الشيخ حسن حبنكة: ظاهرة وتاريخ

 
 
 

د. عدنان زرزور
 
 
- 1 -
 
ما سمعت مرة بنبأ وفاة إنسان، وبخاصة إذا كان عالمًا أو قريبًا أو شابًا، إلا فكرت بما بعد الموت، أو استحضرت في ذهني ونقبني صورة ما بعد الموت، وذكرت قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كفى بالموت واعظًا».. وتمثل لي عالم الغيب بوصفه حقيقة الحقائق وخاتمة المطاف: «كل من عليها فان». ولكنني حين سمعت بنبأ وفاة فضيلة الأستاذ العلامة المجاهد الشيخ حسن حبنكة وحمت وأطرقت،.. ورأيتني بعد أن ثبت( ) إلى نفسي أستعرض في ذاكرتي تاريخ الأمة الإسلامية الحديث منذ مطلع هذا القرن الهجري إلى الآن. كنت أعيد النظر وأتأمل في جزء من ماضي عالم الشهادة، ولا أفكر في عالم الغيب: لقد ردني موت الشيخ رحمه الله إلى الماضي، ولم يحملني على النظر في المستقبل.. ثم لازمتني هذه الصورة وأنا أسير مع عشرات ألوف المشيعين واجمًا مطرقًا حزينًا على الرغم من بعض المظاهر الكفيلة بنقل المرء من العالم الذي يعيش فيه إلى عامل آخر من الصور والأفكار، والتي كان من بينها منظر بعض الشيوخ المسنين الذين ربما جاوز بعضهم الثمانين- ولا أقول الستين أو السبعين- وقد حنت حانيات الدهر ظهره.. يسير في وسط المشيعين هذه المسافة الطويلة يتكئ على نفسه وصمته وأحزانه.. وكأنه يسعى في واجب عيني يهمه هو وحده ولا يهم أحدًا سواه! بل لعل الكثير من هؤلاء الشيوخ أن يعفوا أنفسهم من تشييع أقل مشقة وجهدًا لو كان الأمر يتعلق بقريب يتصلون به بروابط الدم والنسب.. ولكنهم- شهد الله- لم يفعلوا ذلك وهم ينتسبون إلى الشيخ المجاهد بوشائج التاريخ، وروابط العقيدة والدين، وواجب احترام العالم العامل بوصفه حاملاً لأمانة هذا الدين وممثلاً له، ومدافعًا عنه.. هذا الدين الذي أراد هؤلاء الشيوخ وغيرهم من سواد المشيعين أن يقولوا: إننا له ومعه في جميع مراحل الحياة، وفي جميع الظروف! كان شيئًا جبًا هذا الاندفاع، وهذا الحب، وهذا الشعور، وهذا التعبير العميق البعيد!
ولكن سرعان ما خطر لي أن هذه الصور التي أراها في هذا الموكب المهيب ليست إلا جزءًا من الصورة التي ملكت على شعوري وتفكيري طيلة ذلك اليوم الحزين: إن الأمة تودع اليوم تاريخًا من تاريخها الحافل لتستقبل على أرض هذا البلد الذي درج فيه الشيخ، وعلى ترابه نشأ وترعرع وتعلم وعلم وجاهد لتستقبل مرحلة جديدة خالية من هذه الشخصية الكبيرة الفذة! والغد المأمول، والحاضر المنظور، كأمس الذاهب: كل ذلك بيد الله العلي القدير.
وحين نودع التاريخ، أو نحمل على وداعه بمشيئة الله وقدره الذي لا يرد، نجد أنفسنا نتأمل فيه ونفكر، وحين نستقبل منه مرحلة جديدة نثقف كذلك أمامها نفكر.. بل قد نطيل التفكير.. أما شخص الفقيد العظيم فهو «دلالة» هذا التاريخ قبل أن يكون رجلاً كبيرًا يقطع الرحلة إلى عالم الغيب ليذكرنا بهذا العالم ولنضرع للفقيد بالرحمة والغفران.
كانت الدعوات للشيخ بالرحمة والرضوان حارة وغزيرة لأن رحمة الله تعالى هي أساس الفوز والنجاة بين يدي العليم الخبير.. ولكنني كنت أقرأ في هذه الدعوات كذلك معنى الرثاء والإشفاق من الغد القريب المجهول وقد خلت الديار من الشيخ المهيب الجليل، ولهذا فإن الإحساس الحقيقي بمرارة فقده- رحمه الله- كان والجنازة يدلف بها إلى القبر والمؤذن يؤذن للمغرب: الله أكبر.. الله أكبر؛ عندها شعرت بالدموع الحارة تنساب من مآقي ومآقي ألوف المشيعين. لقد غربت شمس هذا العالم الذي عاش لقضية الإسلام. فغربت الشمس في نفوس أبناء هذا البلد مساء ذلك اليوم لتشرق في اليوم التالي على القضية التي عاش لها الشيخ، والتي قضى في سبيلها.. فقد كانت حياته للإسلام والمسلمين، ولم تكن في يوم من الأيام لأهله وذويه رحمه الله رحمة واسعة، وأعلى مقامه في عليين.
 
- 2 -
 
مثّلث حياة الشيخ المجاهد جميع مراحل التاريخ الحديث أو المعاصر بدءًا من عصر الصدام مع الحضارة والفكر الأوروبي إلى مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، وما تعاني منه شعوب العالم الإسلامي في هذه المرحلة من قهر لأبنائها، ومطاردة لعقيدتها ودينها. ولد الشيخ حسن حبنكة بُعيد وفاة الشيخ الإمام محمد عبده رحمهما الله. وقد كان الشيخ الإمام علامة بارزة في ذلك الصدام حين استطاع أن يقف في وجه الافتتان بهذه الحضارة وبمنجزاتها المادية.. ليقول: لا، إن الإسلام لا يغل العقل الإنساني، وهو صالح لكل زمان ومكان.. ولكم دينكم ولي دين؛ على ما أخطأ فيه- رحمه الله- من تجاوز في تطبيق هذا المنهج، لم يحمل عليه فيما يبدو سوى موقع الدفاع أو موقف المحامي الذي اتخذه من قضايا الإسلام والمسلمين.
وتتلمذ الشيخ حسن حبنكة رحمه الله على رعيل من العلماء الكبار في دمشق في وقت كان الجهل يلف السواد الأعظم من الناس، والعجيب أن هذه النسبة العالية من الجهل والأمية في ذلك الوقت- في أواخر العهد العثماني- كأن يقابلها تلك الدرجة العالية من العلم لدى نفر من العلماء الأفذاذ. وكان للظروف التي مرت فيها بلاد الشام في أوائل هذا القرن الميلادي دورها في عدم استفادة علماء الشام من تجربة الإمام محمد عبده، فضلاً عن تصحيحها أو تجازها! بل لعل معظمهم إذا أشار إليها كان يضعها موضع الزراية والريبة بوصفها تمثل انحرافًا، وتجاوزًا، وجرأة، وفتحًا لأبواب يصعب إغلاقها.. كيف لا؟! والجديد الذي تردد في بلاد الشام لم يكن أكثر من جرأة على الإسلام، بل لعلي لا أبعد إذا قلت: إن الحلقات التي قرأ فيها الشيخ حسن رحمه الله، وتتلمذ على أصحابها الأعلام كانت تمثل «الأصالة» أو تمثل فروع العلم الإسلامي على النحو الذي توضع عند العلماء منذ عدة قرون، بعيدًا عن أي محاولة أخرى كتلك التي كانت في مصر أو الهند على وجه الخصوص. ولكنها كانت أصالة من نوع فريد لأن تلك الطبقة من العلماء الكبار، الذين أخذ عنهم الشيخ حسن حبنكة وأبناء جيله؛ لم نرها تعاد، ولا ندري إذا أعيدت في يوم من الأيام هل ستبذل العلم للناس. وتسعى إلى تعليمهم بمثل تلك الهمة والحماسة والتجرد، والسعي إلى الثواب ومرضاة الله عز وجل!
كانت هذه «الأصالة» هي العامل الأول في التكوين العلمي والعقلي للأستاذ الشيخ حسن حبنكة رحمه الله الذي انطلق في الإحاطة بأركان هذه العلوم الإسلامية بذكاء نادر، وعقل راجح، وهمة عالية. كما يحدثنا أقرانه وزملائه، وكما ظهر في عمله العلمي الذي قاده هو فيما بعد. أما العامل الرئيس الثاني فهو ظروف العمل الوطني والسياسي الذي خاضه الشيخ رحمه الله في ظروف مبكرة، لعلها كانت بعيد طلبه للعلم وتردده على حلقات العلماء والشيوخ، وربما كانت مصاحبة له على وجه التقريب، فحمل السلاح وانخرط في سلك الثوار والمجاهدين، وانتقل من مسجد إلى مسجد، ومن حي إلى حي، ومن بلد إلى بلد.. وتردد طويلاً بين دمشق وبين قرى غوطتها الواسعة.. وهو في كل ذلك يحمل كتابه في يد، ويجمل سلاحه في اليد الأخرى.. ويقرأ شخصيات الناس، ويعرف قدراتهم وعوائدهم.. ولقد سمعت منه رحمه الله صورًا كثيرة بخطوطها الدقيقة والمعبرة عن الكثيرين من القادة والعلماء وطلاب العلم الذين صحبهم وعمل معهم.. تدل على ما كانت تختزنه ذاكرته الهائلة من تاريخ وملاحظات ومعرفة عميقة بالطبائع والأحوال. وأخشى- بهذه المناسبة- أن نكون قد فقدنا بوفاة الشيخ المجاهد رحمه الله كثيرًا من تفاصيل حركة الجهاد ومقاومة الاستعمار الفرنسي في سورية، وأسماء الكثيرين من طلاب العلم الشرعي وغيرهم ممن استشهد في هذه الحركة.. وليس يشك مؤرخ، أو باحث منصف بعيد عن الغرض والهوى، أن الوطنية والدينية في جميع أجزاء العالم الإسلامي، لا في هذه الصورة المحدودة أو الصغيرة في دمشق فحسب، كانتا تسيران جنبًا إلى جنب، أو أن الجهاد ومقاومة الاستعمار كان واجبًا دينيًا لا يقبل التهاون أو المساومة أو التأخير. وعلى الذين يتجاهلون هذه الحقيقة أو يحاولون طمسها وتشويهها أن يعودوا لقراءة تاريخ جهاد المسلمين في الهند، وتاريخ الجهاد الذي قاده الأزهر ودعاة الإسلام في مصر، بل ليقرأوا تاريخ الثورة الجزائرية الكبرى، وما سبقها في هذا البلد من عشرات الثورات والحركات، فضلاً عن غيره من البلاد والأصقاع..
ولكن الذي أحب أن أشير إليه هو هذه التربة العملية العالية، أو التربة والإعداد من خلال الواقع التي أتيحت للشيخ المجاهد رحمه الله، والتي سعى هو إليها، والتي لم تتكرر كثيرًا في إعداد القادة والشيوخ في هذا البلد العريق.
 
- 3 -
ثم يتابع الشيخ رحمه الله ليصبح مرجعًا وموئلاً في كلا الجانبين أو العاملين السابقين مع اختلاف الظروف والأحوال. مثّل رأس الأصالة العلمية في حلقات التدريس التي كان يعقدها في «جامع منجك» في حي الميدان بدمشق، وفي بيته كذلك. ثم في المعهد العلمي الذي أسسه في الجامع المذكور باسم «معهد التوجيه الإسلامي» والذي كان يضم بين جدرانه طائفة غير قليلة من الطلاب المسلمين غير العرب، وبخاصة الأتراك منهم الذين كان الشيخ رحمه الله- فيما لاحظت- يوليهم اهتمامه الخاص، ولعل ذلك كان الرد العلمي والعملي جميعًا على ا لعلمانية والتغريب الذي قاده «أتاتورك» في بلادهم. وربما كانت هذه الأصالة بحاجة إلى شيء من الإضافة والإفادة من بعض التجارب الإسلامية التي تمت في مصر أو الهند- وربما سورية ذاتها- في سبيل مقاومة أفضل لهذه العلمانية التي أريد لها في ذلك الحين أن تعم أجزاء العالم الإسلامي، ولكن شيئًا من ذلك لم يتم على نحو ملائم وفي الوقت المناسب فيما يبدو.
أما في جانب الجهاد والعمل العام فقد مثل فيه الأستاذ الشيخ رحمه الله رأسًا كبيرًا في السياسة والاجتماع والاهتمام بشؤون الإسلام والمسلمين:
شارك في تأسيس رابطة العلماء في سورية، وكان الأمين العام لهذه الرابطة، كما أسس بعض الجمعيات الخيرية الاجتماعية. وبقي يخطب الناس في مسجده الجامع يوم الجمعة أكثر من ربع قرن! ويخطئ من يظن أن هذا كان عملاً علميًا أو دينيًا- بالمفهوم الغربي لهذه الكلمة- فحسب، بل كان منبره من أكبر الأعمال العلمية الاجتماعية التوجيهية السياسية الوطنية.. كان الشيخ رحمه الله خطيبًا من طراز خاص، أوتي القدرة الفائقة على هذا المزج بأسلوب تربوي تثقيفي رشيق، ولم يلهب حماسة المصلين ضد طاغية ظالم أو وضع فاسد، في الخطبة التي يأخذهم فيها بأسباب التربية والتهذيب، ويقص عليهم فيها من قصص الصحابة وسائر العلماء العاملين حتى تجري منهم المدامع.. لم يفعل ذلك مرة أو مرات.. بل لعل أكثر خطبه رحمه الله تحمل هذا الطابع الفريد على وجه العموم. وكم قالت دمشق، بل سورية كلمتها على لسان الشيخ رحمه الله من فوق منبره في جامع منجك بحي الميدان. وكم سعى الناس ليسمعوا هذه الكلمة في الحوادث البارزة والخطوب الجسام!
 
- 4 -
 
لقد ترددت على سماع خطبه رحمه الله نحوًا من عشر سنوات بدءًا من أوائل الخمسينيات إلى ما بعد تخرّي من الجامعة في صيف عام 1960، ولكنني لم أفكر طويلاً في آفاق هذه الشخصية الكبيرة إلا في عام 1954 يوم سعيت مبكرًا لسماع كلمة البلد على لسان الشيخ في الأسبوع الذي غادر فيه حاكم سورية أديب الشيشكلي البلاد إثر تمرد أو انقلاب أو تهديد! كنت أتوقع أن أسمع تشفيًا من الطغيان والديكتاتورية التي كانت تتحكم في البلاد والعباد، كيف لا وقد وقع في حسّنا ونحن شبان صغار في سن المراهقة أن ما كان تعاني منه البلاد في ذلك الحين يمثل قمة التسلط والاستعباد- وكم كنا واهمين أو متفائلين مع الأسف الشديد- وكنت قد سمعت قبل أسابيع، فيما أظن، عن مقابة الشهيد نواب صفوي لحاكم سورية وماذا قال له في تلك المقابلة، بل كنت قد وعيت الكثير من خطب الشيخ حسن نفسه رحمه الله في انتقاد الأوضاع، والجهر بكلمة الحق، ولا يزال يتردد في خاطري حتى الآن قوله في مستهل بعضها، وقد تسامح بما عرض على بعض المسارح من سخرية «برجال الدين» أو العلماء وحملة الإسلام.. فبدا الشيخ مغضبًا، وبدأ بقوله: «يا أيها الناس إن الوقت جدّ فلا تهزلوا!!» ثم أفاض في حديث الجد والهزل، مشيرًا بأصبع الاتهام إلى من يضيّع البلاد والعباد.. وكان يومها- رحمه الله رحمة واسعة وجزاه أحسن ما يجزي عباده الصالحين- قمة في البيان والتأثير.. وعيت هذا وأمثاله وسعيت لسماع خطبته في اليوم المذكور، وغص المسجد- مع ملحقاته- بالمصلين.. ثم فوجئت بالشيخ لا يشمت ولا يفرح! بل يتحدث عن المستقبل بروح لا تخلو من الامتعاض والتشاؤم.. حدَّث الناس عن الأصول والمبادئ، ولم يحدّثهم عن الأشخاص والأعلام. أدركت يومها أن من أبزر صفات الشيخ رحمه الله أنه أبعد ما يكون عن الانفعالية وسرعة التأثر والاستهواء- وهي الصفة التي طالما جرّت علينا المشكلات والويلات لدى كثير من الخطباء والنقباء! وإنه يؤثر في الحوادث ولا يتأثر بها، وأنه يحاول أن يكون فاعلاً لا منفعلاً. ويتردد في خاطري الآن وأنا أكتب هذه الكلمات: لو أن هذا الخلق أو هذا المبدأ أخذ به وعمل عليه جميع العلماء والخطباء كم يكون الأثر محمودًا، والنتائج طيبة حسنة! بل لو أخذ به أولئك العوام وأشباههم ممن عاصروا الشيخ وصحبوه طويلاً ولكنهم لم يفقهوا عنه إلا القليل.. لو أخذوا بهذا المبدأ وعملوا به لما أساؤوا إلى الشيخ رحمه الله، وأساؤوا إلى أنفسهم وخالفوا أمر نبيهم ﷺ حين أصرُّوا على دفن الشيخ ضمن مخطط مسجد سينا الحسن البصري رضي الله عنه وقد قضى الله ورسوله أن تكون المساجد لله عز وجل وحده! هذا حكم شرعي واضح لا مجال فيه للتأويل والتعليل! ومن زعم أن إغراقه في حب بعض الأشخاص يفتح له باب التجاوز عن بعض الأحكام الشرعية الثابتة المقررة.. وأن يكون ولاءه للأشخاص لا للمبادئ، أو للشيخ وليست للإسلام.. من زعم ذلك فقد كذب في حبه وفهمه لدينه جميعًا!
 
- 5 -
 
لخصت حياته- رحمه الله- تاريخ البلاد المعاصر.. لا بحكم تاريخ ولادته ووفاته، بل بما مثّلته هذه الحياة من أدوار التفاعل والتأثير في البيئة والمجتمع، والحياة والناس! نشأ في ظل الحكم العثماني يافعًا، وجاهد الاستعمار الفرنسي شابًا، ومضى يكافح هذا الاستعمار وسائر أعداء الإسلام كهلاً.. واستوى على مقعد القيادة الدينية والسياسية، والاجتماعية كهلاً وشيخًا.. ووقف في وجه الاستبداد والطغيان، والزندقة والعمالة والإلحاد شيخًا مهيبًا جليلاً كبير النفس، عالي الهمة، صلب العود، قوي الشكيمة؛ يجهر بكلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، ويفيء إليه العلماء وطلاب العلم وعامة الناس كلما حزّ بهم أمر، أو ألمّ بهم مكروه؛ فيجدون فيه الملجأ والملاذ؛ يجدون فيه الحكمة المتأنية، والنفس الكبيرة، والأب العطوف.. ويجدون فيه قبل ذلك وبعده: عزّة المؤمن، وكبرياء المجاهد.. الذي باع لله نفسه فلم يعد يخيفه تهديد أو وعيد.. رحمه الله وأعلى مقامه.
وأحب أن أشير هنا- من باب الاعتبار والإفادة من تجارب الشيخ رحمه الله في ميدان الإصلاح الاجتماعي والعمل العام- أن الاستجابة العفوية التي كان يجدها الشيخ رحمه الله ويلقاها من الجمهور وهو يحضه على الجهاد ضد الفرنسيين أو يلهب شعورهم الديني ضد قانون الطوائف على سبيل المثال.. بقي الشيخ رحمه الله يقدر هذه الحماسة قدرها أو لا يسقطها من حسابه حتى عندما ضعفت أو ذبلت فيما يبدو، أو عندما تغيرت الظروف والأحوال، وتغيرت تبعًا لذلك وسائل المكر بالإسلام والمسلمين، ووسائل العدوان عليهم في تربية أولادهم وقيادة أمتهم ومجتمعهم! أقول: بقي الشيخ المجاهد رحمه الله حيث وضع نفسه فارسًا صادعًا بكلمة الحق، لا يخشى إلا الله واليوم الآخر.. ولكن أثره في الحياة الاجتماعية، وقدرته على المقاومة والتغيير يمكن أن تكون أفضل لو أن وسائله في العمل والإصلاح العام أدخل عليها بعض التطوير والتعديل بحيث تُعنى على سبيل المثال بتدبير مسبق أو نظام ملحوظ. وإذا كان مثل هذا يقع على عاتق الأجيال التي رباها الشيخ رحمه الله، إلا أن تقاعسهم عن ذلك قلل مدى الإفادة من آفاق الشيخ الواسعة، ومواهبه المتنوعة، وصوره في بعض سنيّ حياته أقرب ما يكون إلى زعيم شعبي تاريخي في حي مجاهد عريق.. وقد علم كل من له صلة به رحمه الله أنه أكبر من ذلك بكثير!!
ولهذا فإن دوره الحقيقي، أو بعبارة أدق: الحجم الحقيقي لدوره الاجتماعي- السياسي كان يعود إلى الظهور حين يبلغ التوتر الاجتماعي أوجه، وحين تجد الأمة نفسها محمولة على مثل تلك الاستجابة العفوية السابقة أو القديمة.. حينذاك كان يعلم الحكام والمحكومون من هو الشيخ المجاهد حسن حبنكة رحمه الله. ولكن هذه المواقف كانت معدودة، وحين جدّ الجد في بعضها، وتعرضت حياة الشيخ للخطر بعد أن زُج به في السجن، ولُفِّق له من التهم ما يتناسب مع الحكم الذي أرادوه به رحمه الله.. انتهت استجابة الجمهور السابقة إلى السلبية والقعود والتهاون.
ولكن الشيخ الذي لم يتطرق اليأس إلى نفسه في يوم من الأيام كان يبقى على حسن ظنه بالناس، لأنه إنما كان ينتظر العون والجزاء من الله سبحانه وتعالى، وليس من أحد سواه، ولأنه كان يعامل الناس من موقع الأبوة والقيادة.. ومن مقام علوّ الهمة الذي لا يسمح له بالإحجام والتأخر ولو أفرد وحده في الميدان!
 
- 6 -
كان لنبوغ الشيخ المبكر، وتصديه لحمل مسئولية القيادة والزعامة الدينية الشعبية من بين الكثير من أقرانه وزملائه، أثره في صلته واحتكاكه بسائر القائمين على رأس العمل الإسلامي العام، كل في موقعه، وفي الثغرة التي أقامه الله تعالى عليها من ثغول الإسلام.. كان ذلك والشيخ المجاهد رحمه الله في سن الكهولة، أو ما بين الأربعين والخامسة والأربعين على وجه التحديد وكان في ساحة العلماء والشيوخ من هو أكبر منه سنًّا. وربما أغزر مادة في بعض فروع العلم ومسائله الكثيرة.. ولكن أحدًا منهم لم يكن مهيئًا ليقوم على الثغرة التي كان يقوم عليها الشيخ حسن رحمه الله، ولا ليؤدي الدور الكبير الذي كان مناطًا به في ذلك الحين؛ بحكم الإعداد والتكوين، وبحكم المواهب والاستعداد.. وقد جرّ ذلك على الشيخ رحمه الله شيئًا غير قليل من حسد الزملاء والأقران! كما أنه أوقع الشيخ نفسه- رحمه الله- في خطأ التعامل مع سائر القائمين على العمل الإسلامي العام من موقع الزعامة الشعبية التي تسنّمها الشيخ بحق، ولكن ما كان له أن يتعامل على أساسها مع سائر العاملين المجاهدين من أخوانه رحمهم الله جميعًا، وجزاهم عن دينه أحسن الجزاء.
أذكر بهذه المناسبة طرفًا من حديث طويل سمعته من أستاذنا الشيخ السباعي رحمه الله عن المعركة التي خاضها مع أخوانه في المجلس النيابي التأسيسي حول دين الدولة، وما انتهوا إليه حول هذه المادة من مواد الدستور بعد طول مناقشات ودراسات وزيارات واجتماعات وندوات..!! يقول الأستاذ السباعي رحمه الله- وكانت عنده شدة في الحق، وحدّة في الطبع-: وعندما اجتمعنا إلى الأستاذ الشيخ حسن حبنكة وجدنا الاجتماع أقرب إلى المحاكمة منه إلى الحوار وتقليب وجوه الرأي.. لقد كره الأستاذ السباعي رحمه الله أن يوضع موضع الريبة والاتهام في موضوع لا يمكن له أن يفرّط فيه، أو يتهاون، أو يقصر عن طلب الأفضل والأمثل. ولكن الأمر فيما يبدو أن هذا «الاختلاف» في وجهات النظر كان يصعب الخروج منه في ذلك الحين من طريق «حق» السبق والتقدم الذي أصابه الشيخ حسن في بيئته على سائر الزملاء والأقران. رحم الله الجميع سابقين ومسبوقين، ومخطئين ومصيبين، وعوض المسلمين خيرًا عن هؤلاء العلماء العاملين الأعلام.
هذا الموقف، وأمثاله، يذكرنا بالعامل الثاني السابق الذي أشرنا إليه وأثره في شخصية الأستاذ الشيخ حسن رحمه الله؛ فإن تعامله مع تلك الصورة الشعبية الاجتماعية أمر هام وحسن، ولكن تعامله على أساسها- حتى عندما تغيرت ظروف العمل والمجتمع- أمر يولد بعض العوائق أو بعض الخلاف في وجهات النظر.. ولهذا كان الشيخ المجاهد رحمه الله في صورة العمل الإسلامي العام، وعلى رأسه كذلك، بمقدار تجاوزه للصورة السابقة، أو بمقدار رؤيته للساحة الإسلامية بكل أبعادها ورجالاتها.. وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة عند الشيخ في سنواته الأخيرة، حتى غدا رحمه الله أقر بما يكون إلى سفينة النجاة في هذا الخضم الواسع.. تتعلق به القلوب والأنظار، وتلتقي عنده الآراء والأفكار.. كلما نزل بالناس- جميع الناس- ظلم، أو لحقهم ضيم أو ألمَّ بهم مكروه.. وله من جهاده وترفعه وعفة ذات يده، ومن نفسه التي وهبها الله عز وجل.. له من كل ذلك ما يشفع ليه فيما يرجونه عنده، ويأمّلونه لديه.. ولم يكن له- رحمه الله رحمة واسعة- من شرط يشترطه لنفسه، وإنما كان يشترط لدينه، ولكرامة هذا الدين أن لا تُذل أو تهان ممثلة في شخصه الكريم رحمه الله..
 
- 7 -
لا أريد أن استرسل أكثر من ذلك في الحديث عن هذا العامل وعن أثره في كثير من المواقف العامة التي كان يتخذها الشيخ رحمه الله، أو في تفسير المواقف السياسية المتوازنة التي كان يقفها في بعض القضايا والمسائل. ولكن مما لا شك فيه أنه عاش- رحمه الله- لا يخاف قناعاته بوجه من الوجوه، حتى ولو خرج عن مألوف الرأي العام، أو رأي الأوساط الإسلامية الأخرى في بعض الأحيان- وبخاصة إذا لاحظنا أثر العاملين السابقين مجتمعين في وقت واحد- مثل موقفه الاجتهادي يوم مسألة صاحب الظلال رحمه الله.. ولكن علينا أن نذكر أن ذلك كان يسمع له أن يقول كلمة الحق، وأن يواجه بها الباطل في ظروف أخرى.. فتكون الكلمة- كما يقدر الشيخ فيما أظن- مسموعة ومؤثرة أو بعبارة أخرى: كان يقف الشيخ رحمه الله في بعض الأمور الحاسمة في خط الدفاع الأخير.. وما اشتراطه لكرامة دينه التي أشرنا إليها قبل قليل إلا حفاظًا على هذا الخط ألا يسقط أو ألا يقتحم بحال!
وأذكر- بهذه المناسبة- أن الكثيرين من محبي الشيخ وعارفي فضله ومكانته ومواقفه سرّوا لبقائه طيلة حياته بعيدًا عن المناصب الرسمية، السياسية أو الدينية، وبخاصة عندما بدا أن مثل هذا الأمر قريب المنال أو وشيك الوقوع.. لأن الشيخ رحمه الله أكبر عندنا من هذه المناصب- تكبر هي به، ولا يكبر هو بها- ولأن مثل هذا الأمر لو كُتب له الوقوع لكان فيه تضييق لساحة عمل الشيخ، وانتقاص لها من أطرافها، فوق ما كان معرضًا فيها لعوامل الخصومة والصدام! فكان قدرًا مقدورًا أن يبقى حيث هو يؤدي رسالة الله وواجب الدعوة إليه، بعيدًا عن أي عامل من عوامل الضغط والتأثير. حتى أذن الله سبحانه لهذه الروح الكبيرة أن تنطلق من عقالها عشية حديث له مؤثّر على الرحلة إلى الله، وفي ليلة استعداده للسفر إلى أرض الحجاز! ومن يدري؟ فلعل موعده مع سدينا رسول الله ﷺ لم يتخلف. رحمه الله رحمة واسعة، وعوض المسلمين خيرًا.
 
- 8 -
كان «ظاهرة» بعدت بنا الآن عوامل نشأتها وظهورها، وكان «تاريخًا» حافلاً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.. ومن الصعب على المؤرخ لبلاد الشام في القرن العشرين ألا يجد للشيخ حسن حبنكة رحمه الله دورًا أو ذكرًا في جميع الحوادث البارزة التي مرت بها البلاد على الصعيد الديني والسياسي والاجتماعي.. وغير ذلك من وجوه النشاط الأساسية العامة. وأننا في الوقت الذي لا نطمع فيه في تكرار هذه الظاهرة مرة أخرى، لا يأسًا من رحمة الله فإن ذلك ليس من صفات المؤمنين، ولكن لأن عوامل نشأته وظهوره- علمًا وجهادًا وريادةً- لا نراها تعاد اليوم مرة أخرى؛ وفي الكون سنن ربانية ليس لها من تبديل ولا تحويل إلا بإرادة العزيز العليم- جلا وعلا- فإننا نطمع ألا ينقطع خط العمل والجهاد على النحو الملائم لطبيعة القائمين بواجب الدعوة والإعداد، ولطبيعة سائر الظروف والملابسات الأخرى في الزمان والمكان. أما قيادة أستاذنا الشيخ حسن رحمه الله وسائر القيادات التاريخية الأخرى.. فسوف تبقى على الدوام معالم على الطريق، ومثلاً يهتدى به في حالكات الأيام.
أما سجاياه النفسية العالمية التي توّجت تلك العوامل وتفاعلت معها، وكانت تسير به صُعدًا نحو معارج الكمال يومًا بعد يوم؛ فما أظن إلا أنها معروفة للجميع .. ولكن إذا نسى الناس شيئًا فلا ينسون في الشيخ رحمه الله أنه كان دمث الطبع: ليّن العريكة، لطيف المعشر، حاضر الطرفة والبديهة، مهيب الطلعة محببًا إلى النفس، محكم الإجابة والتعليق ومجاذبة أطراف الحديث، يُقبل على جلسائه ويؤنسهم جميعًا على اختلاف درجاتهم وثقافاتهم. وأنه كان قويًا في ذات الله.. يغضب للحق ولكنه يملك نفسه عند الغضب.. وقد يعلم الكثيرون أنه كان من أبرع من يبتسم في وجه العاصفة، ولكنه ما يزال بها حتى يهدئها ويكفكف من غلوائها ثم يبدأ بالنصح والإرشاد والتوجيه، ووضع الأمور في نصابها و في موضعها؛ يستوي عنده في ذلك- كما لمست ذلك بيدي أكثر من مرة!- عواصف الرجال «والأولاد»! وعواصف المبادئ والأفكار. أما ذكاؤه وألمعيته و«حضوره» فناهيك به!
رحم الله شيخنا الكبير الراحل، ورضي عنه وأرضاه، وحشره يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.