القاضي عبد البر ابن الشحنة الحلبي القاهري الحنفي

 

 

حدث في الخامس من شعبان

 

في الخامس من شعبان من سنة 921 توفي في القاهرة، عن 70 عاماً، قاضي القضاة أبو البركات سري الدين عبد البر بن محمد بن محمد ابن الشحنة الحلبي ثم القاهري الحنفي، القاضي ابن القاضي ابن القاضي، والعالم والشاعر. والشحنة كما قال الأستاذ الطباخ في إعلام النبلاء: نسبة إلى جد لهم اسمه محمود كان شحنة حلب، وهو ما نسميه اليوم رئيس الشرطة.

 

وأسرة الشحنة عريقة في العلم والقضاء في حلب والقاهرة، فقد كان جده أبو الوليد محب الدين محمد، المولود في حلب سنة 749 والمتوفى بها سنة 815، من علمائها وقضاتها ومؤرخيها، وولي القضاء بحلب ودمشق والقاهرة، وكان عاقلاً ذكياً دمث الأخلاق، حلو النادرة، لطيف المحاضرة، قوى البديهة، ولما استولى تيمورلنك على مدينة حلب سنة 803 وتسلم قلعتها بالأمان بعد أن استحرَّ القتل والأسر في أهليها، صعد إليها وجلس في إيوانها وطلب القضاة والعلماء لملاقاته فامتثلوا أمره، وكان من عادته أنه إذا فتح مدينة يعقد مجلساً لمناظرة علمائه وإعناتهم، وكأنه يريد أن يثبت صواب عمله، ويسبغ الشرعية على سفكه الدماء واستحلاله الأموال، فسأل العلماء: قُتِلَ منّا ومنكم جماعة، فمن الذي في الجنّة: قتلانا أو قتلاكم؟ وقد كان هذا السؤال محرجاً لولا مهارة القاضي ابن الشحنة؛ فقد أجاب قائلاً: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك فأجاب. فاستغرب تيمورلنك ذلك وقال: كيف؟! قال ابن الشحنة: وفد إليه أعرابي وسأله: يا رسول الله، إن الرجل ليقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، فأينا في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الشهيد في سبيل الله.

 

فأعجب هذا الجواب تيمورلنك، وأحسن إلى ابن الشحنة، وجعل يؤانس العلماء ويلاطفهم، فطلبوا منه أن يعفو عن أهل حلب، ولا يقتل أحداً؛ فأمنَّهم جميعاً وحلف لهم، فحصل بذلك بعض رفق بالنسبة إلى غيرهم.

 

وأما والده أبو الفضل محب الدين محمد، المولود سنة بحلب سنة 804، فكان قاضي حلب سنة 836، ثم رحل إلى مصر عقيب تسلطن الملك الأشرف إينال في سنة 857، ولما كان مجيئه دون أمر سلطاني، أُمر بالعودة إلى قضائه في حلب، فتثاقل عن ذلك، وما لبث الملك الأشرف إينال أن عينه بعد شهور في كتابة السر، ثم نفي إلى بيت المقدس بعد قرابة سنة فأقام إلى سنة 862 حين أذن له بالعودة إلى حلب، ثم عاد إلى مصر وكتابة السر سنة 863، وصرف عن العمل سنة 877 ومرت عليه محن وشدائد، ومات بالقاهرة مفلوجاً سنة 890، وله تصانيف في التاريخ والفقه، وكان شغوفاً بجمع الكتب واقتناء النادر منها، وكان آية في الذكاء وقوة الحفظ.

 

وكانت والدته أُلف ابنة الولوي محمد بن أحمد السَّفطي القاهري، المتوفى بالقاهرة سنة 854، وكان أحد كبار المتنفذين من العلماء في عصره، وتوفيت الوالدة في القاهرة سنة 893،  ولعبد البر أخ أكبر غير شقيق هو أثير الدين محمد، المولود بحلب سنة 824 والمتوفى بها سنة 898، وكان من علماء حلب وخطيباً في جامعها، واستقل بقضائها سنة 856، لكن عبد البر كان أميز منه في علمه ومناصبه.

 

ولد عبد البر ابن الشحنة في حلب في التاسع من ذي القعدة سنة 851، ورافق والده في تقلبه بين المدن، فجاء معه إلى القاهرة سنة 857 عندما تولى كتابة السر للملك الأشرف إينال،  ثم رحل معه سنة 857 إلى منفاه في القدس الذي أقام فيه 5 سنوات قبل عودته إلى حلب، ولما عاد والده إلى مصر سنة 862 وتولى ثانية كتابة السر للأشرف إينال، عاد معه عبد البر فتابع دراسته في القاهرة.

 

وإضافة إلى حفظه القرآن الكريم ودراسته على والده، أخذ عبد البر في القدس عن جمال الدين ابن جماعة، عبد الله بن محمد شيخ المدرسة الصلاحية بالقدس، والمولود بها سنة 780 والمتوفى سنة 865، ودرس كذلك على تقي الدين القلقشندي، أبو بكر بن محمد القلقشندي المقدسي، المولود بالقدس سنة 783 والمتوفى بها سنة 867، وأخذ الحديث في القاهرة عن المحدث المعمر أمين الدين الآقصرائي، يحيى بن محمد، المولود سنة 797 والمتوفى سنة 880، وعن المحدثة المعمرة أم هانئ الهورينية، مريم بنت علي، المولودة سنة 778 والمتوفاة سنة 871، وعن المحدثة المكثرة أم الفضل هاجر بنت محمد القدسية القاهرية، المولودة سنة 790 والمتوفاة سنة 874 ،  وأخذ عن الشريف النسابة المعمر بدر الدين حسن بن محمد الحسيني القاهري، المتوفى سنة 866، وأخذ الفقه عن تقي الدين الشُمُنّي، أحمد بن محمد،  المالكي ثم الحنفي، والمولود سنة 801 والمتوفى سنة 872، ودرس على جلال الدين القمصي، عبد الرحمن بن أحمد، المولود سنة 792 والمتوفى سنة 875، وسمع عبد البر جامع مسانيد أبي حنيفة عن زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي، المولود سنة 802 والمتوفى سنة 879، ودرس عليه كذلك الفقه وأصوله، ولعله أول من أذن لعبد البر بالإفتاء واعتبره أهلاً للتدريس والإفتاء،وذلك في أيام الملك الأشرف قايتباي، الذي تولى الحكم سنة 872، وقال في ذلك الشاعر:

 

دروسُ عبد البر فاقت على ... أبيه في الحفظ وحسن الجدل

 

وذاك عند الأب أمرٌ به ... نهاية السّول وأقصى الأمل

 

وبعد أن باشر عبد البر التدريس والإفتاء، ناب عن والده في مجلس القضاء، ورغم كونه الولد الثاني لوالده إلا أنه كان أنبه أولاده والمقرب إلى نفسه، وزوّجه والده، وهو في حدود الخامسة عشرة، بابنة أحد علماء العصر المتواضعين الصالحين، وهو عضد الدين عبد الرحمن بن يحيى الصيرامي القاهري، المتوفى سنة 880.

 

وفي سنة 875 اختلف العلماء في مسألة عمر بن الفارض المتصوف الكبير، وهل يُكفَّر أو يفسَّق بسبب ما ورد في كلامه وأشعاره، أم تُحمل على معان باطنة وتأويلات حسنة، وانقسم العلماء في ذلك قسمين، وكان والد عبد البر في الجانب الذي يرى تفسيق أو تكفير ابن الفارض، ولا يقبل حمل كلماته إلا على ظاهرها، ونجد هنا لعبد البر ذكراً في هذه القضية التي حسمها شيخ الإسلام زكريا الأنصاري حين استفتي فيها، فأفتى: يحمل كلام هذا العارف على اصطلاح أهل طريقته. وقد أدى موقف آل الشحنة من ابن الفارض إلى تعصب عدد من العلماء ضدهم كما يتضح ذلك من خلال كتب التراجم، وتصادف بعد ذلك أن عزل السلطان ابن الشحنة الوالد عن قضاء الحنفية ثم أصيب بعدها بقليل بالشلل، فعدَّ ذلك أعداؤه تحقيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب.

 

وفي سنة 890 توفي والد عبد البر وهو يتولى مشيخة الخانقاه الشيخونية، فانتقلت المشيخة إلى الابن وصار عبد البر شيخاً له اعتباره، وأخذ عنه عدد من طلبة العلم آنذاك من أبرزهم المفتى المؤرخ قطب الدين ابن سلطان الدمشقي الصالحي الحنفي، محمد بن محمد بن عمر، المولود بدمشق سنة 870، والمتوفى بها سنة 950، والذي ولي القضاء بمصر نيابة عن شيخه، وصار مفتى دمشق في آخر أيامه، وأخذ عنه كذلك شمس الدين الخُجندي، محمد بن أحمد بن محمد،  المدني الحنفي، المولود سنة 873 بالمدينة، والذي رحل إلى مصر سنة 899، فدرس عليه فيمن درس عليهم.

 

وفي سنة 903 خلع السلطان الناصر محمد بن الأشرف قايتباي على عبد البر ابن الشحنة وجعله في مشيخة المدرسة الأشرفية عوضاً عن برهان الدين ابن الكركي الذي صار في منصب قاضي الحنفية، ولكن ابن الشحنة لم يدم في هذا المنصب سوى 3 أشهر، وأعيد إليه ابن الكركي إضافة إلى توليه قضاء الحنفية.

 

وفي جمادى الآخرة من سنة 905 قام الأمير طومان باي بعزل السلطان الأشرف جانبُلاط، وحل محله متلقبتً بالملك العادل، وفور توليه عزل برهان الدين ابن الكركي عن قضاء الحنفية وعهد به للشيخ عبد البر ابن الشحنة، وكانت هذه أول مرة يتولى فيها هذا المنصب، ولكن لم يدم له هذه المنصب سوى أيام معدودة فعزله السلطان في رجب وأعاد إليه ابن الكركي، وفي هذا قال في النجوم الزاهرة:

 

ولوك قاضي القضاة لكن ... جاءوك بالعزل عن قريب

 

فمدة الحكم منك كانت ... أقصر من جلسة الخطيب

 

وما لبث الأمير قانصوه الغورى أن انقلب على طومان باي في شوال سنة 906، وتسلطن متلقباً بالملك الأشرف، واختفى طومان باي فبدأ الملك الجديد في التفتيش عنه وكان بيت القاضي الحنفي أحد البيوت التي كبسها والي القاهرة شكاً في أنه يخفي لديه السلطان الهارب، وبعد 3 أسابيع من توليه الحكم قام قانصوه الغوري بعزل برهان الدين ابن الكركي عن قضاء الحنفية وإسناده لعبد البر ابن الشحنة، ثم اعتقل السلطان ابن الكركي يوماً وليلة ثم أفرج عنه.

 

وكان قانصوه الغوري من السلاطين الجشعين الذين حرصوا على جمع المال بشتى السبل غير عابئين بظلم الرعية وما يسببه ذلك من أذى لجبايات الخزينة نفسها، وكان قانصوه الغوري قد واجه عدداً من التهديدات التي لزم إعداد الحملات العسكرية لمواجهتها أو تلافيها، وكان أغلبها في الشام من أمرائه الخارجين عليه، أو من الإمارة التركية الطامعة في أراضيه، أو من الشاه إسماعيل الصفوي الذي بدأ عوده يشتد وقوته تتعاظم، أو من حاكم العراق حسن الطويل، ولكن قانصوه الغوري اتخذ من هذه الحملات ذريعة لإرواء نزعته في جمع المال، وفي سنة 907 تفتق رأيه عن أن يضع يده على أوقاف الجوامع والمدارس ويبقي لها ما يكفيها لإقامة الشعائر، فلما شاور العلماء في ذلك رفض ذلك القاضي الشافعي والقاضي المالكي والقاضي الحنبلي الذي أغلظ على السلطان في القول، فرد عليه السلطان: إذا ركب المماليك وطلبوا مني نفقة، أنا أبعثهم لك في بيتك؛ كلمهم مثل ما تعرف! وانفض المجلس وانصرف القضاة. ولهذا وأمثاله قال ابن إياس في السلطان قانصوه الغوري: أخس خلق الله وأبخلهم على الإطلاق!

 

وعاد عبد البر ابن الشحنة إلى السلطان في آخر النهار، فتحدث معه وسايره فيما يريد، فاجتمع السلطان بالأمراء، واتفقوا على إبقاء الأوقاف على حالها، ولكن يأخذ السلطان من ريعها أجرة سنة كاملة، وكتبت بذلك المراسيم إلى أنحاء مصر وبلاد الشام، ولتنفيذ ذلك قسّم قانصوه الغوري مهمة الجباية والتحصيل على الأمراء الذين أمعنوا في مصادرة الناس وإذلالهم، فزاد استياؤهم من السلطان وأعوانه، ومعهم في الجملة عبد البر ابن الشحنة.

 

وفي سنة 908 عاد ركب الحجيج من الحجاز وأخبروا أن أمير ينبع يحيى بن سبع انضم إلى أمير متمرد من الأشراف وهاجموا الحجاج في ينبع وأوقعوا بحاميتهم من المماليك ونهبوهم، ولسبب لا نعرفه جرى اتهام القاضي عبد البر ابن الشحنة أنه راسل يحيى بن سبع وأخبره أن السلطان يريد القبض عليه، فشجعه على العصيان، ولذا أمر السلطان بسجن ابن الشحنة ونفقه إلى قوص، ثم شفع فيه كبير الأمراء بعد أيام فأطلق سراحه وخلع عليه وأعاده إلى وظيفة القضاء.

 

وفي سنة 911 توفي القاضي شهاب الدين ابن الفرفور، قاضي الشافعية وخطيب قلعة السلطان بالقاهرة، فأمر السلطان أن يخطب به القاضي عبد البر ابن الشحنة حتى يتم تعيين قاض شافعي، وذلك لأن كونه حنفياً يخالف شرط الوقف.

 

وفي مرحلة من هذه المراحل توطدت علاقة عبد البر ابن الشحنة بالسلطان قانصوه الغوري، وصار من ندمائه، ولعل مما وطد ذلك تقارب أسنانهما، فقانصوه الغوري مولود سنة 850، وصار ابن الشحنة يبيت عنده 3 ليال في الجمعة، ويسافر معه، ويأخذ السلطان برأيه في كثير من أمور السلطنة، ولكن السلطان الغوري كان متقلباً عصبي المزاج، ولذا لم تكن هذه العلاقة ضماناً لسلامة عبد البر ابن الشحنة من تقلباته ووثباته، ويبدو أن السلطان كان لا يقرب أحداً إلا ويجعله على وجل منه، ليبقي جميع الحاشية في خوف منه وتهيب.

 

وترجم السخاوي لعبد البر ابن الشحنة وعدد من أقاربه ومن يلوذ ببني الشحنة، وذلك في كتابه الضوء اللامع في أعيان التاسع، وهو قد درس قطعة من  القاموس المحيط على والد عبد البر؛ أبي الفضل محمد، ولكن السخاوي – سامحه الله - لم يترك فيهم مغمزاً إلا وأورده، وتطرق لأجل ذلك إلى أحوالهم الاجتماعية من مصاهرة وتزويج واستدانة وبذل، ولا ندري على وجه التحديد سبب هذا القصد الشديد، مع أننا لا نستغرب ذلك من السخاوي، فمنهجه في تاريخه حافل بالنقد والثلب، وقال فيه معاصره المؤرخ ابن إياس في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور: إنه ألف تاريخاً فيه كثير من المساوئ في حق الناس. وأنشأ معاصره جلال الدين السيوطي مقامة من ضمن مقاماته سماها: الكاوي في رد تاريخ السخاوي، يقول فيها: ما ترون في رجل ألف تاريخاً جمع فيه أكابر وأعياناً، ونصب لأكل لحومهم خواناً، ملأه بذكر المساوئ وثلب الأعراض، وفوَّق فيه سهاما على قدر أغراضه والأعراض هي الأغراض. وجعل لحم المسلمين جملة طعامه وإدامه، واستغرق في أكلها أوقات فطره وصيامه... وللشوكاني كلمة فصل هذا في كتابه البدر الطالع في بمحاسن من بعد القرن السابع، قال رحمه الله: والسخاوي رحمه الله، وإن كان إماما غير مدفوع، لكنه كثير التحامل على أكابر أقرانه، كما يعرف ذلك من طالع كتابه الضوء اللامع، فإنه لا يقيم لهم وزنا، بل لا يسلم غالبهم من الحط منه عليه، وإنما يعظم شيوخه وتلامذته، ومن لم يعرفه ممن مات في أول القرن التاسع قبل موته، أو من كان من غير مصره، أو يرجو خيره او يخاف شره.

 

فلا عجب أن يتحامل السخاوي على آل الشحنة وغيرهم ويتهكم عليهم بقوارص الكلم، ولكن العجب أن يقول السخاوي في ترجمة عبد البر ابن الشحنة: ولو تصون وسلك طريق السداد، أو تستر أو تأدب مع مشايخ الوقت وفضلائها، أو ضبط لسانه عن الوقيعة في الأكابر، لكان أخلص له وأقرب إلى محبة الناس فيه، ولكن ما يسلم من أذاه كبير أحد...

 

ورغم تشككنا بدوافع السخاوي إلا أننا نلمح في ترجمته – وترجمة غيره - لعبد البر ولوالده وآل الشحنة عموماً، أنهم كانوا متوسعين في معيشتهم ينفقون الأموال على مظاهر الشرف والأبهة، ويخالطون الناس وبهادونهم ويحسنون إليهم، ويستدينون في سبيل ذلك، ونرى كذلك حرصهم على المناصب والوظائف والجمع بينها، وهو حرص لم يكن مستغرباً في الحقبتين المملوكية والتركية بعدها، فقد أصبحت هناك طبقة من العلماء والمشايخ المحترفين، الذين تنافسوا في الحصول على الوظائف السلطانية، وسعوا إليها سعياً حثيثاً بلغ حتى شراءها، وإذا استسيغ شراء بعض الوظائف فليس بمستساغ أن يشتري القضاة مناصبهم، وهم القوامون على الشريعة، الساهرون على العدالة، فكيف يؤتمنون بعد ذلك على رعايتها؟ وأدى بهم ذلك في كثير من الأحيان أن خرجوا عن مناهي الشرع، فابتعدوا بدرجات متفاوتة عما ينبغي عليه سلوك العلماء القويم، فقد كان كثير من السلف الصالح يعف عن ولاية القضاء، ولو ضرب في سبيل ذلك أو سجن، ومنهم من أنف أن ينال من وراء ولايته درهما واحدا.

 

ونذكر مثالاً على هذين السببين؛ التطلع للمناصب، وكراهية السلطان والخوف منه، قصة تتعلق بخطبة الجمعة في القلعة في مصر، فقد كانت مختصة بالشافعية، فتطلع إليها عبد البر ابن الشحنة، فاتفق في رجب سنة 913 أن مرض الخطيب، وكان الشيخ شهاب الدين الحمصي، فلما خطب غيره، أرسل قانصوه الغوري ألا يخطب إلا الشيخ شهاب الدين الحمصي، فقيل له: إنه مريض، فقال السلطان: يخطب القاضي الحنفي جمعة، والمالكي جمعة، والحنبلي جمعة، وخطباء البلد كلٌ جمعة إلى أن يبرأ الحمصي، وكان ذلك موافقا لما أراده ابن الشحنة، ولكن الخطيب الحمصي برأ قبل يوم الجمعة، فحضر وخطب، ولما لاحظ أن القاضي عبد البر موجود بنية الخطبة، سبق وقفل عليه باب القلعة! فدخل عبد البر على السلطان واستأذن في الخطابة في الجمعة الآتية، فأذن له، فلما كان يوم الجمعة طلع القاضي عبد البر إلى القلعة متعمماً بعمامة سوداء، وألقى على رأسه وكتفيه طرحة سوداء، فعلق طرفها بالحصير، فسقطت عمامته عن رأسه فلبسها، ثم صعد المنبر وخطب، وانتقد عليه تكلفه الشديد في الدعاء للسلطان في الخطبة.

 

أما خوف العلماء من سطوة السلطان قانصوه الغوري، فنذكر أن قاضي المالكية برهان الدين الدميري استعفى من القيام بالخطبة القادمة، فلم يقبل منه السلطان، فلما ارتقى المنبر أُرتِجَ عليه وسقط عن المنبر، ثم قام بعضده رجل حتى رقي المنبر، فلما شرع في الخطبة أرتج عليه القول وقام وقعد مراراً، ثم خطب في الجمعة التالية قاضي الحنابلة شهاب الدين الشيشني، ولكنه لما صلى سها عن الفاتحة، وشرع في السورة، فنبهه الحاضرون، فعاد لقراءتها، وعزا المؤرخون المعاصرون ذلك إلى وقوع رعب السلطان الغوري في قلوب بعض هؤلاء الخطباء، حتى إنهم جعلوه سبب مرضهم ووفاتهم.

 

وقد تكون صحبة عبد البر ابن الشحنة للسلطان قانصوه الغوري ساهمت في الحط من سمعته، فقد كان الغوري كما أسلفنا كثير الإنفاق مسرفاً في البنيان، شرهاً في فرض الضرائب وجمع المال والمصادرات، ثقيل الوطأة شديد العقوبة، لا يوقر العلماء، فخافه الناس من بعيد وقريب، ويذكر ابن إياس في بدائع الزهور أن الإسكندرية في عهده أضحت: في غاية الخراب بسبب ظلم النائب وجور القُبّاض، فإنهم صاروا يأخذون من التجار العِشر عشرة أمثال، فامتنع تجار الفرنج والمغاربة من الدخول إلى الثغر، فتلاشى أمر المدينة وآل أمرها إلى الخراب.

 

ومهد هذا الظلم والتعسف إلى سقوط دولة المماليك، فقد هرب أحد كبار موظفي قانصوه الغوري ويدعى خشقدم من ظلم السلطان الغوري ولجأ إلى السلطان العثماني سليم، فكشف له عورات الدولة المملوكية الغورية وأطمعه في ضم مصر إلى الدولة العثمانية، فقد أخبره بما يفعله السلطان قانصوه الغوري من أنواع المظالم والضرائب، وبالغش الذي يقترفه في سك نقود الذهب والفضة، وأخبره أن قضاة مصر يدفعون الأموال لتولي القضاء وأنهم يأخذون الرشوة على الأحكام الشرعية، فأدرك السلطان سليم أن الدولة أضحت شجرة منخورة عليه إسقاطها، وغيَّر أسلوبه في التعامل معها ولهجته في مخاطبة سلطانها، إلى أن آلت الأمور بسقوط الدولة المملوكية في معركة مرج دابق شمالي حلب في 25 رجب سنة 922.

 

وفي سنة 913 وقعت واقعة تسببت في أن يتعرض عبد البر ابن الشحنة لمزيد من الطعن والتشنيع، وذلك عندما هجاه جمال الدين يوسف السَلَموني، أشعر شعراء مصر في ذلك الوقت، والذي كان هجَّاء بالغ الهجاء، فتصادف أنه هجا القاضي معين الدين بن شمس وكيل بيت المال هجواً فاحشاً، فشكاه معين الدين إلى السلطان قانصوه الغوري، فقال له: إن وجب عليه شيء في الشرع؛ أدَّبه. فنزل من عند السلطان، ومسك السلموني في الحديد، وأتى به إلى بيت القاضي عبد البر ابن الشحنة، وادعى عليه، فضربه عبد البر وعزره وأشهره على حمار، وهو مكشوف الرأس، وكان السلطان على علاقة ودية بالشاعر الهجاء السلموني، فلما بلغه ما فعله ابن شمس بالسلموني شق عليه ذلك، وأمر بسجنه ولوح بقطع لسانه عقوبة على قوله أن السلطان رسم لي بأني أشهِّر السلموني، ولم يكن السلطان رسم بذلك، واستمر ابن شمس في السجن مدة طويلة حتى أرضى السلطان بمال وفير، فرضي عنه، وألبس خلعة، ثم إن السلموني هجا القاضي عبد البر بقصيدة طويلة أفحش فيها، مطلعها:

 

فشا الزور في مصر، وفي جنباتها ... لم لا وعبد البر قاضي قضاتها؟!

 

أينكر في الأحكام زور وباطل ... وأحكامه فيها بمختلفاتها

 

إذا جاءه الدينار من وجه رشوة ... يرى أنه حل على شبهاتها

 

ألست ترى الأوقاف كيف تبدلت ... وكانت على تقديرها وثباتها

 

وقد وثبت فيها قضاياه بالأذى ... وبالبيع مثل الأُسد في وثباتها

 

فماذا على الإسلام حلَّ من الردى ... بأيام عبد البر مع سنواتها!

 

فشكاه عبد البر إلى السلطان، فأحضر السلطان الشيخ جمال الدين السلموني ووبخه، فأنكر أنه نظم هذه القصيدة كلها، ولكن أقيمت عليه البينة، وشهد الشهود، فأمر السلطان بقيده وسجنه بالمدرسة الصالحية، ثم أراد القضاة - انتصارا لزميلهم - أن يضربوا هذا الشاعر بالسياط، ويشهروه في القاهرة ثانيا، فعلم جماعة من العوام بذلك، وكان للسلموني محبة بين العامة، فتعرضوا للقضاة وهددوهم بالأذى، وجمعوا الحجارة في أكمامهم، وهموا برجم القاضي عبد البر، وهو في طريقه، فاضطر إلى العفو عن الشاعر دون أن يعزره أو يشهره، ولكنه بقي في السجن 9 شهور حتى أطلقه السلطان بمناسبة شهر رمضان.

 

وفي آخر سنة 918 بدأ وباء الطاعون في الانتشار، وفي صفر من سنة 919 بدأت الوفيات بالزيادة، فأرسل القاضي عبد البر ابن الشحنة أولاده الصغار إلى جبل الطور في سيناء، وكانت تلك عادته في كل مرة يظهر فيها الطاعون، ثم يعيدهم بعد انتهائه سالمين أصحاء، وفي هذه السنة أصيب السلطان قانصوه الغوري بمرض في عينه نتج عنه تورم كبير في جفنه، فاضطرب لذلك واحتجب عن الناس، ثم شفي بعد قرابة شهر، فزينت القاهرة لذلك زينة زادت على زينة العيد في توسعها وتأنقها، وزين كبار القوم حتى القضاة والخليفة أبوابهم، بل زين القضاة أبواب المدارس التي يقومون عليها، وكانت الزينة التي أنشأها القاضي عبد البر كثيرة وفاخرة، ومن ذلك أنه جعل على باب الخانقاه البيبرسية أحواضاً من جلد فيها أشجار وأزهار، وقال ابن إياس في بدائع الزهور:  فعُدَّ ذلك من البدع المنكرة.

 

وفي أواخر سنة 919 قبض على شخص من وكلاء القضاة في واقعة زنا مع زوجة أحد وجهاء الدولة، واعترف الجاني بذلك ثم رجع عن اعترافه، وتسببت هذه الحادثة وما تلاها في أن تسوء علاقة السلطان قانصوه الغوري بالقاضي عبد البر، فقد أراد السلطان قتل الزاني رغم تراجعه عن إقراره، وسأل القاضي عبد البر فوافقه على ذلك، فلما اجتمع القضاة مع السلطان أفتوه أن التراجع عن الإقرار يدرأ الحد عنه، ووافقهم على ذلك القاضي عبد البر، فغضب السلطان من ذلك غضباً شديداً، ووبخ القضاة وقال لهم: قوموا لا تروني وجوهم قط! وأما القاضي عبد البر، فكاد السلطان أن يبطش به، وقال له: أنت تقرر معي شيئاً وترجع عن ذلك! كنتَ قلتَ لي هذا من الأول حتى عرفتُ أمر الرجوع بعد الإقرار.

 

وكانت نهاية الأمر أن عاقب السلطان الشخص الذي استصدر فتوى الرجوع عن الإقرار، فضربه نحواً من 1000 عصا، ونفاه عن القاهرة، ثم عزل القضاة الأربعة دون أن يعين بدلاء لهم، فأضحت مصر دون قضاء وتعطلت أحوالها، ثم أمر بشنق الزاني والزانية على باب القاضي برهان الدين بن أبي شريف الذي كان أكثر القضاة جدلاً مع السلطان، وعين بعد خمسة أيام قضاة جدداً، وهكذا ترك القاضي عبد البر ابن الشحنة القضاء، مسخوطاً عليه من السلطان وبقيت هذه حاله حتى وفاته.

 

لعبد البر ابن الشحنة عدة مؤلفات أغلبها في الفقه الحنفي منها: كتاب الإشارة والرمز إلى تحقيق الوقاية وشرح الكنز. والوقاية والكنز كتابان هامان في فروع المذهب الحنفي، وشرح عبد البر ابن الشحنة منظومة ابن وهبان في الفقه الحنفي، والمسماة قيد الشرائد ونظم الفرائد، وابن وهبان هو القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان الدمشقي قاضي مدينة حماة المتوفى سنة 768، فجاء ابن الشحنة فشرحها وقيد ما أهمله الناظم في شرحه وألحق به مسائل أخرى وفروعاً غريبة، وغير ما عسر فهمه من بعض أبياته بأوضح منه، وسمّى شرحه: تفصيل عقد الفوائد بتكميل قيد الشرائد. وفرغ من تصنيفه في شهر شوال سنة 885، ثم هذبه سنة 895.

 

ولابن الشحنة كتاب تحصيل الطريق إلى تسهيل الطريق، وهو ألفه في سنة 886 تبياناً لأحكام الطرق العامة، وذكر في مقدمته أن سبب تصنيفه هو أن بعض الناس أحدث في طرق القاهرة حوادث تضر بعامة المسلمين، وكتاب زهر الروض في مسألة الحوض، وتطرق فيه لقضية فقهية قديمة حول الحوض الذي دون 3 أذرع وحكم الوضوء منه، وله في أصول الفقه شرحٌ لجمع الجوامع الذي ألفه الإمام تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي المتوفى سنة 771، وله كذلك كتاب في الفقه اسمه الذخائر الأشرفية في ألغاز الحنفية، وهو كتاب رياضة عقلية للفقيه محوره مسائل يورد المصنف نتائجها ويطلب من الفقيه تبيان حالها وتفصيل بنائها.

 

كان لعبد البر ابن هو حسام الدين محمود، ولد بالقاهرة وولي قضاء حلب، ثم ولاه السلطان قانصوه الغوري في سنة 916 نظر البيمارستان الغوري، ثم ولاه بعد وفاة والده بشهرين قضاء الحنفية، ولم يكن في هذا المقام، ولكنه دفع للسلطان 3000 دينار مقابل تعيينه، فكان آخر قضاتهم بالقاهرة في أيام الدولة المملوكية، فلما أفلت شمسها ودخل القاهرة السلطان العثماني سليم الأول، هرب الملك العثماني طومان باي إلى الصعيد، وطلب الأمان من السلطان العثماني، فأجابه وبعث إليه بالأمان مع قاضي القضاة محمود بن عبد البر، ومعه قضاة المذاهب الثلاثة وأمير تركي، فحال وصولهم إليه في أوائل سنة 926 قتله طومان باي وهرب الآخرون.

 

ولعبد البر ابن آخر اسمه محمد، ولد في مصر ونشأ بها، وناب عن والده في القضاء، وكان مقدماً محتشماً، حسن الملبس، لطيف العمامة، حسن المطارحة، لطيف الممازحة، رقيق الطبع، سريع الشعر حسنه، زار حلب بعد أن حج في سنة 951 فأدركته المنية وتوفي بها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين