العمل والاتّباع سبيل الدعوة المعطاء

العمل والاتّباع سبيل الدعوة المعطاء

أساليب تربوية ومفاهيم دعوية من حياة الشيخ أحمد عز الدين البيانوني

 

عبد المجيد أسعد البيانوني

التربية بصغار العلم قبل كباره: العمل والاتّباع سبيل الدعوة المعطاء

والتربية بصغار العلم قبل كباره سمة الربّانيّين الأخيار في كتاب الله تعالى، كما جاء تفسير ذلك عن أئمّة الصحابة والسلف، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في تفسير قوله تَعالى: { كُوْنُوْا رَبَّانِيِّينَ }: حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ، وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ " [صحيح البخاري ترجمة كتاب العلم].

والمقصود بصغار العلم: الآداب والفضائل العمليّة، التي ينبغي أن يُتعهّد بها الإنسان منذ نشأته المبكّرة، كالأكل باليمين، والشرب باليمين، والأخذ باليمين، والإعطاء باليمين، واللبس باليمين، والاستنجاء بالشمال، وفعل كلّ ما لا يستحسن بالشمال، وإفشاء السلام، والبشاشة وحسن اللقاء.. فمن رُبّي على تلك الفضائل منذ الصغر أصبحت عادة له وسيرة، لا يستطيع تركها أو التحوّل عنها، فالخير عادة، والشرّ عادة، وخير عادة ما كان سنّة وعبادة..

وقد كان الشيخ رحمه الله، يحرص في تربية أولاده وإخوانه، وجميع من يلوذ به، على غرس تلك الفضائل وأمثالها، ممّا يتّصل بشتّى جوانب الحياة، ويتعهّدها بالترغيب والتحبيب، والوعظ والتذكير، وقد بلغه عن بعض الناس أنّه يعيب عليه هذا الحرص، ويعتبره تشدّداً، فردّ على هذا القول وأمثاله بأنّ الإنسان لابدّ له أن يتعوّد في حياته عادات، فخير له أن تكون عاداته سنناً نبويّة كريمة، يثاب عليها، يجاهد نفسه عليها مدّة يسيرة، ثمّ تكون يسيرة عليه، ليس فيها شيء من المشقّة والعناء، من أن تكون عاداته ليس لها من منهج تعود إليه أو تلتزم به، وليس له فيها من أجر أو مثوبة.

وكان يرى أنّ الدعوة إلى الإسلام دعوة إلى العمل به قبل كلّ شيء، ولا يتبدّى جمال دين الإسلام، وعظمة تعاليمه وسموّها إلاّ إذا ترجمت إلى سلوك عمليّ يراه الناس بأعينهم، ويسعدون بمنهجه وتعاليمه في حياتهم.. وإلاّ فما أكثر الدعوات النظريّة، والفلسفات الكلاميّة التي لا يصدّقها العمل، ولا حظّ لها في واقع الحياة.. فالسلوك العمليّ هو معيار صدق المبادئ أو إفلاسها..

وإنّ دعوة الإسلام لا تؤتي ثمراتها في حياة الناس ما لم تترجم إلى صورة عمليّة في حياة أبنائها وسلوكهم الاجتماعيّ ومواقفهم، كما كانت حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ترجمة حيّة لهدي القرآن وتعاليمه..

وتقريباً منه لهذا المنهج العمليّ فقد كان أوّل ما كتب في حياته رحمه الله وألّف: رسالة " سبيل الهدى والعمل "، فقد صاغ فيها منهج الإسلام العمليّ وآدابه، في وصايا محدّدة واضحة مختصرة، تجعل المسلم مهما كان مستوى ثقافته الدينيّة، يعرف ما يطلب منه بدون أيّ عناء.. وهي في الوقت نفسه تعدّ ميزاناً، يزن به المسلم درجة إسلامه ومبلغ إيمانه، دون أن يأخذه العجب بنفسه أو الغرور، فيظنّ نفسه في أعلى درجات الإسلام والإيمان، وهو مفرّط بجلّ أوامر الإسلام ونواهيه..

ولقد كتب لهذه الرسالة الصغيرة الحجم، الكبيرة المضمون والمعنى كتب لها القبول بين الناس، فطبعت عشرات الطبعات، وانتشرت في أكثر البلاد العربية والإسلاميّة، وترجمت إلى بعض اللغات، وما ذلك إلاّ لما تسدّه من حاجة ملحّة في حياة الناس لمعرفة ما يريده الإسلام منهم من سلوك عمليّ في كلّ شأن من شئون الحياة..

وكتب الشيخ رحمه الله لهذه الرسالة مقدّمةً ضافيةً للطبعة الثامنة التي طبعت في حياته، فكانت خير تعبير عن منهجه العمليّ في الدعوة إلى الله تعالى، والتربية الحكيمة، وأنا أدعو كلّ أخ مسلم أن يقرأ هذه المقدّمة، ليعرف منهج الإسلام العمليّ في الدعوة إلى الله تعالى، ويرى بنفسه مدى الوضوح الفكريّ الذي كان يتمتّع به الشيخ رحمه الله.

وفي مرحلة لاحقة في حياة الشيخ الدعويّة قام بشرح هذه الوصايا في دروسه العامّة، فاستغرق شرحه لها عدّة سنوات، وهو محفوظ على أشرطة، كما هو مكتوب في كتاب، وسمّى شرحه: " بلوغَ الأملِ في شرح وصايا: " سبيل الهدى والعمل "، ولم يكتب لشرحه أن يطبع كما طبعت سائر كتبه، ولو طبع لكان كتاباً كبير الحجم، عظيم الفائدة..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين