العالم الداعية عز الدين العرقسوسي

العالم الداعية عز الدين العرقسوسي

 

عادل الصلاحي

الشيخ عز الدين العرقسوسي رحمه الله، أحد علماء الشام، درس العلوم الشرعية، وحفظ القرآن الكريم، وجمع القراءات السبع من طريق الشاطبية، وعلا ذكره في الميدان الذي كرس له وقته وجهده، وهو تحفيظ القرآن، وكان له فضل كبير على دمشق وأهلها في هذا الميدان.

ولد الشيخ عز الدين في مدينة دمشق عام 1880، وتوفي فيها عام 1959. وإذا كنا نعرف سنة وفاته على وجه التحديد لمعاصرتنا لها، فإننا نحسب سنة مولده مما كان يتحدث به عن عمره.

حفظه القرآن

حفظ الشيخ عز الدين القرآن وهو شاب صغير السن، قرأه بالقراءات السبع على الشيخ محمد بن صالح القطب. وهو يقول عن شيخه في إجازته التي يعطيها لمن يقرأ عليه القرآن كاملا:

"تلقيت القراءات السبع من طريق الشاطبية عن شيخنا شيخ الوقت والزمان، وفريد العصر والأوان، العالم العامل الفاضل والجامع للقراءات العشر: سبعة من طريق الشاطبية وثلاثة من طريق الدرة، الحسيب النسيب شيخ الإقراء بدمشق الشام الشيخ محمد بن السيد صالح القطب الشافعي مذهبا".

بلغ حفظه القرآن الغاية في الاتقان، كيف لا وقد جعله أول همه. حدثنا أنه كان في أيام حفظه يتلو كل يوم جميع ما حفظ، من أول القرآن إلى الموضع الذي بلغه، حتى وصل إلى الجزء الثاني والعشرين. ولم يكن مع هذا يهمل بقية دروسه، بل يدرس الفقه والتفسير والنحو وغيرها. وقد سأله أحد طلابه كيف كان يستطيع أن يفعل ذلك، فابتسم وقال: "لا أذكر أنني تناولت عشائي ساخنا مرة واحدة خلال مدة حفظي. كانت أمي رحمها الله تأتيني بالعشاء في غرفتي، فأقول لها ضعيه هنا فلم يبق لي إلا القليل من التلاوة وأخشى إن أكلت الآن أن يغلبني النوم، فسآكل بعد أن أكمل ما علي. وطبيعي أن العشاء يكون قد برد بعد إكمالي التلاوة".

كان يجلس في حلقته أربعون أو خمسون طالبا أو أكثر من ذلك، يقرأ كل واحد منهم من الموضع الذي بلغه، ولا يكاد اثنان يقرآن من سورة واحدة، ويسمع للجميع، يصحح أخطاءهم ولفظهم، ويوجههم في أحكام التلاوة، ولا يمسك المصحف في يده، بل لا يضع أمامه مصحفا يرجع إليه.

حلقته

ذهبت أول مرة إلى حلقته صحبة ثلاثة من أهل حينا، كلهم من أصدقاء والدي، رحمه الله ورحمهم جميعا. لم يكن الشيخ يعرف مقدما عن حضوري، ولم يكن هذا مطلوبا، بل الحلقة مفتوحة لمن يريد أن يحفظ، وكذلك لمن يريد أن يأتي فيستمع للتلاوة، مع أنها كانت في منازل الطلاب. كان ذلك عام 1955، بعد انتهاء السنة الدراسية، أي في أواخر شهر أيار/ مايو. ولعلي كنت يومها من أصغر الحضور. كان بينهم عدد من المشايخ المعممين، وبعضهم من المسنين، وعدد من الشباب من مختلف الأعمار. وكان الشيخ عز الدين يقرأ عليه طلابه بترتيب حضورهم.

شعرت بهيبة الموقف يومها، ولكن مجلس الشيخ عز الدين كان يزهو بالقرآن، وكانت روح الشيخ الحلوة، ونفسيته البسيطة الهادئة، وحبه لطلابه، لا تترك الهيبة تستمر. بعد أن قرأ أصدقاء والدي على الشيخ جاء دوري فسألني إن كنت أريد أن أقرأ، فقرأت عليه الفاتحة وأول سورة البقرة، فلما أكملت أثنى علي، وشجعني بكلمات طيبة كانت كفيلة بأن تشد من عزمي على الاستمرار.

مهما تحدثت عن جو حلقة الشيخ عز الدين، وجمال رونقها، وبساطتها، وبركتها، فلا أستطيع أن أفيها حقها. كان الانضباط فيها مرعيا من الجميع، دون حاجة إلى ذكر أي تعليمات. ولا أبالغ أن أقول إن كل طالب كان يحس أنه الأقرب إلى الشيخ عز الدين لما كان يبديه من تودد، فهو يسأل عن أخبارهم، ويعرف ظروفهم، ويشجعهم، ولا يعنف أحدا لشيء. بل كان الترحيب طبيعة في حلقته. فمضيف الحلقة التي تبدأ بعد صلاة المغرب بحوالي نصف ساعة يرحب بضيوفه عند مقدم كل منهم، ويأتي الطالب فيسلم على الشيخ ويجلس حيث ينتهي به المجلس، أو في أقرب مكان إليه، ثم عندما ينتهي القارئ من قراءته، يعود الشيخ فيسلم على الطالب ويسأله عن حاله. ثم يقرأ من جاء دوره. وكان الشيخ عز الدين حريصا على أن يعقد صداقة بين المتقاربين من طلابه، إما سنا أو سكنا أو عملا، فإذا بدأت الصداقة وعرفها، فإنه عندما يأتي أحد الصديقين يسأله عن صديقه، وهل سيحضر ذلك اليوم. ويؤكد على المدارسة بين الأصدقاء. وعندما تبين بعد عدة أشهر أن في الحلقة عدد من أقراني في السن شجعنا على أن نظل معا وألف بيننا، مؤكدا علينا أن صحبتنا في القرآن تنفعنا في كل حياتنا. فقبل سنوات التقيت مع واحد منهم بعد أن تباعدت ديارنا أكثر من أربعين سنة، وكان حديثنا كأننا لم نفترق إلا في الأمس القريب.

وكانت الحلقة تعقد عند الجميع، كل في منزله، فقيرا كان أو غنيا، فمن لم يجد سعة عنده كان يستضيفها في أحد المساجد. وكان الشيخ يؤكد أن الضيافة لا تزيد على الشاي والكعك. (والكعك الشامي نوع من الخبز بالسمسم، يضاف إليه قليل من السكر، مستدير الشكل، يخبز حتى الجفاف، ويتصلب عندما يبرد) كان المضيف لا يحتاج إلا إلي كيلين من الكعك ثمنهما أقل من ليرة واحدة. ولذلك لا يشعر المضيف المحدود الدخل بأن استضافة الحلقة مرهقة. غير أن بعض من وسع الله عليهم في الرزق كانوا يزيدون في إكرام الشيخ وإخوانهم، ويقبل الشيخ ذلك منهم.

أسلوبه

كان الشيخ عز الدين يعقد حلقته الأساسية يومي السبت والأربعاء من كل أسبوع، ولم يكن يتغيب عنها لشيء سوى المرض الشديد أو السفر، ولم يكن سفره إلا للحج أو للضرورة، وقد استمرت حلقته هذه قريبا من ستين عاما، لا تنقطع إلا في رمضان. وقد استمرت أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 عندما كانت سوريا تمنع إضاءة الشوارع في الليل وتفرض تخفيف أنوار السيارات والدراجات تحسبا لقيام المعتدين بغارات جوية، فكان الظلام فيها دامسا. وكان التزام الشيخ عز الدين أكبر حافز لطلابه للمواظبة والاستمرار. وكان المقرر أن يقرأ الطالب ربع حزب أي ثُمْن جزء في الدرس الواحد، بمعنى أن يقرأ جزءا في الشهر فيكمل حفظ القرآن إذا واظب على ذلك في أقل من ثلاث سنوات. ولم يكن الشيخ عز الدين يقبل إلا في النادر أن يقرأ الطالب أكثر من ذلك في الدرس الواحد، حتى لا يشق على الطلاب، وليستطيع الطالب الحفاظ على ما سبق له حفظه. وكيلا تطول مدة الحلقة فيثقل الأمر على المضيف وأهله. ولكن الشيخ عز الدين كان يقبل من الطالب أقل من ذلك، فكان من يصعب عليه الحفظ، أو لا يجد الوقت يكتفي بقراءة صفحة واحدة كل مرة، أو حتى أقل من ذلك. وكان الشيخ عز الدين يشجع الحضور حتى لمن لم يتسنّ له الحفظ كيلا تتراخى همته.

كان تشجيع الشيخ سمة أساسية في أسلوبه، فهو يحرص على كل قادم، حتى وإن كانت قراءته ضعيفة، فيصبر عليه، ويعلمه ضبط اللفظ. فإذا كان المبتدئ سليم اللفظ ولا يعرف أحكام التجويد، فإن الشيخ عز الدين يقبل منه قراءته ولا يبدأ بتعليمه أحكام التلاوة حتى يكمل سورة البقرة، لأنه يرى أن المبتدئ متحمس لحفظ القرآن فلا يريد أن يضيع حماسه في الابتداء بتعلم الأحكام. ثم يعطيه حكما من الأحكام كل أسبوعين أو ثلاثة، حسب نظرته في مدى استيعاب الطالب وتفاعله. فهو يعرف أن المثبطات كثيرة، ويريد أن لا يتراخى أحد.

روى لي الشيخ عبد الله بن حسين، وهو صومالي يعيش في دمشق وأصبح من أهلها، وقرأ القراءات العشر على الشيخ محمد كريِّم راجح، شيخ القراء في البلاد الشامية، حفظه الله وأمد في عمره، أن الشيخ بكري الطرابيشي، رحمه الله، أخذه والده إلى الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، رحمه الله، ليحفظ القرآن. والشيخ عبد الوهاب رحمه الله من العلماء والقراء الكبار. فكان الفتى يذهب إلى الشيخ كل يوم فيقرؤه الفاتحة، ولا يجاوزها. ثم استمر الأمر على ذلك الحال مدة طالت. فقد كانت تلك طريقة عدد من الحفاظ، لا يجاوزون الفاتحة حتى يضبطها الطالب بالمستوى المطلوب، وشعارهم أن من لا يتقن قراءة الفاتحة لا يحسن الصلاة. فلما طال الأمر على الفتى قال لوالده إنه لا يريد الاستمرار ولكنه على استعداد أن يواصل الحفظ. ولذلك أخذه والده إلى الشيخ عز الدين العرقسوسي، وهنا وجد بكري الطرابيشي الأمر الذي أحب، فحفظ القرآن على يدي الشيخ عز الدين، وأصبح من أفضل قراء القرآن في دمشق. رحم الله الشيخ عبد الوهاب والشيخ عز الدين والشيخ بكري رحمة واسعة.    

تميز هذا الأسلوب بالحكمة وفهم طبائع الناس. أذكر أن أحد الطلاب كان قريبا من الأمية، ولم تكن لديه أية فكرة عن قواعد اللغة العربية، فجعله الشيخ عز الدين يلازم طالبا آخر قريب المسكن منه، وكان إذا حضر هذا الطالب الآخر قبل رفيقه يسأله عنه بالتفصيل، ويؤكد على ضرورة رعاية صاحبه حتى لا تبرد همته.

كانت هذه الحلقة الرئيسية للشيخ عز الدين، غير أنه كانت له حلقة أخرى تنتظم يوم الأحد من كل أسبوع، ولم يكن هناك تبادل بين الحلقتين، بمعنى أنه إذا لم يستطع أحد الطلاب الحضور يوم السبت فإنه لا يمكنه الذهاب إلى حلقة الأحد، ربما لصعوبة ذلك لكون الحلقة في منازل الطلاب. غير أن كاتب هذه السطور سعد بصحبة الشيخ عز الدين إلى حلقة يوم الأحد مرة واحدة، ووجدت الحضور فيها يزيد على ثلاثين شخصا، والطريقة في الحلقتين واحدة، ومحبة الطلاب فيهما لشيخهم واحدة. ولكن لم يكن بينهم شباب صغار السن مثل حلقة السبت والأربعاء.

علمت أن الشيخ عز الدين كان يدعو الله أن يتخرج على يديه أربعون حافظا متقنا لكتاب الله، وقد استجاب الله دعاءه بأفضل مما كان يتوقع. ما أظن أحدا أحصى عدد الذين أتموا حفظ القرآن على يدي الشيخ عز الدين، ولكني أعتقد أنهم زادوا على المئة. كان من تلامذته الشيخ محيي الدين الكردي، والشيخ بكري الطرابيشي، والشيخ محمد نزار الفراش، والشيخ شكري لحفي، والشيخ خيرو ياسين وابنه مأمون ياسين الذي كان زميلا لي وقريبا من سني، والشيخ علي الشربجي، والشيخ يوسف الفريح، والشيخ محمد دلعين، ومن التجار سهيل الخياط، وبكري سلطان، ومن الشباب أقراني رشاد زمريق، ورضا السيد، وأخوه عبد الفتاح السيد، ومحمد خير هيكل. رحم الله من توفي منهم وغفر لأحيائهم وبارك فيهم.

حرصه على استمرار الحلقة من بعده

كان الشيخ عز الدين يحس بدنو أجله، خصوصا أنه كان يشعر أحيانا بالتعب أو المرض، فكان يواصل الحلقة والاستماع لطلابه وهو مستلق على أحد جانبيه. ولذلك عهد للشيخ خيرو ياسين أن يتولى الحلقة من بعده، فقد قرأ عليه الشيخ خيرو ياسين أكثر من ختمة كاملة، وكانت للشيخ خيرو ياسين حلقة مماثلة يعقدها في مسجد سيدي صهيب الرومي في حي الميدان. ولكي تستمر الحلقة ويعرف الطلاب بذلك فقد ابتدأ الشيخ عز الدين يمهر إجازته من يتم الحفظ عنده بخاتمه وخاتم الشيخ خيرو ياسين.

شخصيته

كان الشيخ عز الدين رائق المزاج، حلو الحديث، دائم الابتسامة، قانعا بالقليل، وكان التواضع أصيلا في أخلاقه. حضرت مرة حفلا في أحد المساجد، ورأيته يجلس بين الحضور مثل عامة الناس، بينما يقدم الشيوخ في الصفوف الأولى، وتعاقب الخطباء، ثم انتبه عريف الحفل إلى وجوده، فأشاد به وطلب منه تلاوة من القرآن، فاعتذر بأنه لم يعد كما ذكر عريف الحفل، وقرأ لدقائق قليلة.

أما في شبابه، فكان الشيخ عز الدين موفور النشاط، وكان يحب الصيد، ويخرج ببندقية صيد إلى بعض الغابات القريبة، وحدثنا مرة كيف قتل ضبعا ببندقيته هذه. ولعل هذا النشاط، مع حفاظه على وزنه، فقد كان طويل القامة أقرب إلى أن يكون نحيلا، هو الذي جعله يحافظ على صحته حتى أواخر أيامه.

عندما أرادت فرنسا احتلال سوريا استنهض يوسف العظمة، وزير الدفاع آنذاك، أبناء الشعب لمواجهة الجيش الفرنسي، فما كان من الشيخ عز الدين إلا أن تجهز وحمل بندقيته للانضمام إلى المجاهدين، وخرج من بيته بهذا القصد، غير أن أحد مشايخه رآه يحمل سلاحه، فسأله أين يقصد، فلما أخبره طلب منه شيخه البقاء معه، ومنعه من الاستمرار، ولازمه، حتى المساء. كان يومها يوم معركة ميسلون، ولم يكن للمجاهدين طاقة في مواجهة الجيش الفرنسي، فاستشهد يوسف العظمة وعدد كبير من المجاهدين. فكان منعه من الذهاب بركة على دمشق وأهلها، ليواصل الشيخ عز الدين تحفيظ القرآن تسعة وثلاثين عاما بعدها. ولعل الله سبحانه وتعالى كتب له في ميزان حسناته نيته في الجهاد، ويسر بقاءه للقيام بدوره المبارك.

كان المعتاد في صلاة التراويح في دمشق أن تكون ثماني ركعات في بعض المساجد وعشرين ركعة في بعضها، غير أن التلاوة فيهما قصيرة، فالإمام الذي يصلي عشرين ركعة يقرأ آية واحدة في كل ركعة. وعندما كان الشيخ عز الدين شابا كان يجتمع أكثر الحفّاظ في مدينة دمشق في زاوية في المسجد الأموي، تسمى مشهد الحسين، ويؤمهم قارئ يقرأ جزءا من القرآن في عشرين ركعة. ولم يكن الشيخ عز الدين يحضر هذه الصلاة، لأنه كان ملتزما مع شخص معين يصلي التراويح معه ومع أهل بيته في منزله. ولكن إمام مشهد الحسين طلب منه أن ينوب عنه ذات يوم، وأذن له صاحبه بذلك. وعلى عادته في الالتزام الجدي بكل ما يتعلق بالقرآن، وضع المصحف أمامه وهو يتناول طعام الإفطار، يقلب صفحاته. وسأله أهله لماذا يفعل ذلك، فقال: ألا أستعد لهذه الليلة وفيها من فيها من الحفاظ؟

وصل الشيخ عز الدين إلى المكان مبكرا، واجتمع الناس، وكان يجلس قريبا من المؤذن، فرأى المؤذن يتلفت حوله وينظر إلى الساعة، فسأله: ما الذي يقلقك؟ قال: لم يأت الامام، وليس من عادته التأخر. قال: لقد وكلني الليلة. نظر المؤذن إلى هذا الشاب الذي لم تتكامل لحيته بعد، وسأله: وكلك أنت؟ قال: نعم. قال: فقم، وأقام الصلاة.

أمَّ الشاب عز الدين جمهرة حفاظ دمشق تلك الليلة الرابعة والعشرين من رمضان، يقرأ فيها الجزء الرابع والعشرين. وسارت الركعتان الأوليان على ما يرام. وفي مطلع الركعة الثالثة قرأ قوله تعالى: "فإذا مس الإنسان ضرٌ دعانا" فإذا أحد المصلين قد التبست عليه الآية بمشابهتها في أوائل السورة نفسها وهي قوله تعالى: "وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه". ففتح على الإمام الشاب يحاول تصحيحه. ولكن الشيخ عز الدين أعاد قراءة الآية صحيحة، فأعاد الرجل ما قال، ثم تكرر ذلك مرة ثالثة، فلم يكن إلا أن صرخ شيخ آخر يؤكد صحة تلاوة الشيخ عز الدين. ثم واصل الصلاة، فلم يخطئ في حرف منها. وبعد نهاية الصلاة اجتمع إليه بعض الحاضرين يتعرفون عليه. وطلبوا منه أن يصلي بهم ما تبقى من أيام الشهر الفضيل، وألحوا في الطلب، فذكر أنه ملتزم مع فلان. فقال أحدهم: "لعل الشيخ يستفيد هناك مالاً"، وأخرج من جيبه ست ليرات ذهبية وقدمها له مقابل الاستمرار. كان المبلغ يمثل ثروة في ذلك الوقت، ولكن الشيخ عز الدين قال له: يعلم الله أني ما نظرت إلى مال، ولكني ملتزم بكلمة، ولا يمكن أن أخالف ما التزمت به.

كان مما حدثنا به الشيخ عز الدين رحمه الله أنه مرت به مدة انقطع فيها عن التلاوة، وكان ذلك وهو لا يزال شابا، ولعله لم يبدأ بعد حلقته القرآنية. واستمرت به تلك الحال سنة أو تزيد قليلا، ثم أراد الله تعالى به الخير، فعاد يتلو القرآن وهو متخوف أن يكون قد ضيّع حفظه، غير أنه شعر بنعمة الله السابغة إذ وجد أن حفظه متين مثلما كان. وعاهد الله عندها أن لا يترك القرآن أبدا. وقد ذكر لي الشيخ عبد الله بن حسين هذه القصة نقلا عن الشيخ محيي الدين الكردي رحمه الله، ولكنه زاد في مدة الانقطاع. وأحسب أن المدة الأقصر هي الصحيحة. 

من ذكرياتي الشخصية

بدأت قراءتي على الشيخ عز الدين في شهر أيار/ مايو عام 1955، فقرأت عليه سورة البقرة، وأوائل سورة آل عمران، ثم ذهب للحج وعهد للشيخ خيرو ياسين بمواصلة الحلقة في غيابه. كان حجه ذلك العام بإلحاح من تلميذه سهيل الخياط الذي لم يقطع صلته به بعد إتمامه الحفظ، قال له إنه يريد أن يحج، ولا بد أن يكون الشيخ عز الدين معه في الحج كما كان معه في القرآن. غير أن الشيخ عز الدين تعرض لضربة شمس فقد كان الحج في أوائل شهر آب / أغسطس، وطبيعي أن الحر شديد، ولم تكن وسائل التكييف والتبريد شائعة مثلها هذه الأيام. وجاءت سيارة الاسعاف فاحتملته إلى المستشفى. ذكر لنا الشيخ عز الدين أن الذين كانوا قريبين منه ظنوا أنه قد توفي، وأنه عندما حملوه لسيارة الاسعاف سمع امرأة تقول: "رحمة الله عليك يا شيخ عزي". وفي المستشفى كانت معالجة المصاب بضربة شمس وضعه في مغطس ماء مثلج، وهذا الذي حدث، فأفاق والحمد لله، وتحسنت صحته قليلا فاستطاع العودة إلى بلاده.

ذهبت مع بعض طلابه بعد يومين أو ثلاثة لعيادته في منزله، فاستقبلنا أحد أبنائه، وطمأننا عليه، لكنه ذكر أن طبيبه منع من زيارته، حرصا على راحته ولاستكمال شفائه. ويبدو أنني تأثرت كثيرا بما سمعت، فلم أتمالك دموعي. ويبدو أنهم نقلوا له ذلك، فلم يتذكرني. ثم زرته مرة أخرى بعد أن سمح بالزيارة، فحدثني أنه لم يتذكر اسمي.

مع تقدم الأيام أصبح لزاما علي أن أكون مضيف الحلقة، وكنت أشعر بهذا وأؤجل الدعوة آملا أن يعود الشيخ عز الدين، ولكن عندما أصبح الأمر ضروريا طلبت من الشيخ خيرو ياسين أن أستضيف الحلقة، فوافق. وكم أسعدني أن أرى الشيخ عز الدين يدق بابنا بعد صلاة المغرب، وقال لي أمام والدي إنه لما عرف أن الحلقة عندي قرر الحضور. بعد ذلك سارت الحلقة للشيخين معا، دون تمييز مَن مِن الطلاب يقرأ على أي الشيخين. يجلس كل منهما في غرفة، ويجلس كل قادم جديد عند الشيخ عز الدين ثم هو يأمر بعضهم بالقراءة على الشيخ خيرو ياسين. ولم يطلب ذلك مني إطلاقا القراءة على الشيخ خيرو لأنه كان يحس بمحبتي له، أو ربما لأنه كان يعجبه أني أقرأ بمد المنفصل، وربما ذلك لأنها طريق الشاطبية.

كان من عادة الشيخ عز الدين أن يصلي الفجر إماما في مسجده، ثم يذهب قبيل شروق الشمس إلى بستان خارج دمشق، بعد القدم بمرحلة طويلة، قريبا من قرية الكسوة. (كانت القدم قرية تفصلها عن نهاية حي الميدان مسافة كيلو متر واحد، والكسوة تبعد عن دمشق حوالي عشرين كيلومترا). وهناك كان الشيخ عز الدين يقرأ ورده اليومي الذي لا يقل عن ربع القرآن، وفي العودة ربما يتوقف عند دكان شاكر الزيبق رحمه الله، أحد طلابه، ودكانه قرب منزلنا. ثم يذهب لمسجده ليؤم صلاة الظهر، ويعود إلى منزله. وكان الامام كذلك في صلاة المغرب. أما كيف كان يذهب؟ كان الشيخ عز الدين يركب دراجة نارية (موتورسيكل) من الطراز الخفيف. وذات صباح، خرجت من المنزل ومعي دراجتي العادية أريد الذهاب إلى مسجد سيدي صهيب حيث كان الشيخ خيرو ياسين هو الامام، ويدرس بعض الطلاب بعد الفجر. وإذا الشيخ عز الدين على دراجته متجها في رحلته اليومية فسلم علي، فلحقت به على دراجتي، وأبطأ السير لما رآني حريصا على أن ألحق به. قال أين تريد الذهاب؟ فذكرت له، فقال تعال معي. فسررت بذلك، وتابعت بهمة، فكان يقول لي: أمسك بكتفي فأجر دراجتك، ولكني لم أفعل، لأني خفت إن فعلت أن يختل توازنه لا سمح الله. فاختار مكانا أقرب مما هو معتاد أن يذهب إليه، وجلسنا فأخرج عدة الشاي، وصنع شايا من أفضل ما يشرب الناس، بطريقة السماور. وبقيت معه ساعتين أو أكثر قرأت عليه خلالها سورة يوسف كاملة. وانصرفت بعدها عائدا، كيلا أفسد عليه قراءته ورده اليومي.

في إحدى المرات حضرت حلقة الشيخ عز الدين مبكرا، ثم جاء بعدي أحد الطلاب وهو في سن والدي، وعندما سلم على الشيخ يبدو أنه طلب منه القراءة المبكرة لأنه مضطر للمغادرة مباشرة. وكان الدور علي، فسألني الشيخ إن كنت أؤثر الرجل بدوري، ولكني لم أفهم سؤاله، فقد ذكره باللهجة الدمشقية حيث تصبح كلمة المؤاثرة قريبة من ضدها في المعنى، فأردت أن أقول إنه لا مانع عندي، ولكنه ظن أني أمانع، فقال لي: "لا مؤاثرة في الطاعات. إقرأ". فقرأت، ثم قرأ الرجل بعدي. وقد لمت نفسي كثيرا بعد ذلك، لكن هذا يبين كيف كان الشيخ عز الدين يعامل طلابه جميعا معاملة واحدة. كم كان خلقه جميلا، وكيف لا وهو معلم القرآن؟

رحم الله الشيخ عز الدين العرقسوسي رحمة واسعة، وأجزل له الأجر والمثوبة، وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به في جنته.