الشيخ محمد فؤاد شميس.. رجل الدعوة والتجارة والسياسة

الشيخ محمد فؤاد شميس...

(رجل الدعوة والتجارة والسياسة)

 


د. إحسان مأمون الجويجاتي

ولد جدي الشيخ فؤاد في دمشق في محلّة قبر عاتكة في عام 1918 ميلادية. من أبوين صالحين. فوالده الشيخ رشيد شميس ووالدته الحاجة فاطمة البني. كان والده عالما فقيها فرضيا من طلاب الشيخ جمال الدين القاسمي. كذلك كان والده الشيخ رشيد شميس أول استاذ للشيخ محيي الدين الكردي رحمه الله.

طلبه العلم:

طلب العلم في أحد الكتّاب الموجودة في حي قبر عاتكة، ثم تلقى الفقه وعلوم العربية على والده الشيخ رشيد، كما قرأ العلم على الشيخ الأصولي محمود العطار والشيخ الورع محمود الحبال ومفتي الجمهورية الشيخ الطبيب محمد أبو اليسر عابدين. كما كان له مدارسات علمية مع الشيخ احمد نصيب المحاميد والشيخ محمد أبو الفرج الخطيب، والشيخ بشير الخوجة والشيخ عبد السلام القصيباتي والشيخ أحمد العطار والشيخ على عمار والشيخ عبد الرؤوف أبو طوق والشيخ فخري الحسني.

خطابته:

بدأ خطابته في جامع الحيواطية في محلة قبر عاتكة. وقد أكرمه الله بسرعة بديهة وطلاقة لسان والقبول عند الناس وكان من القلائل الذين خطبوا ارتجالا في دمشق في زمانه، وقد ساد في دمشق أنه من أول من خطب في حفلات عقد القران في دمشق.

كان له خطابات مشهورة في حضور رؤساء الجمهورية مثل الشيخ تاج الدين الحسني والسيد شكري القوتلي. وقد ذكر لي كل من الشيخ كريم راجح والدكتور سعيد رمضان البوطي أنهما كانا في شبابهما من المعجبين بخطابة جدي الشيخ فؤاد عليه رحمه الله.

خطب جدي في العديد من المساجد إلى أن استقر به المقام في جامع الإسعاف الخيري فخطب به إلى قريب من نهاية حياته العامرة. أذكر أني كنت أحضر الكثير من خطبه، أذكر منها خطبته يوم الهجرة النبوية، فكان يردد قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا. بطريقة فيها الكثير من التأثير والتأثر.

نشاطاته العامة:

كان له نشاط عام، فانتخب ممثلا عن دمشق في مجلس الأمة في جمهورية الوحدة. كما كانت له نشاطات في الجمعيات الخيرية، فقد وضع النظام التأسيسي لجمعية أرباب الشعائر الدينية مع ثلة من العلماء منهم الشيخ محمد الهاشمي والشيخ جميل الشطي والشيخ محمد أبو الفرج الخطيب.

كما كان من المؤسسين لجمعية البر والإحسان في حيهم قبر عاتكة. كما كان ركنا فعالا في دعوة الشيخ عبد الكريم الرفاعي والشيخ محمد عوض وكان بينهم محبة عميقة.

كان لا يتوانى عن أي مساعدة في سبيل الخدمة العامة، فكان يوصل صوت الضعيف والمستحق والضعيف إلى من يلزم. وكم شهدت في محله وبيته من اجتماعات في سبيل الصالح العام. فكان عضوا في العديد من الجمعيات الخيرية وفي لجان بناء الجوامع. كجامع زيد بن ثابت، وجامع عبد الرحمن بن عوف وجامع الرازي وجامع القاعة وجامع الإحسان، وجامع مصعب بن عمير وجامع التقوى بدمر. كان يُكرم أهل العلم وينزلهم منازلهم.

كان صاحب نكتة، عُرف بها، فكان يُحسن مخاطبة الرؤساء والعلماء والتجار والناس والبسطاء. ويتقن فن إيصال المعلومة المحرجة دون أن يُغضب السامع، ويعرف الخيط الرفيع في استخدام النكتة في إيصال النقد والشكوى.

في سوقه:

توسعت أعماله التجارية من محل صغير في سوق الخياطين إلى دكان كبير في شارع طارق بن زياد في الحريقة الحي التجاري المعروف في دمشق. كان تاجرا صدوقا في تعاملاته.

عملت عنده عطلتين صيفيّتين على عادة الأهل في أيامنا. أتذكر أن عمله تميّز بالصرامة والانضباط والجديَّة. كان يتابع بنشاط الزبائن والموردين. فيتذكر دفعاتهم وطلباتهم وزياراتهم طالبا من أخوالي الاتصال بهم.  أما طريقته في البيع فكانت مدرسة يُتعلم منها. ذكر السيد فواز نحلاوي أنه يعتبره شيخ تجار الحريقة، يتعلم منه الاستقامة والصدق والمعاملة الطيبة التي تُرضي الله ورسوله. كان يأتي إلى دكانه بوقته المحدد ويغادر عند انتهاء عمله. لا أذكر أنه تأخر عن عمله يوما.

كان حريصا على تزكية ماله، مرة حضرت في محله بازارا يشتري أرضا، ففال لمن يبيعونه بارك الله لكم بهذه الأموال، اعلموا أن هذه الأموال كلها مزكاة.

مع عائلته

كان مرضيا لوالده ووالدته، وصولا لرحمه، لا يتوانى عن المساعدة لمن يطلبها. عندما كنا صغارا كنا ننتظر زيارته في العيد لنا، حيث كان يعطينا أثمن عيدية.

رزقه الله اثني عشر ولدا، إذا دخل بيته تسارع الجميع إلى تقبيل يده، مجالسه مع أولاده وأحفاده كانت مجالس الهيبة، قوله القول الفصل، إذا قال سُمع له، وإذا طلب أُجيب. إذا رميت الإبرة في مجلسه تسمع صوتها. ولكن رغم جديته معنا التي كان لا يتكلفها، كنا ندرك أنها تغطي عاطفة رقيقة تسع الناس. كان يدعونا إلى منزله في العيد فيجتمع الأخوال والخالات والأصهار والأحفاد وأحفاد الأحفاد.

حين مرضت زوجته (جدتي) وثقلت حركتها، اتخذت لها في غرفة المعيشة سريرا، فلم يستطع أن يتركها وينام وحيدا في غرفة نومه، فصار ينام بالقرب منها على الأريكة لمدة تزيد على السبع سنين.

كان إذا بلغ أحفاده مبلغ الرجال، يهتم بهم ويعطيهم من خبرته الشيء الكثير. كان يبادرنا بكلماته الثمينة. وكثيرا ما كان يسمع كلامنا ويصحح أخطاءنا ويدلنا على الصواب بكثير من الحب. كان يشجّعنا على العمل التجاري، ويعطينا أسرار النجاح، كان يقول لي كنت أبيع الأثواب على كتفي بعد أن أغلق المحل. كان يعطي رأيه بتصرفات البعض من الأقارب، فيشجع أو يحذر أو يتوقع النجاح، أو يتوقع الفشل، وكثيرا ما كانت توقعاته تُصيب.

كان ذا عاطفة جياشة، تجمع بين الحزن والفرح، كان سريع العبرة، ذكر الأستاذ عارف جويجاتي قصة رواها عن إنسان أوصل جدي إلى الحرم النبوي، وبينما كان جدي يمازحه بطريقته اللطيفة، رأى المواجهة الشريفة فأجهش بالبكاء وانهمرت دموعه رغم أن ابتسامته لم تفارق شفتيه بعد.

شهدت مرة عاطفته الجياشة حين جاء يودعنا في أول سفرة لنا خارج دمشق، حينها هطلت تلك الدموع السخية من ذاك الجبل الأشم، اختزلت تلك الدموع مشاعرنا وأحاسيسنا وخبأنا فيها آلامنا وأحزاننا.

عبادته:

كان تدينه حقيقيا، يحرص على الصلاة على وقتها، يُحسن وضوءه، ويحسن قيامه، ويتهجد ليله بالصلاة والأذكار، وَصولا لرحمه، مستخدما جاهه في خدمة الضعيف والمسكين. كانت عباداته في سره كعبادته في جهره.

اشتهر رحمه الله بحب القرآن، كان يسمع القرآن فتفيض عيناه من الدمع من خشوعه وتأثره بالتلاوة، كنت مرة معه في عزاء وخرجنا سوية وهو ممسك بيدي وكانوا يقول لي بأسلوبه المؤثر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشراف أمتي حملة القرآن. يكررها كرات ومرات.

شجعني رحمه الله على حفظ كتاب الله منذ أن كنت في الابتدائية، وكان دائما يتابعني على ذلك. لما قرأت ختمة برواية حفص على شيخنا أبي الحسن محيي الدين الكردي، فكان يتابعني صباح مساء، وعندما انتهيت تشكّر الشيخ أبا الحسن بكلماته الطيبة. من الذكريات التي ما زلت أتذكرها أنه كان من القلة الذين كانوا ينادون الشيخ بلقب "ابو حسن".

تعامله مع المال:

أكرم الله جدي بالمال الوفير، فعاش حياة هنيّة ماديا، ولكن هذا التمتع بالحياة جاء من مال حلال وأنفقه في حلال من غير إسراف ولا تبذير ومن غير نسيان حق الله في ماله. كان يطبّق بشكل عملي قوله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق". لقد أخذ المال من حلّه، وأنفقه في حلّه. كان عفيف النفس، لا يأخذ مالا من أحد، بل إن رواتب الأوقاف تبرع بها كلها. أدركت جدي وهو في حالة مرتاحة ولكنه أبدا لم ينسَ الفقير والمسكين. ظلَّ على نفسيته المتواضعة رغم أنه انتقل من حيه القديم إلى المالكي، ظلَّ يتذكر حيه القديم في قبر عاتكة. كان يعرف قيمة الأشياء، يقدر نعمة الرغيف ونقطة الزيت وغيرها من النعم.

معرفته قدر الرجال:

أخيراً، كان جدي رحمه الله يعرف قيمة الرجال الكمّل، فكان يعرف كيف يختار أصحابه وأصهاره. فقد اختارهم من كرام الناس ووجوه القوم، من أصحابه مثلا الشيخ مراد الطباع، والدكتور السباعي والشيخ علي الطنطاوي والشيخ فخري الحسني والشيخ مكي الكتاني والشيخ أحمد نصيب المحاميد والشيخ عبد الرؤوف أبو طوق، وفاروق الطباع والشيخ عبد العزيز عيون السود والشيخ عبد العزيز أبازيد والسيد هاني الجلاد والشيخ عبد الرحمن الزعبي وعزت عزقول وغيرهم الكثير الكثير.

معرفته لعيوب أهل زمانه:

تميّز جدي بأنه جمع ما بين التجارة والعلم والسياسة وخدمة الناس، وعرف عيوب مجتمعه، فكان يقول لي إن مشكلة الناس أنها تحتاج إلى وعي. وكنت وقتها أتعجب من كلامه. وعندما كبرت عرفت معنى كلامه. لقد عايش جدي الكبار وتعلم منهم.

وفاته:

في اليوم السابع من شهر 5 من عام 1996 انتقل جدي إلى رحمة الله، بعد حياة مليئة بالعمل والطاعات والقربات.

أوصى أن يكتب على قبره: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا" .. الآية.

أسأل الله أن يتجاوز عن سيئاته وأن يحسن إليه وأن يجعله من أهل السعادة والسرور.

المصادر:

الدكتور أحمد شميس: سيرة حياة الشيخ محمد فؤاد شميس

عادل شميس

عبد المنعم شميس

معاذ شميس

عارف جويجاتي

نسيبة جويجاتي

فواز نحلاوي

ذكرياتي الخاصة