العلاقات الاجتماعية في الإسلام (2)

ثانيًا: تنوع العلاقات الاجتماعية في الإسلام

يمثِّل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة مصدرينِ للمسلم في استقصاء القيم التربوية والاجتماعية، فكانت التوجيهات النبوية في دعوةٍ مستمرةٍ إلى التفاعل بين العناصر الاجتماعية المختلفة، وتوثيق الصلات والروابط بين الشرائح الاجتماعية في منهج قويم متكامل قائم على أسس عقدية وتشريعية وأخلاقية تتفق ومتطلبات الفطرة الإنسانية([12])، ومن هنا فقد تنوعت العلاقات الاجتماعية في الإسلام، ولعلنا نلخّص بعضها في الآتي:

العلاقة مع الوالدين:

أولى الإسلام نظام الأسرة اهتمامًا بالغًا، فجاءت أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوجيهاته تنظم علاقة الأبوَّة والبنوَّة، وقد صدَّر البخاري كتاب الأدب في صحيحه ببرّ الوالدين، فذكر جملةً من الأحاديث التي تدور حول هذه العلاقة، وهي تمثِّل وحدةً موضوعيةً متكاملةً إلى حدٍّ ما، بلغت أحد عشر حديثًا تحت ثمانية أبواب، وصدَّر كتاب الأدب بما رواه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم "أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قال ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله"([13]).

ويعد هذا الحديث أساسًا في بناء العلاقات، فالصلاة صلة بالله تعالى، وبر الوالدين علاقة مع المسلمين لأن من يبرهما يبر غيرهما، والجهاد علاقة مع الكفار، وتخصيص هذه الأمور الثلاثة لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيَّع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها من غير عذر مع خفة مؤنتها عليه وعظيم فضلها فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقل برًّا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك([14]).

وفي الحديث التالي خصَّ الأم بالبر بعد أن حضَّ على برهما معًا، وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك"([15]).

وبعد التوصية ببرّ الوالدين وبيان عظيم حقهما شرع في بيان آليات البر، فقال: (باب لا يسبُّ الرجل والديه) بمعنى ألا يكون سببًا إلى سبِّهما([16])، وهو الحد الأدنى من البر، وبعد أن بين آليات البر شرع في بيان أثر ذلك، فقال: (باب إجابة دعاء من برَّ والديه)، ولما بيَّن الموقف الإيجابي الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم تجاه والديه، بيَّن الموقف السلبي وهو العقوق، وسلك فيه مسلك الترهيب فقال: (باب عقوق الوالدين من الكبائر)، وبعد أن بين على صورة قاعدة عامة وجوب بر الوالدين وفضل القيام عليهما، تطرق إلى بعض أحكامهما فقال: (باب صلة الوالد المشرك)، وقال: (باب صلة المرأة أمها ولها زوج).

وفي ثنايا هذه الأبواب تطرق إلى ما ينبغي على الوالد تجاه ولده، فأورد حديث تحريم وأد البنات، تلك العادة الاجتماعية السيئة التي كانت منتشرة في بعض أوساط المجتمع الجاهلي، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعًا وهات ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"([17]).

العلاقة مع الأرحام:

جاءت الأحاديث النبوية التي تؤكد ضرورة صلة الأرحام وما يترتب عليها من خير في الدنيا وأجر وثواب في الآخرة، وقد أوردها البخاري تحت (باب فضل صلة الرحم)، ومنها عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ما له ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرب ما له، تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم. ذرها، قال: كأنه كان على راحلته"([18]).

وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن صلة الأرحام لا تكون مكافأة بأن يقتصر في صلته على من يصله، فذلك القصاص، وإنما يصل من يقطعه، قال عليه الصلاة والسلام: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"([19]). قال ابن حجر: "قوله ليس الواصل بالمكافئ أي الذي يعطي لغيره نظير ما أعطاه ذلك الغير، وقد أخرج عبد الرزاق عن عمر موقوفًا: ليس الوصل أن تصل من وصلك، ذلك القصاص، ولكن الوصل أن تصل من قطعك"([20]).

وأمر الإسلام بصلة الوالد المشرك والأخ المشرك، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: أصلها؟ قال: نعم، قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة: 8] ([21]) وجعل صلة الأرحام سبباً من أسباب الرزق، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرَّه أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه" ([22]) وحذر من قطيعة الرحم، قال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة قاطع"([23]).

العلاقة مع المجتمع:

قرر الإسلام أن المؤمنين إخوة، قال الله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وهذه الأخوة واضحة في تعامل المسلمين بعد الهجرة النبوية، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فقال: "فلان أخ لفلان، وفلان أخ لفلان..." وبناء على هذه الأخوة كان الصحابي الأنصاري يقاسم أخاه المهاجر بماله، وأحيانًا يعرض عليه أن يطلق له إحدى زوجاته، وهذا كله يؤكد أواصر العلاقات الاجتماعية وضرورة أن يعيش المسلم جزءًا من أمَّة.

فالمسلم الواعي لأحكام دينه اجتماعي بطبعه لأنه صاحب رسالة في الحياة، وأصحاب الرسالات لا بد لهم من الاتصال بالناس، يخالطونهم ويعاملونهم ويبادلونهم الأخذ والعطاء، والإنسان المسلم اجتماعي من الطراز الرفيع بما لقن من أحكام دينه الحق، وبما تمثل من أخلاقه الإنسانية الرفيعة النبيلة التي دعا إليها وحضَّ على التخلق بها في مجال التعامل الاجتماعي ([24]).

وجاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي تنظم علاقة المسلم بالمجتمع المسلم بما لا يتسع المجال لعرضها، فحرم الإسلام الكبر والسخرية والاستهزاء والهمز واللمز بأحد المؤمنين، وأمر بخفض الجناح والرأفة واللين، وحث على التعاون والتراحم والبذل والإحسان إلى الجار والفقير والأرملة والمسكين، وأوصى باليتيم وأمر بالرفق بالأسير، وتتأكد هذه المعاني في واقع الثورة السورية اليوم حيث يحتاج الناس إلى مزيد من التضامن والتعاون وإيجاد آليات وحلول لمستقبل مئات الآلاف من الأرامل والأيتام، وعلاج الآلاف ممن سببت له الحرب إعاقة جسدية أو نفسية، وإيواء الآلاف من النازحين والمشردين، وبالجملة فما من فضيلة في المجتمع إلا وحثَّ الإسلام عليها ودعا إليها، وما من سيئةٍ إلا ونهى عنها وحذر منها، وفي هذا دلالة واضحة على أن الإنسان في تاريخه الطويل لم يحظ بمكونات الشخصية الفاضلة المتكاملة كما حظي الإنسان المسلم حين تلقى إشراقة الوحي والهداية الربانية من نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ذلك أن الإسلام لم يحفل بحشو عقل الإنسان بالمعارف الفلسفية كما صنع اليونان، ولا بالروحانيات المغرقة في الوهم كما فعل الهنود، ولا بتربية الجسم الرياضية كما فعل الرومان، ولا بالفلسفة المادية النفعية، وإنما اختط الإسلام منهجًا متوازنًا متكاملًا في تربية الإنسان آخذًا بعين الاعتبار جسمه وعقله وروحه؛ انطلاقًا من نظرته القويمة للإنسان على أنه مخلوق مكون من جسم وعقل وروح([25]).

يتبع

المصدر: العدد العاشر من مجلة "مقاربات" الصادرة عن المجلس الإسلامي السوري

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين