الطب النبوي.. وقفات منهجية (2)

هناك مقولات حلّت في ثقافاتنا الدينية محل الحقائق والمعتقدات المسلّمة، ومن هذه المقولات: أن الإسلام دين فيه كل شيء من الذرّة إلى المجرّة، وأذكر أن أحد الوعّاظ كان يحكي أن «المستر كوك» -وهو أحد وجوه الاحتلال البريطاني الأول للعراق- وقف أمام أحد الشيوخ وسأله: أنتم تقولون إن القرآن فيه كل شيء، فأين أجد اسمي في القرآن؟ قال تجده في الآية الأخيرة من سورة الجمعة {وتركوك قائماً}، وإن كانت هذه نكتة أو طرفة، فهي اليوم تمثّل نهجاً متبعاً وثقافة شائعة. 

إن الغيرة على الدين والتحفّز للدفاع عنه من الصفات المحمودة والأمور المطلوبة، لكن ينبغي أن يكون ذلك بعلم ووعي وإلا كانت النتيجة معكوسة، فإذا تحدّثت مثلاً عن طب نبوي أو إسلامي أو إلهي -وهي كلها بمعنى- فينبغي عليك أن تتنبّه إلى نقطتين اثنتين.. 

الأولى: أن يكون عندك ما تثبته علمياً، ولا يكفي هنا الإيمان المطلق، فعلم الطب له أركانه وقواعده وتفصيلاته، كالتشخيص وما وصل إليه من مختبرات التحليل المتطوّرة وأجهزة الأشعة المتنوّعة، ثم العلاج بالأدوية التي تشمل كل الأمراض المعروفة تقريباً على سبيل الاستقراء وتقدير الجرعات والآثار الجانبية وما إلى ذلك، ثم يأتي التدخّل الجراحي والعمليات الصغرى والكبرى وطرائق التخدير، وقبل كل ذلك ما يُعرف اليوم بالطب الوقائي... إلخ. فهل تستطيع يا أخي أن تستحضر من النصوص القرآنية والنبوية ما يغطّي لك كل هذه الأركان ويجيبك عن كل هذه التفاصيل؟ 

الثانية: أن يكون عندك ما يُثبت تفوّق الطب الإلهي على الطب الإنساني من كل النواحي، فالطب الإلهي لو كان موجوداً بالفعل، لكان طباً شاملاً كاملاً ولا يمكن أن يحوجك إلى غيره، فانظر إلى مشايخنا ووعّاظنا، حتى أولئك المهتمين بالإعجاز العلمي أو الطبّي، كيف يترددون على مؤسسات الطب الحديث كما يتردد غيرهم، ولا يكتفون بما عندهم من آيات وأحاديث؟ 

كيف نتحدّث عن طب إلهي ثم لا نذكر إلا الحجامة وشربة العسل والحبة السوداء ونحو هذا، بينما يتحدث الطب الإنساني عن أدق التفاصيل العلمية في كل جزئية من زوايا الطب، من تكوين الخلية حتى زراعة القلب والكبد والكلى وجراحة المخ والأعصاب... إلخ. 

الحقيقة أن القرآن ليس كتاباً في الطب، كما أنه ليس كتاباً في الفيزياء ولا الكيمياء، ولا الفلك ولا اللغات ولا التاريخ ولا الجغرافيا ولا الصناعة ولا الزراعة، القرآن ليس مكتبة علمية ولا جامعة أو كلية.. القرآن كتاب هداية وعقيدة وشريعة وأخلاق، وما ورد فيه من شذرات وإشارات في أيِّ علم من هذه العلوم فإنما يؤخذ بسياقه ومقصده، دون تحميله فوق ما يحتمل، ودون أن نجعله بديلاً عن العلوم البشرية التي تنمو وتتطور مع الأيام، فهذه العلوم أقرب إلى تحقيق المقاصد القرآنية، ومن ثَمّ فلو سألني مريض عن الطب الإسلامي الذي يرتضيه الإسلام لمراجعة المرضى لما ترددتُ في إرشادÙ ‡ إلى المؤسسات الطبية المعتمدة، وليس إلى بيوت الوعّاظ والمشايخ. 

وقديماً قال علماؤنا المحققون: حيثما كانت المصلحة فثَمّ شرع الله. وأما جعل الإسلام في كفّة والعلوم الإنسانية في كفّة أخرى فهذا جهل بالإسلام وتغرير بالإنسان.

الحلقة الأولى هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين