشيَّعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا يكون بتعزية أهله وتكريمه بذكر محاسنه والكف عن سبه لعموم حديث: (لا تسبوا الأموات) وهذا معنى احترام موته وإنسانيَّته.

ولا يكون احترامها بالدعاء له على حساب إهمال حق الله ورسوله وشرعه الذي لم يحترمه الكافر، ولهذا نـهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذكر أبي جهل بما يعود بالأذى على ولده عكرمة الصحابي رضي الله عنه، كما لا يسوغ ذكر أبي طالب بالسوء لأن فيه أذيَّة النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الكبائر، لكنه لم ينقل عنه الدعاء والترحُّم عليه ولا أمر به، ومعلوم أن أبا طالب نصر النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمستضعفين من أصحابه بما لا يقوم به أحد من بعده، ومع هذا لم ينقل عنه أنه أرخص في الدعاء له، فكيف بمن هو أدنى منه.

وفي (الصحيح) أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله ابن أبي أميَّة بن المغيرة، فقال رسول الله لأبي طالب: (أي عم، قل لا إله إلا الله أحاجّ لك بـها عند الله)؟ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك) فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنـهم أصحاب الجحيم) وهذا صريح في النهي، ويصلح أن يكون مثالا ودليلا لمن جوز نسخ السنة بالكتاب خلافا للشافعي وأحمد في المنع، لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (لأستغفرن لك) نُسخ بالآية.

وأيضا فقد صحَّ أنه عليه الصلاة والسلام استأذن ربه في الاستغفار لأمه آمنة فلم يأذن له، وهي من أهل الفترة الذين لا يُعلم مصيرهم لأنـهم ممتَحنون على الصحيح كما صحَّ به الأثر، فكيف بمن عُلم أنه مات على الكفر!

وأيضا: فقد صح أن عائشة قالت: يارسول الله، إن ابن جدعان كانت يصل الرحم ويحمل الكَلَّ ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك -أي: ينجيه من النار- فقال عليه السلام: (لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي: لم يُسلم.

والنصوص في هذا المعنى كثيرة، ومن خالفها فجوَّز إطلاق وصف الشهادة للكافر الميت، فلا سند له، لا من قرآن ولا سنة ولا قول صاحب ولا قياس ولا نظر صحيح سوى غلبة المؤثر العاطفي على عقله ودينه، ولا له في ذلك سلف من أهل العلم، والعجب أنه يرد كل هذه القواطع المحكمة بظنيات ومشتبهات توهم أنـها أدلة ولا وجود لها إلا في خياله.

وأما الاستغفار للكافر الميت، فلا يسوغ عند عامَّة العلماء إلا إن اضطر إليه في مقام يستدعي الحرج كما مر، فيدعو بذلك على معنى تخفيف العذاب عنه والرحمة من تعب الدنيا، ويضمره في نفسه احتياطًا.

وبعد: فيقال لهؤلاء المفتين على هوى الناس والإعلام والسياسة يلتمسون المخارج لهم على حساب الأحكام الثابتة: ما أخرجه أبو نعيم عن مالك بن أنس عن ربيعة قال : وقف علي بن خلدة -قاضيا كان علينا- فقال: يا ربيعة، إن الناس قد طافوا بك، فليكن همك إذا أتاك السائل أن تخلص نفسك وتخلصه.

والعلم الرخصة من ثقة، كما قال سفيان، وليس الرخصة بلا ثقة كما يريده هؤلاء، وقد قال الأوزاعي: (عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإيَّاك وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسَّنوه، فإن الأمر ينجلي وأنتَ منه على صراط مستقيم).

وأخرج أبو هلال العسكري في (الأوائل) عن أبي درهم أنَّ الحجاج بعث إلى الحسن البصري، فلما حضر قال له يزيد بن أبي مسلم: إنَّ الأمير يريد أن يدفع إلى التجار ألف درهم على أن يردوها إليه عند الحول (دَه دَوازده) فما ترى؟ قال: (ذلكم محض الربا)! قال: لا تُفسد على الأمير عملَهُ؟ فقال الحسن: (إن الله لم يجعل هذا الدين هوى للملوك) والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين