الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني - من أعلام المفسرين في العصر الحاضر

العلامة المفكِّر المفسِّر الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني .

بقلم مجد مكي

انتقل إلى رحمة الله تعالى ليلة الأربعاء 25من جمادى الآخرة1425هـ الموافق 11/آب /2004 فضيلة العلاَّمة المفكِّر المفسِّر الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني رحمه الله تعالى عن عمر يناهز الثمانين عاماً .. بعد مرض عضال ألمَّ به منذ سنوات، لم يُقْعده عن إنتاجه العلمي الوفير الغزير، ولا عن تألُّقه الفكري المتميز المنير.

ولد الشيخ رحمه الله تعالى في عام 1345 الموافق لعام 1927 في حي عريق من أحياء مدينة دمشق، وهو حيُّ الميدان الذي يتميز بالمحافظة على التقاليد العربية الأصيلة، ويعرف الكثير من رجاله بالشجاعة، والنخوة والسخاء والكرم.

ووالده هو العالم الرباني المربي المجاهد الشيخ حسن حبنكة الميداني رحمه الله تعالى ، وترجع أصول أسرة الشيخ إلى عرب بني خالد الذين تمتد منازلهم إلى بادية حماة من أرض الشام .

وقد نشأ الشيخ في بيت دينٍ وعلمٍ ودعوة وتربية ، وترعرع في أكناف والده ، يحوطه بعنايته ورعايته ، ويُعدُّه ليكون خليفة له في العلم والدعوة . تلقى الشيخ دراسته في معهد التوجيه الإسلامي على المنهج العلمي الأصيل مع التربية العملية ، حيث كان والده الشيخ حسن يكلِّف طلابه بإعداد الدروس وإلقاء الخطب في المساجد مما كان له أعظم الأثر في تمكنُّهم من الخطابة والوعظ والتعليم ، وفي تكوين شخصياتهم العلمية والدعويَّة . ...

وبدأ الشيخ عبد الرحمن يُعلم منذ كان عمره خمس عشرة سنة في معهد والده.

ولما تخرَّج من المعهد سنة 1367هـ(1947م) أسند إليه تدريس مواد مختلفة فيه ، منها علوم الفقه ، والأصول ، والتوحيد ، والمنطق ، والبلاغة حتى سنة 1370 ، إذ انتسب إلى كلية الشريعة في الأزهر الشريف ، حتى حاز على الشهادة العالية ( ليسانس في الشريعة ) ، من الكلية المذكورة ، ثم حاز على شهادة العالمية مع إجازة في التدريس ، ( ماجستير في التربية وعلم النفس ) .

وبعد تخرُّجه من الأزهر الشريف صار أستاذاً في ثانويات دمشق الشرعَّية والعامَّة ، إضافة إلى التدريس في معهد أبيه .

وتسلم مديرية التعليم الشرعي التابعة لوزارة الأوقاف، وكان في إدارته حكيماً رشيداً، يعمل بهمة وصمت، ومن أهم ما أنجزه في إبَّان إدارته: تأسيس عدد من المدارس الشرعية في بعض المحافظات السورية، منها: ثانوية شرعيِّة للإناث بدمشق وأخرى بحلب.

في سنة (1387)هـ (1967 م ) انتقل إلى العمل في المملكة العربية السعودية وعمل أستاذاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض لمدة سنتين ، ثم انتقل عمله إلى مكة المكرمة ، فعمل أستاذاً في جامعة أم القرى زهاء ثلاثين عاماً .

وقد أسند إليه في هذه الجامعة تعليم مواد مختلفة ، دينية ودعوية ، ولما بلغ من عمره المبارك سبعين عاماً أُعفي من عمله الرسمي في الجامعة ، واختير عضواً في

المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة ، وعضواً في مجلس هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية .

وكان له الكثير من المشاركات في المؤتمرات والندوات ، منها : مؤتمر التعليم الإسلامي ، ومؤتمر الاقتصاد الإسلامي ، اللذان عُقدا في مكة المكرمة ، ومؤتمر الأدب الإسلامي الذي عقد في " لكهنو " الهند ، ومؤتمر الدعوة والدعاة الذي عقد في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم .

وله مشاركات كثيرة في إلقاء المحاضرات العامة ، والأمسيات ، والندوات العلمية، ضمن الأنشطة الثقافية داخل جامعة أم القرى وخارجها .

وله إسهامات تلفازيه وإذاعية، وقد استمر في تقديم أحاديث إذاعية يومية أو أسبوعية ما يزيد على 30عاماً.

كان الشيخ رحمه الله شديد الحرص على وقته ، فلا يكاد يُرى إلا قارئاً أو كاتباً ، أو محاضراً أو مناقشاً ، وكان ذا دأب وجَلََد على العلم المتواصل ، وكان موسوعي الثقافة ، واسع الاطلاع .

تميز نتاجه العلمي بالغزارة مع العمق والشمول، وقد جمع في كتاباته بين القديم والحديث، وبين التخصص الشرعي الدقيق والعلوم الدنيويَّة العصرية.

من نتاجه المطبوع :

أولاً ـ سلسلة في طريق الإسلام ، منها :

1ـ العقيدة الإسلامية وأُسُسُها.

2ـ الأخلاق الإسلامية وأسسها.

3ـ الحضارة الإسلامية وأسسها ووسائلها.

4ـ الأمَّةُ الربانية الواحدة.

5ـ فقه الدعوة إلى الله ، وفقه النصح والإرشاد .

ثانياً ـ دراسات قرآنية، منها:

1ـ قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عزوجل .

2ـ معارج التفكر ودقائق التدبر.

3ـ أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع .

ثالثاً ـ سلسلة أعداء الإسلام ، منها :

1ـ مكايد يهودية عبر التاريخ.

2ـ صراع مع الملاحدة حتى العظم.

3ـ أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها ( التبشير ، الاستشراق ، الاستعمار ).

4ـ الكيدُ الأحمر ( دراسة واعية للشيوعية).

5ـ غزوٌ في الصميم.

6ـ كواشف زُيوفٍ في المذاهب الفكرية المعاصرة.

7ـ ظاهرة النفاق وخبائث المنافقين في التاريخ.

رابعاً ـ سلسلة من أدب الدعوة الإسلامية ، منها:

1ـ مبادئ في الأدب والدعوة.

2ـ البلاغة العربية ( أُسُسُها وعُلومها وصور من تطبيقاتها).

3ـ ديوان ترنيمات إسلامية ( شعر).

4ـ ديوان آمنت بالله ( شعر).

خامساً ـ كتب متنوعة:

1ـ ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة.

2ـ بصائر للمسلم المعاصر.

3ـ الوالد الداعية المربي الشيخ حسن حبنكة الميداني ( قصة عالم مجاهد حكيم شجاع ).

ولزوجته الداعية المربية عائدة راغب الجراح الأستاذة بجامعة أم القرى سابقاً ـ رحمها الله تعالى ـ كتاب : عبد الرحمن حبنكة الميداني العالم المفكر المفسر( زوجي كما عرفته ) ، صدر عن دار القلم بدمشق ، ضمن سلسلة : علماء ومفكرون معاصرون ، لمحات من حياتهم ، وتعريف بمؤلفاتهم .

ومن أهم آثاره العلمية النافعة: تفسيره التدبُّري النافع الذي طبع منه خمسة عشر مجلداً ، إذ انه اتَّجه في آخر عمره ، بعد ممارسة طويلة ، وتجربه ثرَّة ، وخبرة عميقة ، وصلة مستمرة بكتاب الله عز وجل إلى كتابه تفسير تدبُّري وفق المنهج الذي رسمه في كتابه : " قواعد التدبُّر الأمثل لكتاب الله عز وجل " ، وقد انتهى ـ بفضل الله ـ من تفسير السُّور المكية بكاملها ، والتي تمثل ثلثي التفسير ، وشرع في تفسير سورة البقرة ، وهي أول ما نزل في المدينة ، ولم يتوان ـ رحمه الله وأثابه رضاه ـ عن تدبره لكتاب الله تعالى ، حتى وافاه الأجل المحتوم .

والشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ يُعَدُّ بحق مدرسة علمية متميزة قائمة بذاتها ... في عطائها وإنتاجها، وابتكارها واستنباطها، وتحليلها وربطها... وقد وفقه الله سبحانه إلى ذلك الإنتاج العلمي الغزير ، بما حباه الله من ذكاء وبصيرة نفاذة ، وأُفق واسع ، وأساس علميٍّ متين ، وتمكُّن من علوم كثيرة ، كعلم المنطق ، والأصول ، واللغة ، والفقه .. مع إخلاص عميق ، وصلة قوية بالله عز وجل ، واعتماد عليه سبحانه ، واستشعار لفقره وحاجته الدائمة إلى عطائه عز وجل وعونه ..

وكم كان يُردد ويقول ويؤكد : أنه ليس عنده شيء ، و أن كل ما يكتبه هو من فيض عطاء الله عليه ومَدَده وتوفيقه.

وكان يؤكد في لقاءاته مع إخوانه وأبنائه من طلبة العلم على ضرورة التزام منهج الوسطية ، والبعد عن الغلو والشطط في كل صوره وأشكاله ... ويحذر من التبعية العمياء، والتعصب والانغلاق ، ويدعو إلى دوام التفكر والتأمل والتبصر ومراجعة الأمور والنظر في عواقبها ..

كما كان يرسخ في نفوس طلابه معاني الإخلاص والصدق ، وابتغاء رضا الله سبحانه ، وإيثار الدار الآخرة ... ويحذر من حظوظ النفس وشهواتها وتزييناتها ...

وكان من أشد الناس زُهداً في المناصب ، وقد عرض عليه أن يكون مفتياً للجمهورية السورية ، وأغري بهذا المنصب ، ففرَّ منه ، واضطر أن يقيم بعيداً عن موطنه خمسة وعشرين عاماً ، لم يزره خلال هذه المدة الطويلة إلا في الأشهر القليلة التي عاد فيها إلى دمشق قبيل وفاته ..وسمعته يقول : لقد حاول بعضهم إلزامي باستلام منصب المفتي العام ، لكنني فررت منه ، وأكرمني الله بالإقامة بمكة المكرمة ، والتفرغ لكتابة التفسير ، وهذا من فضل الله عليَّ ، ولو قبلت ذلك المنصب لكنت مطية ذلولاً ، وعبداً مطواعاً ولركبت سيارة فخمة سوداء تنتهي بي إلى غضب الله تعالى ، فآثرت الباقي على الفاني ، والعلم النافع على الزغل والزيف .

كما كان يبتعد عن الشهرة والأضواء... ويكره النفاق والتملق ، وهو خبير بدخائل المنافقين ، ومسالك أعداء الإسلام . .

ومن مظاهر نفرته عن الشهرة وحب العاجلة، أنه لم يتطلع إلى جائزة تقديرية من أي جهة علمية، وهو جدير بها، وأهل لها، بما قدم من دراسات قرآنية مبتكرة، وكتب فكرية عميقة... ولا يرضى أن ترشحه بعض الجهات لهذه الجوائز ، ويعد ذلك منقصاً للأمر الذي ادخره الله سبحانه لعباده الصادقين المخلصين.

وقد رغب إليه بعض الوجهاء أن يكرمه في حفل كبير ، يدعى إليه كبار العلماء والأدباء والمفكرين ، يتناولون فيه عطاءه الفكري والدعوي والتربوي .. ويشيدون بجهوده .. ويمدحه بعضهم بقصائده فأبى وامتنع رغم الإلحاح الشديد ... خوفاً من شوائب الرياء .. وحب الثناء.. والتفاخر.

ومن أخلاق الشيخ العلمية : حب المناقشة والحوار العلمي ، وسعة الصدر والتحمل لأسئلة السائلين ، وكم من مرة اتصلتُ به بالهاتف في بيته بمكة المكرمة ، أسأله عن قضية علمية أستشكلها ، أو استغلق علي فهمها ، أو عن رأي قد أخالفه فيه في بعض كتبه ... فكان يُسرُّ جداً بتلك المناقشات، ويتسع صدره لها، ويبدي وجهة نظره التي ذهب إليها ورجحها..

كما كان يفرح بكل فائدة علمية جديدة أو تصويب.. وقد قمت بقراءة تفسيره الأخير، واستعرضت جميع كتبه النافعة... وبيَّنت له بعض الأخطاء المطبعية النادرة .. وكتبت له بعض الآراء والأقوال التي ذهب إليها في كتبه السابقة، مما يخالف ما ذهب إليه ورجَّحه في تفسيره التدبري الأخير.. فذهب إلى ترجيح ما ذهب إليه في تفسيره، الذي وصل فيه إلى ترجيحاته بعد دراسة متأنية لكل سوره، وسبر لكل كلمة قرآنية.. ووعد بأن ينبه إلى ذكر ما خلف اجتهاده وترجيِّحه في كتبه السابقة لتفسيره، وشكرني على ما قمت به، ودعا لي بكل خير.

وقدمت إليه مرة كتاب :" غريب القرآن " للعلامة عبد الحميد الفراهي الهندي ، وأطلعته على ما كتب حول كلمة " آلاء " مما يخالف ما ذهب إليه جمهور المفسرين بقصر معناها على النعم ..

وقد ذهب الشيخ إلى ما ذهب إليه جمهور المفسرين عند تفسيره لسورة النجم الآية : 55 : ( فبأي آلاء ربك تتمارى ) وتفسيره لسورة الأعراف : ( فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون ) الآية 69 ، فأعجب الشيخ بما ذهب إليه الفراهي ، وأيده من شواهد شعرية تفيد أن المعنى : الفعال العجيبة والصفات العظيمة ... ووعد بأن يذكر هذا المعنى عند تفسيره لسورة الرحمن، وهي من التنزيل المدني..

لقد حظيت بالتعرف على فضيلة الشيخ مند قدومي إلى مكة المكرمة سنة 1400، وحضرت بعض دروسه ومحاضراته في الجامعة، وقرأت أكثر كتبه، وانتفعت بها انتفاعاً كبيراً، ثم كثُرت زياراتي له، واتصالي به، بعد تفرغه من عمله الجامعي، وتوجهه لتفسيره التدبري.. فكنت أزوره في كل أسبوع بمنزله بمكة المكرمة.. وقد زرته بصحبة الكثير من العلماء وطلبة العلم ، ومنهم على سبيل المثال : الشيخ : محمد عوامة ، والشيخ عبد الله التليدي ، والدكتور أنس الزرقا ، والشيخ محمد نبيه سالم ، والأستاذ محمد علي دولة ، والأخ الشيخ حسن قاطرجي ، والدكتور قاسم سعد ، والأستاذ محمد الحسناوي ، ورمزي دمشقية ، ومحمد بن ناصر العجمي ، ونظام يعقوبي ، ومحمد بن عبد الله الرشيد... وغيرهم كثير .

وكنا نلقى منه كل حفاوة وتكريم، ونستفيد من توجيهاته التربوية، وفوائده العلمية.

وبعد عودته إلى دمشق استمرت صلتي به .. وكتبت دراسة تعريفيه موجزة عن تفسيره التدبري ، وقد أرسلت له تلك الدراسة لاطلاعه عليها قبل طباعتها، فاستحسنها، واتصل بي من دمشق يشكرني عليها.

وكنت أتصل به إلى دمشق أطمئن عن صحته وعطائه .. فأجده مستبشراً متفائلاً فرحاً .

وقد ذكر لي في آخر مكالمة هاتفية عن انتهائه من تفسير السور المكية ، حيث أتم بعد عودته إلى دمشق ، تفسير السور المكية التالية : المعا رج (79) والنبأ ( 80) والنازعات ( 81) والانفطار (82) والانشقاق (83) والروم ( 84) والعنكبوت (85) والمطففين (86) ، وحدثني عن اللمحات التدبرية التي استنبطها من سورة العنكبوت التي كانت تعدُّ المسلمين للهجرة إلى مكة المكرمة ، وأفاض في حديثه عما يفتح الله عز وجل عليه من حسن تدبر لكتابه العظيم ، وما وهبه من همة وعزم ونشاط على متابعة الكتابة فيه وكنت أدعو الله سبحانه له بتمام العافية والتوفيق لإتمام تدبره لكتاب الله سبحانه .

ولكن حال الأجل دون تحقيق الأمل ... ولئن لم يتم الشيخ تفسيره ، فقد قدم بما كتب ثروة علمية ضخمة ، وزاداً تدبرياً وفيراً ، ... ورسم منهجاً فريداً لتذوق كلام الله وحسن تدبره...

وإن فيما كتب من كتب أخرى كثيرة تدور حول كتاب الله ، لا سيما " ظاهرة النفاق " في مجلديه ، حيث فسر قسماً مهماً من السور المدنية ، وكذلك كتبه الأخرى : " فقه الدعوة إلى الله " ، " والأخلاق الإسلامية " ، و " ابتلاء الإرادة " ، و " أمثال القرآن " وفيها من المباحث القرآنية والفوائد التفسيرية الكثير الطيب المبارك .

شيعت جنازة الشيخ عصر يوم الأربعاء ، وكانت جنازة حافلة مشهودة ، خرج فيها آلاف المشيعين من العلماء والكبراء والعامة ، تملؤهم الحسرة وتَمُضُّهم الأحزان ، وصلِّيَ عليه في جامع الأمير مَنجَك ، في حي الميدان وأبَّنهُ عقب الصلاة شيخ قرآء الشام فضيلة الشيخ محمد كريِّم راجح ، وألقى ولده الدكتور وائل قصيدة في رثائه ، ثم ووري في مثواه الأخير من دار الدنيا بمقبرة الجورة في حي الميدان .

رحم الله شيخنا الجليل، رحمة واسعة ، ونفع بعلمه الغزير، وتراثه القرآني الوفير، أخلف في الأمة أمثاله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، العلي العظيم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون...

كتبه :

مجد مكي

الخميس 26/جمادى الآخرة 1425