القرضاوي العلَّامة الكبير .. الدولة الكبيرة
مالئ الدنيا وشاغل الناس
سيد أحمد بن محمد السيد
الحمد لله رب
العالمين القائل: (شهد الله أنه لا إله إلا هو
والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط)، والقائل
عزَّ شأنه أيضا: (يرفع الله الذين آمنوا منكم
والذين أوتوا العلم درجات)، والصلاة والسلام
الأتمان الأكملان على سيدنا محمد القائل: "العلماء
ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورَّثُوا العلم
فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر"، والقائل أيضا: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا
حقه"، والقائل: "لا
يستخِفُّ بالعالم إلا منافق"، والقائل: "يحمل هذا العلم من خلف عدوله ينفون عنه تحريف
الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"،
أما بعد:
فإن تاريخنا
الإسلامي - في مختلف عصوره- قد حفظ لنا نماذج كبيرة وعظيمة ورائعة لعلماء أعلام
-"جبال"- أجلاء كبار وأفذاذ كانوا يعادلون - في وزنهم وهيبتهم وتصرفاتهم
وسلوكهم وحالهم وقالهم- دُولا كبرى، وحُكوماتٍ عظمى، بجيوشها وعروشها وممتلكاتها؟!
وإذا كان سلاطين
الناس وحكامهم ورؤساؤهم الدنيويون يحكمون أجساد الناس وأشباحهم؛ فإن العلماء
الربانيين - خريجي المدرسة المحمدية- يحكمون قلوب الناس ونفوسهم وأرواحهم؟!
وسأذكر من ذلك
الطراز الرفيع والنمط الفريد خمسة علماء أعلام:
*أولهم: إمام دار الهجرة مالك
بن أنس الأصبحي ت 179هـ؛ الذي كان
سلطانا بعلمه ونبوغه وهيبته وصدعه بالحق وعدم بيعه دينه بدنياه.
وقد صوَّرَ عظَمَتَه وهيبتَه تلكَ شاعرٌ مدحَه بقوله:
يدع
الجواب فلا يُراجَعُ
هيبةً و السائلون نواكس
الأذقانِ
أدب الوقار، وعز سلطان التقى فهو المطاع ، وليس ذا
سُلطانِ
*تزيين الممالك بمناقب
الإمام مالك للسيوطي 38.
*ثانيهم: عز الدين عبد
العزيز بن عبد السلام السلمي
الدمشقي؛ سلطان العلماء ت 660هـ: العلامة الفقيه الشافعي الأصولي الذي بلغ رتبة
الاجتهاد، والذي وصفه السبكي بقوله فيه: "القائم
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه".
وقال ابن شاكر
الكتبي واصفا إياه: "وكان أمَّارا بالمعروف
نَهَّاءً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم".
والذي كانت تهابه
الملوك ولا يهابهم، وقد وقف في وجوههم مرَّاتٍ صادعا بالحق لا يخاف في الله لومة
لائم؛ بل هم كانوا يهابونه، ويحسبون له كل حساب، وقد اصطدم معه الملك الأشرف
"بسبب مسألة الكلام، وتعصب الحنابلة فيها وتأليبهم عليه"- ففرض عليه
الإقامة الجبرية، ثم صالحه الملك الأشرف وندم على ذلك، ومنع الكلامَ على مسألة
الكلام.
واصطدم مع ملك الشام
الخائن "الصالح إسماعيل" الذي خاصم أخاه ملك مصر "نجم الدين
أيوب" واستعان بالصليبيين على أخيه وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة صفد، وغيرهما؟!
فهبَّ الشيخ في وجهه ووجه الخائنين معه، وخطب وأفتى بتحريم بيع السلاح لهم من على
منبر الجامع الأموي، وقطع الدعاء للسلطان، فعزله واعتقله مع صاحبه ابن الحاجب
المالكي؛ لاشتراكه
معه في الإنكار على
السلطان إسماعيل. ثم أراد السلطان مصالحته وإرجاع مناصبه إليه بشرط تقبيل يد
السلطان فأبى الشيخ قائلا لرسول السلطان: "والله
يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد وأنا في
واد؟!!".
ثم هاجر الشيخ عز
الدين إلى مصر ونجا من أسر السلطان الخائن، ووصلها مُعززا مُكرَّما من سلطانها
الذي عينه قاضي القضاة بمصر.
ثم تعرَّض لمحنة
أخرى كادت تودي بحياته وهي فتواه ببيع أمراء الدولة التي انتصر فيها وباع أولئك الأمراء ثم أعتقهم،
وصرف ثمنهم في وجوه
الخير، ورجعوا إلى
مناصبهم بعد أن غدوا أحرارًا، وتخلَّصوا من رِقِّهم!!
وعاش الشيخ عزيزا
بمصر وتوفي فيها عزيزا كريما، بعدما أعزَّ شرع الله فأعزَّه الله تعالى، وخلَّد
التاريخ اسمه بحروف من نور في الشرفاء الأحرار.
*الإسلام بين العلماء
والحكام. للشيخ عبد العزيز البدري ص 191- 197.
*ثالثهم: العلامة الفقيه المحدث نجم الدين محمد بن سالم الحفني
الشافعي ت 1181هـ؛ "شيخ الجامع
الأزهر، ورئيس مصر، وعُمدتها وقُطبها"؛ كما
وصفه تلميذه العلامة الموسوعي اللغوي أبو الفيض محمد مرتضى الزبيدي. المعجم المختص ص 800.
ووصفه المؤرخ المصري
الكبير عبد الرحمن الجبرتي بقوله: "... وشاع
ذكره في أقطار الأرض، وأقبل عليه الوافدون بالطول والعرض، وهادته الملوك، وقصده
الأمير والصعلوك...". عجائب الآثار 1/462.
*رابعهم: العلامة الموسوعي اللغوي الكبير الفقيه
المحدث أبو الفيض محمد بن محمد؛ مرتضى الحسيني
الزبيدي ت 1205هـ: الذي وصفه
تلميذه المؤرخ الكبير عبد الرحمن الجبرتي ت 1241هـ بقوله: "... فعظم أمره وانتشر صيته، وطُلِب إلى الدولة فأجاب، ...
وكاتبه ملوك النواحي؛ من الترك، والحجاز، والهند، واليمن، والشام، والبصرة،
والعراق، وملوك المغرب، والسودان، وفزَّان، والجزائر، والبلاد البعيدة، وكثُرت
عليه الوفود من كل ناحية ...". عجائب الآثار في التراجم والأخبار 2/309.
*خامسهم: العلامة المحدث الكبير الرباني الشيخ محمد بدر الدين بن يوسف
الحسني البيباني الدمشقي ت 1354هـ- 1935م: الذي وصفه تلميذه الشيخ علي
الطنطاوي ووصف غرفته تلك - بدار الحديث بدمشق- المُتواضعة بمظاهرها، العظيمة
بشيخها فقال: "... ويمضي إلى دار الحديث إلى
غرفة له فيها صغيرة مبسوطة بالبُسط، ما فيها إلا جلد و(طُرَّاحة) ومِخدَّات من
قَشٍّ، ولطالما دخل هذه الغرفة من ناس: من رجال الدين ورجال الأديان، وطالما دخلها
علماء أعلام وأمراء وحكام كانت ترْتَجُّ الأرضُ مِن تحتهم، وترتجف القلوب من
خشيتهم، فإذا دخلوها نزعوا أحذيتهم وجلسوا على ركبهم، وتخشَّعوا وصمتوا، جمال
باشا، (وما أدراكم ما جمال باشا) وولاة قبله، ومُفوَّضون سامون من بعده؛ فكان جلال
هذه الغرفة يجعل الجبّار طفلا، والعالم العلامة تلميذا، والكبير عند نفسه وعند
الناس صغيرا أمامَ هيبة العلم والدين والتقى".
رجال من التاريخ 137.
*ووصفه أيضا فقال: "وكان الشيخ بدر الدين -كما قلت لكم- شيخَ دمشق،
أمره فيها الأمر، لا يخرج عليه حاكم أو محكوم".
رجال من التاريخ 145.
وشيخنا القرضاوي -
فيما أرى- من هؤلاء العلماء السادة، وهو سادسهم؛ فقد ملأ الدنيا وشغل الناس بكتبه
ومُصنفاته المختلفة والمتنوعة، والتي نيَّفت على السبعين، وقد شملت جُلَّ العلوم
الإسلامية من فقه وأصول وتفسير وعقيدة وسير وسلوك وتصوف واقتصاد إسلامي، والتاريخ
والتراجم، والتربية والحركات الإسلامية، والشعر والأدب، ... إلخ.
كما ملأ الدنيا وشغل
الناس بفتاواه التي شرَّقت وغربت، ولبَّت احتياجات شرائح واسعة من المسلمين في جُلِّ
أقطار الدنيا.
وملأ الدنيا وشغل
الناس بدروسه ولقاءاته ومحاضراته التي ألقاها في وسائل الإعلام المقروءة والمكتوبة
والمسموعة؛ في الصحف والمجلات المختلفة، وفي الإذاعة والتلفاز التقليديين، ثم عبر
القنوات الفضائية العديدة، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
كما ملأ دنيا الناس
وشغلهم بمذكراته المطولة الشائقة والماتعة والواسعة التي استغرقت نحو 2390 ص، وجُمعت
في كتاب بعدما كُتبت في بعض الصحف القَطَريَّة، وأذيعت خلاصتها في ثلاثين حلقة
تلفازية على قناة
"الحوار"
الفضائية اللُّنْدُرِيَّة سنة 2016م، وقد شاهدت وتابعت أكثرها، بفضل الله تعالى.
وقد ضمَّت أخبار
ونشاطات نحو سبعين سنة من العمل المُتواصل الدؤوب، والأسفار والرحلات في خدمة
الدعوة الإسلامية، تدريسا وتأليفا وتعليما وإفتاء، وإنشاء وتأسيس مؤسسات وهيئات،
أو المشاركة والإسهام فيها.
وملأ وشغل الناس
بقصائده وأشعاره الرائقة الفائقة التي تَهُزُّ الوجدان وتُحرِّك القلوب والنفوس والمشاعر
وتُطربها وتُرقصها بمعانيها ومبانيها، وبكونها تُعبِّر عن هموم الناس وقضاياهم
الحقيقية؛ من فضح الظلم والحُكام الظلمة والمستبدين وتعريتهم، والدعوة إلى الحرية
والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية للشعوب، ولا سيما لشعوبنا العربية
والمسلمة، وتَسخَر من كل أشكال الظلم والقهر والتعذيب والعسف والسجن والقمع لهذه
الشعوب المسكينة والمغلوب على أمرها، والمبتلاة -أكثرها وجُلُّها- بحُكام طغاة فاسدين يسومونها سوء العذاب، وهم أذلاء
خانعون لأعدائهم وسادتهم الغربيين، ومُستأسدون مُستنسرون على شعوبهم الضعيفة؛ التي
يحكمونها بالحديد والنار، ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمّة؟!
كما أنه ملأ وشغل
الناس بمواقفه الثورية ومناصرته لـ ثورات "الربيع العربي" السلمية
للشعوب العربية المظلومة المكلومة على حكامها الطغاة الفَسَدَة الفجَرة الجَوَرَة،
في تونس وليبيا واليمن ومصر وسورية.
أيَّدها بخطبه في
مساجد الدوحة ومصر، وعبر دروسه في قناة الجزيرة الفضائية، وفي الصحف ووسائل
التواصل الاجتماعي؛ فتابع أخبار هذه الثورات السلمية أوَّلا بأول، وساندها، وفرح
بها، ووجه أصحابها وشجعهم وحرَّضهم، وحضهم ودعاهم إلى الاستمرار بها سلمية، وعدم
تخريب الأشياء والممتلكات العامة، ومنع الشرطةَ والعساكر من إطلاق النار على
إخوانهم المتظاهرين السلميين، وحرَّم ذلك عليهم، ودعاهم إلى عِصيان أوامر قادتهم
في ذلك؛ لأنه أمر بالمُنكر، وقتل بغير حق.
كما دعا الحكام إلى
الاستجابة إلى مطالب الشعوب المُحِقَّة؛ من الحرية والديمقراطية، والعدالة
والكرامة والعيش الكريم، وإصلاح الفساد المالي والإداري والسياسي، وإجراء إصلاحات
حقيقية ملموسة.
ووقف مع الثورة
التونسية "ثورة الياسمين" حتى سقط طاغيتها "زين العابدين بن
علي" وفرَّ هاربا إلى السعودية، وزوجه "سلمى الطرابلسي" هربت
بأموالها إلى الإمارات.
كما وقف مع الثورة
المصرية حتى سقط طاغيتها المخلوع و"غير المبارك حسني"، ونزل إلى ميدان
التحرير في القاهرة وخطب خطبته الشهيرة خطبة الجمعة في الملايين من الناس، وكان
يوما مشهودا، شارك فيه أبناءَ شعبه المصري أفراحَهم بزوال الكابوس الذي جثم على
صدورهم طيلة ثلاثة عقود، وهو يسرق وينهب ويفسد البلاد والعباد.
وكذلك فقد وقف شيخنا
مع الثورة والثوار في ليبيا حتى انتصروا على طاغوتها ومِسْخها الوقح القميء الهمَجي
"مُعمَّر القذافي" سنة 2011م.
هذا ولا ننسى وقوف
شيخنا مع ثورة إخواننا في سورية ضد بطش نظام البعث الفاجر القاتل الجائر، ونظام
بشار الأسد وأبيه الذي أفسد الحرث والنسل، وأرهق البلاد والعباد طيلة أربعة عقود؛
ثم زاد في طغيانه بعد الثورة السورية المباركة حتى قتل مئات الآلاف من السوريين،
وسجن وعذب واختطف مثلهم كذلك، كما هجَّر الملايين منهم داخلَ سوريا وخارجها إلى
جُلِّ أنحاء العالم.
فكان شيخنا القرضاوي
مع الثوَّار السوريين منذ بدء ثورتهم في شهر آذار مارس 2011م، في خطبه ودروسه
ولقاءاته التلفازية والصحافية، يوجه الثوار ويُرشدهم، ويُشجِّعهم ويحضُّهم على
الاستمرار، ووقف ضد حزب اللات الشيطاني اللبناني، وضد إيران الرافضية الداعمة
للنظام البعثي الأسدي الطائفي في دمشق، وفضحهم وعَرَّاهم، ودعا الشعوب العربية
والمسلمة للوقوف مع الشعب السوري المظلوم المكلوم، ودعمه ماديا ومعنويا، وردَّ على
المُشككين والمُثبِّطين لهمم الثوار، بقولهم: إن هذه الثورات من الفتنة المنهي
عنها شرعا، وبيَّن أن السكوت على الحكام الظلمة، وعدم الإنكار عليهم هي الفتنة
الكبرى، وأن الثورات السلمية هي من إنكار المنكر بالقول واللسان، وأنها مشروعة
ومُثاب فاعلوها؛ بل هي واجبة، وأنها ليست من الفتنة المذمومة في شيء.
هذا وقد عانى الشيخ
في موقفه هذا المشرف والشجاع الشيءَ الكثير، ودفع
الثمنَ غاليا، من
أعداء الثورات العربية، وداعمي الثورات المُضادة بالمال والرُّز الخليجي الفاسد؛
الذين شيطنوا الشيخ، وشيطنوا جماعة الإخوان المسلمين المعتدلة الوسطية التي يُعدُّ
أصحابها بالملايين، وشيطنوا كذلك كل مُؤيِّديهم من الشرفاء، وهم بالملايين.
ولم يبال الشيخ
بحملات السفهاء والعملاء المنافقين المشبوهين والمُشوِّهين لصورته؛ بل ثبت على
موقفه المُشرِّف هذا، وواصل مسيرته في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة،
والصدع بالحق، حتى وافاه أجله.
*وبعد: فماذا يمكن لكاتب أو شاعر أو ناثر أو مؤلف فرد
وضعيف مثلي أن يُحيط بأعمال وأحوال وخدمات شيخنا هذا الرجل "الدولة"
العظيم، وما قدمه للدعوة الإسلامية، وللمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟!
إنه الحبر والبحر في
العلم والفكر والثقافة، والرجل في أمة؛ في السعي والعمل والبذل والعطاء، وصدق الله
العظيم القائل: (وربك يخلق ما يشاء ويختار)، والقائل: (نرفع درجات
من نشاء)، والقائل: (يختص
برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
وكما جاء في الأثر: "إن
لله خَوَاصَّ، في الأزمنة والأمكنة والأشخاص".
ولله دَرُّ الشاعر القائل:
إن الأكابر يحكمون على الورى و على الاكابر
تحكم العلماءُ
والآخَر القائل:
حلف الزمان ليأتين
بمثله إن الزمان
بمثله لبخيلُ
والآخر القائل:
حلف الزمان ليأتين
بمثله حنثت يمينك
يا زمانُ فَكَفِّرِ
رحم الله شيخنا
القرضاوي رحمة واسعة، وعوَّض الأمة عن وفاته خيرا، وجزاه عنا خير الجزاء كفاء ما
قدم لدينه وأمته، وحشره مع سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، مع
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول