العالم الطبيب عبد الرزاق الكيلاني رحمه الله

العالم الطبيب عبد الرزاق الكيلاني رحمه الله

محمد ميسر المراد

قبل سبع عشرة سنة وفي مثل هذه الأيام من هذا الشهر الميلادي انتقل إلى رحمة الله تعالى العالم الطبيب الحاذق الدكتور عبد الرزاق الكيلاني في حماة، وكان ابنه الوحيد الدكتور أشرف الكيلاني رحمه الله على قيد الحياة.

خرجت هذه الكلمات - وأحسبها صادقة - كتبتها بدموع حارة مع ذكريات طويلة بعيدة لا تنسى.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، القائلِ في كتابه العزيز: {من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً}، والقائلِ: {كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت}، والصلاة والسلام على مَنْ خيَّرَه ربُّه بين الحياة الدنيا الفانية، وبين الحياة الأخرى الباقية فاختار الخالدة الباقية (بل الرفيقَ الأعلى) صلى الله عليه وعلى آله الطيببين الطاهرين، وأصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

رحمك الله عمَّنا الغالي أبا أشرف، كنتَ لنا والداً شفوقاً رحيماً، وعمَّاً عطوفاً وأخاً كبيراً حنوناً، بعد فَقْدِ والدنا ونحن في ديار الغربة.


حقاً لقد كنتَ من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقضيتَ نحبكَ ولم تبدِّل ولم تغير شيئاً، ما عُرفَ عنك هفوةٌ ولا كبوةٌ، وما عُرفَ عنك سقطةٌ أبداً، فقد كنتَ رجلاً عالماً عاملاً ناصحاً، وقَّافاً عند حدود الله، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بلطفٍ وأدبٍ وحكمةٍ وموعظةٍ حسنةٍ، كنتَ متقياً لله حق تقاته، ورعاً – أحسبك كذلك ولا أزكي على الله أحداً – زاهداً في هذه الدنيا الفانية، مع أنها أتتك من كل جانب، كنتَ صوَّاماً في النهار قوَّاماً في الليل، حريصاً على أداء النوافل بَلْهَ الفرائض، كنتَ كثيَر الذِّكر لله رب العالمين، كثيرَ تلاوة الأوراد اليومية، فكان لسانك لا يفتُرُ عن ذكر الله تعالى، وهذا حال الصالحين من هذه الأمة.

تعلمنا منك الأدبَ الرفيع الجمَّ مع الكبار والصغار، تعلمنا منك التواضعَ والسكينةَ ومحقَ الذات، تعلمنا منك الصبرَ على الشدائد في المُلِمَّات، تعلمنا منك الصمتَ، فكنتَ قليلَ الكلام كثيرَ الصمت لا تتكلم إلا بما هو مفيد ممتثلاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، تعلمنا منك الحرصَ على الوقت، فكنتَ لا تضيِّع لحظةً واحدةً ولا ثانيةً إلا استفدتَ منها، وكنتَ حريصاً على العلم والتعلُّم في كل وقت، فكلما سمعتَ أو قرأتَ معلومةً جديدةً عليك أو فائدةً سارعتَ إلى تدوينها ولو على قصاصة ورقٍ لتسطِّرَها بعد ذلك في دفترك الخاص، وكنتَ حريصاً على صلة الأرحام وزيارة الأقارب والأصحاب والأحباب والعلماء.

عرفتكَ منذ طفولتي وأنت صديقٌ وفيٌ وأخٌ عزيزٌ غالٍ لوالدي "الشيخ محمد بشير المراد" رحمه الله تعالى، كم من المرات ذهبنا بسيارتك السوداء التي تتلألأ جمالاً وبهاءً مع الوالد - ونحن صغار – إلى أماكن متعددة في حماة وخارج حماة، وكم من الصور الكثيرة التي التقطت آنذاك شاهدة على ذلك.

عرفتُك في درس الفقه والتفسير يوم الاثنين في بيت الوالد العامر المتواضع في حماة مع لفيفٍ من العلماء والأطباء، لا تنقطع عنه صيفاً ولا شتاءً، عرفتكَ في درس يوم السبت في بيت "الأورفلي"، وفي درس يوم الأربعاء في بيت "السبع" لا تتركهما أبداً، عرفتكَ بعد عصر الجمعة في "الزاوية الكيلانية" بغرفة الشيخ رضوان الكيلاني رحمه الله المطلةِ على ناعورة الباز وجسر الشيخ في الحارة الكيلانية، عرفتكَ صباح يوم الجمعة في بستان "أبي الحافظ مراد آغا" على إفطار "تين الدوالك"، عرفتكَ في زياراتنا المتكررة لقبر السيد أحمد عز الدين الصياد رحمه الله في قرية متكين، وزياراتنا للشيخ حسين الموسى رحمه الله في حلفايا، وللشيخ حافظ الخطيب رحمه الله في طيبة الإمام، وللحاج عبد العزيز الحساني رحمه الله في صوران، وكذلك في رحلتنا التاريخية لقلعة الحصن.

عرفتك كذلك في عيادتك الخاصة، وفي المشفى الوطني القديم والجديد إلى أن خرجتَ من حماة إلى الرياض، والتقيتُ بك مرةً فيها، والتقيتُ بك مرةً ثانيةً في المدينة المنورة وبرفقتك ولدك الدكتور أشرف رحمه الله، ومرةً ثالثةً في حج عام 1403 هـ حيث قدمتَ ومعك جميع الأهل من الإمارات وذلك بعد مصاهرة أخي الكبير أيمن لك، وكان معي الوالدة رحمها الله وأخي مأمون، وكانت حجةً متميزةً بإشراف وإمرة العم الشيخ محمد علي المراد رحمه الله.

وفي الإمارات كانت الصلة واللقاءات والزيارات أكثر وأكثر، وخصوصاً بعد تركك لمهنة الطب، وتفرغك كلياً للعبادة والذكر والتأليف، فأول كتاب بدأت به هو كتاب "الأمثال الحموية"، ثم أتبعته بسلسلة قصص هادفة للأطفال "كان يا ما كان"، ثم "الحقائق الطبية في الإسلام"، ثم "في سبيل صحة أفضل"، ثم "الشيخ عبد القادر الجيلاني"، ثم "من مواقف عظماء المسلمين"، ثم "الوقاية خير من العلاج"، ثم "من التراث الشعبي في بلاد الشام"، ثم حققت مخطوطاً قديماً بعنوان "خواص الأحجار"، وحققت ثلاثة كتب للحاج أحمد قدري الكيلاني "أسامة بن منقذ، وأبي الفداء ملك حماة، والملوك الأيوبيين في حماة"، ثم كتبت "علاجات طبيعية ووصفات شعبية مجربة"، ثم "المغناطيس واستعمالاته الطبية وغير الطبية"، ثم "الحقائق الخُلُقية في الإسلام من الكتاب والسنة"، ثم حققت "أعلام العائلة الكيلانية" من مخطوط للحاج قدري وسيف الدين الكيلاني، وأخيراً "أعلام حماة منذ فجر الإسلام حتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري" الذي بدأه الحاج قدري الكيلاني وأكملته أنت.

كان رحمه الله كلما رأيتُه وجلستُ معه يسألني عن بعض الكتب وبعض الأحكام الشرعية، وأحياناً يستعير شيئاً من كتب مكتبتي الخاصة، وأحياناً يسألني عن تخريج بعض الأحاديث النبوية الشريفة.

كان رحمه الله وفياً في كل تعامله فكلما قدَّم له إنسان معلومةً ولو صغيرةً فلابد أن يشكره ويثني عليه في مقدمة كتابه ذلك، وكان يقوم بالواجب على أتمه، فعندما رجعت من الحج سنة1422هـ - 2002م قدِم للسلام عليَّ ومعه ابنه الدكتور أشرف، مع العلم أني من سن أولاده وأنا الذي أسعى لزيارته لكنه كان يعلمنا الأدب والتواضع بأفعاله وأقواله رحمه الله.

أما عبادته فحدِّث عنها ولا حرج، فقد كان لا يترك سنةً ولا نافلةً من صلاة وصيام وغيرهما إلا ويفعلها، وكان يصوم الأشهر المتتابعة وراء بعضها، وكان قليل الطعام، كثير المشي في البيت وخارجه، فقد خصص لنفسه في كل يوم ساعةً أو أكثر مشياً على الأقدام.

وقبل سنوات قليلةٍ رجع إلى بلده حماة واستقر بها، واستمر على نظامه الذي اتبعه في العبادة والذكر والتأليف، إلى أن وافاه الأجل المحتوم صبيحة يوم الأحد 9رجب الفرد1426هـ الموافق 14/8/2005م عن عمر ناهز الثمانين سنةً قضاها في العلم وأعمال الخير والبر والتقوى، وكان آخرُ كلامه من هذه الدنيا الفانية قراءةَ آية الزواج من سورة الروم، وقراءةَ الحديث الشريف (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) حيث دُعي إلى خطوبة أحد الشباب من عائلة الكيلاني، فتكلمَ بهذه الكلمة القصيرة وطَلَبَ البنتَ المخطوبة من أبيها، ووافق الجميع، وفجأة سكت ولم يتكلم بكلمة ثم غاب عن الوعي وبقي يومين ثم فارق الحياة.

رحمك الله أيها الطبيب العالم الحاذق الماهر، ورحم الله والدي الشيخ محمد بشير المراد الذي عرَّفنا بك وعلَّمنا حبك وحب آل الكيلاني العائلة الكريمة الشريفة التي يتصل نسبها بالنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، والذي رأته الوالدة رحمها الله بعد وفاتك في الرؤيا وقد لبس ثيابَه كاملةً العمامةَ والجبةَ، وهو مبتسمٌ مسرورٌ مسرعٌ في مشيه، فعرفنا أنه كان يستعد لاستقبالك.

وهنا أعزي نفسي وإخوتي وأهله وحفيده الدكتور عبد الرزاق حفظه الله من كل سوء بهذين البيتين اللذين أنشدهما ذاك الأعرابي لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما في وفاة أبيه العباس عندما حزن عليه حزناً شديداً حيث قال:

اصبر نكن بك صابرين فإنما   صبر الرعية بعد صبر الراس

خير من العباس صبرك بعده    واللــه خير منك للعباس

وأذكُر في هذا المقام أن هذه الحياة الفانية التي نعيشها قصيرة جداً مهما طالت، ولا بد لها من نهاية، فطوبى لمن اغتنم هذه الحياة في طاعة الله وعبادته.

ورحم الله القائل:

أذان المرء حين الطفل يأتي   وتأخير الصلاة إلى الممات

دليل أن محيـــاه قصير  كما بين الأذان إلى الصلاة

وأخيراً أذكر ما قاله صديقه الأستاذ عادل المصري في رثائه:

يا طبيب النفوس والأجساد   يا تقياً من دوحة الأمجاد

زانك الله فوق علمٍ وخلقٍ   بانتماءٍ لأكرم الأجداد

في رحابِ الخلودِ نلتَ مقاماً   وعْدُ حقٍ من صادقِ الميعاد

إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اجرنا في مصيبتنا، وأبدلنا بها خيراً، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين. 


كتبها :محمد ميسر بن الشيخ محمد بشير المراد

الجمعة / 14 / رجب الفرد / 1426 هـ الموافق / 19 / 8 / 2005 م