العقيدة الصحيحة بين الإسلام والنصرانية

 

هذا الاعتقاد الشريف في إله مُنزَّه عن كل عيب مُستحق لكل كمال هو أساس الدين، وإنَّ وراء المادة وجوداً أعلى يجب اليقين فيه والاستمداد منه، والله جلَّ شأنه لم يدع الخلق دون رعاية وهداية، بل تعهَّدهم بالوحى الذي يُنير لهم الطريق ويعرفهم المبتدأ والمنتهى. 

وما الوحي؟ إنَّه ليس حديث نفس، ولا ارتقاء فكر، إنَّه تعاليم حملها مَلَك، وتضمَّنتها كتب، واصطفى لها بشر. واستمعت إليها الأمم على مرِّ العصور من أناس يَعلمون عن ثقة وصدق أنهم مُرسلون من لدن الله إلى عباده لإبلاغ كلماته.

 ومن هنا كان من تمام الإيمان بالله، الإيمان برسله وكتبه وملائكته. لابدَّ لتمام الإيمان من أن يعترف البشر بما وراء المادة، وبالعلم الذي تمخَّض عنه الوحي السماوي. إنَّ الإيمان بعلوم الحياة الأرضية وحدَها دلالة كفر برب العالمين. ولا ينجاب هذا الكفر إلا بالاعتراف بالوحى وتصديق المرسلين، والشعور بأنَّ ما جاءوا به حق وأنهم مُوفدون من قبل الله كي يُعِدُّوا الناس لحياة راشدة يحسن بعدها لقاؤهم لله في اليوم الآخر. تلك عُرى الإيمان كما ذكر الله في كتابه، وبيَّنَها رسوله الأخير في سنته: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [البقرة:285].

 والمسلمون يرون الأنبياء جميعا إخوة، ويرون الكتب النازلة من السماء كلها شارحة لأصول الدين شرحاً يصدق بعضه بعضاً، ويرون الأجيال الأولى حفلت بالعديد من هؤلاء المرسلين الكرام، ولا ينتظرون نبوة جديدة في الأجيال الأخيرة؛ لأنَّ السماء ألقت كلمتها الأخيرة، في القرآن الكريم الذي جاء به محمد خاتم النبيين: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} [الأنعام:115].

والخلاصة التي أكَّدها الإسلام لدين الله الذي بلَّغه المرسلون عامَّة تنحصر في أنَّه:

1- لا إله إلا الله، ليس هناك إله ثان ولا ثالث.

2- استحقاق الله لكل كمال وتنزهه عن كل نقص.

3- نجاة البشر في عبادتهم وانقيادهم لتعاليم هذا الإله الفرد كما نزلت من لدنه.

4- ليس هناك أحد يجير على الله، أو يملك التعقيب على حكمه؟ فلا شركاء ولا شفعاء.

 

والإسلام يأخذ على أتباع الديانات السماوية الأخرى انحرافهم عن الجادة في تقرير هذه المعاني، فالمسيحية مثلاً ترى أنَّ هناك إلهاً هو الأب وثانياً هو الابن، وثالثاً هو الروح القدس! ثم تلحق ذلك بأنَّ الأب هو الابن؟ وأنَّ الثلاثة مع ذلك إله واحد! وهذا الكلام شطر الإيمان في المسيحية؟ أما الشطر الآخر الذي لا يتم الإيمان إلا به، فهو القول بأنَّ الإله الابن صلب كي يرضى الإله الأب عن أولاد آدم بعد خطيئته الموروثة. ولما كان الإله الأب هو نفسه الإله الابن، فمعنى هذا أنَّ الله قتل الله ليرضى الله!.

 

والحق أنَّ العقل البشرى تبهظه هذه الأثقال، ولذلك فهو بين أمرين إما أن يَهضم نفسه فيقبل هذه الأوهام ويعتنقها على ما بها. وإما أن يطرحها ويسير وفق ما يراه. وذاك سرُّ البراكين التي تثور في الكيان الصليبي، وتجعله يقذف العالم بين الحين والحين بأشتات من مَذاهب المروق والفسوق والعصيان، كالشيوعيَّة والوجوديَّة والإباحيَّة وغير ذلك من عوج في الطبيعة الإنسانية بعد ما سارت في الأرض من غير زمام.

 

 وهاك ما يصور العقيدة المسيحية مَنقولاً عن بعض الكراسات التي توزع اليوم ـ للدعاية ـ ومدعوماً بالمصادر الشاهدة له من الكتاب المقدس:

"إنَّ الثالوث الأقدس هو الله الأب السرمدي وهو كائن ذاتي قادرٌ على كل شيء حاضرٌ في كل مكان، عالم بكل شيء، لا حدَّ لحكمته ومحبته، والربُّ يَسُوع المسيح ابنُ الله الأزلي الذي به خُلقت كل الأشياء وبه أيضاً يتم خلاص المفديين، والروح القدس الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس، وهو القوَّة العظيمة المجددة في عمل الفداء. إنَّ الربَّ يسوع المسيح هو الله نفسُه إذ هو من طبيعة الله الأبدي نفسها وجوهره، الذي مع احتفاظه بطبيعته الإلهيَّة اتخذ الطبيعة البشريَّة، وعاشَ على الأرض كإنسان، ومَثَّل في حياته، كمثال لنا مبادئ البر، وأثبت ألوهيته بعجائب كثيرة عظيمة، وماتَ على الصليب من أجل خَطايانا، وقام من بين الأموات وصعد إلى الأب حيث الآن يشفع فينا". [ يوحنا: ا،14، عبرانيين 9:2- 18، 8: 1 ، 2 ؛ 14:4- 16؛ 25:7].

لقد توَّج السيد المسيح إعلانه عن محبَّة الله، إذ سارَ أخيراً إلى الصليب، وهنالك، بوصفه الممثل الكامل الأوحد للجنس البشرى، امتزجت طَبيعتاه الإلهيَّة والبشريَّة امتزاجاً لا انفصال له. وهكذا بعد أن قضى سحابة حياته على الأرض في طاعة تامَّة لناموس البر الأبدي الذي وضعه هو، بذل نفسه عن خطايا الناس ذبيحة كاملة تامَّة وافية بلا تلاعيب، "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرين خطاة هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرين أبراراً. [رومية 5: 19.]

 وكتب الرسول بولس: "مخلصنا يسوع المسيح، الذي بذل لأجلنا لكي يفدينا من كل إثم" تيطس 2: 13،14.

لقد صوَّر الرسول بولس التضحية الإلهية الجُلَّى بهذه الكلمات الخالدة: "إذ كان في صورة الله لم يحسب (المسيح) خلسة أن يكون معادلا لله.  لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" فيلبى 2: 6- 8.

أجل، تنازل السيد فانتقل من أسمى علوٍّ إلى أدنى مَرتبة، من كرسي المجد إلى خشبة العار، من القدرة اللامحدودة إلى التسليم التام، من السلطان المطلق إلى التواضع العميق من تسبيح الملائكة وتعبدهم له إلى تجديف البشر عليه وهزئهم به. يا لها تضحية عجيبة فائقة التصور! أجل، لقد كان الله مُستعداً أن يدفع هذا الثمن الذي لا يستقصى في سبيل خلاصنا. هكذا أراد أن يعلن محبته لنا ويتصل بنا عبر الهوَّة السحيقة التي أوجدتها الخطية، وعليه قال الرسول بولس: "فإنَّ المسيح أيضاً تألم مرَّة واحدة من أجل الخطايا. البار من أجل الأئمة لكى يقربنا الله " بطرس 3: 18 " أ. هـ.

 

هذا الكلام العجيب المشحون بالنقائض هو محور الإيمان عند القوم: الله صلب الله، لكي يرضى الله.. يرضى عن الخاطئين من بنى آدم، لو خبر الإنسان بأن قوماً في كوكب آخر يجمعون في تدينهم هذه الغرائب لأنكر وجودهم، ومع ذلك فهم يَعيشون معه على ظهر هذا الكوكب.

 

وليس لنا من تعليق على قصة الأبوة والنبوة والفداء وروح القدس التي تلتقي كلها في ذات واحدة إلا قول الله في كتابه الكريم: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} {الأنعام:104}.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

من كتاب: الجانب العاطفي من الإسلام للعلامة الشيخ محمد الغزالي

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين