الشيخ أحمد مهدي الخضر


 

فقيد الفقه والأصول واللغة والقانون
الفقيه العالم الورع وزير أوقاف سوريا سابقًا 
1923 – 2013 م
رحمه الله تعالى
أعدّها للنشر : صلاح الدين محمد سلو
 
 مولده ونشأته :
     ولد في حلب عام 1923 م، ونشأ بها وتعلم.
عمل والده ( مهدي ) رحمه الله شرطيًا، وكان جده الشيخ خضر رحمه الله فقيهًا حنفيًا، له منظومة في الفقه الحنفي، ويُذكَرُ عنه أنه وزوجته من آل [ لولو ] من أولياء الله تعالى الصالحين.
 
وذكر أحمد قدامة في كتابه: "معالم وأعلام" : أن أصله من مصر.
تخرج في المدرسة الخسروية بحلب.  
 
ومن شيوخه فيها:
الشيخ المعمَّر عمر المارتيني، والشيخ المتكلم محمد فيض الله الأيوبي، والشيخ الفرَضي عبد الله المعطي، والشيخ محمد جبريني، والشيخ المقرىء الفرضي محمد نجيب خياطة، والشيخ المحدث المؤرخ محمد راغب الطباخ، وغيرهم رحمهم الله جميعا.
 
وكان من أقرانه:
الدكتور محمود ناظم النسيمي، والمحامي عبد الأعلى العلبي، والشيخ محمد ثابت الكيالي مفتي إدلب سابقًا، والأستاذ محمد حكمت المعلم الإدلبي، والشيخ طاهر خير الله، والقاضي عثمان الكردي، رحمهم الله تعالى جميعًا. ثم تخرج في كلية الحقوق بجامعة دمشق.
 
تزوج الشيخ رحمه الله تعالى مرتين، تزوج الثانية وهي بنت الحاج مصباح بن الشيخ الفقيه عبد القادر اللبني مفتي منبج سابقًا رحمه الله، وأخت الحاج عدنان اللبني رحمه الله، وذلك بعد وفاة زوجته الأولى أم نبيل رحمها الله.
 
 أعماله ومناصبه الوظيفية :
- عمل قاضيا في منطقة جبل الأكراد / عفرين.
- عيّن القاضي الشرعي الأول عام 1954م.
- عيِّن وزيرًا للأوقاف السورية عام 1963 م، لمدة ستة أشهر في حكومة محمد عمران، عندما كان أمين الحافظ رئيسًا لسوريا، وحينها مدحه الشاعر الشيخ محمد خير الدين إسبير رحمه الله بقصيدة شعرية.
- وعندما كان قاضيا ترشح للنيابة ضد الشيشكلي، الذي أصدر قرارًا بعزله، ولأجله سقطت الوزارة.
- كما عمل – حسبة - مديرًا للمدرسة الكلتاوية 1977م، وذلك بعد وفاة الشيخ المربي الفاضل محمد النبهان المتوفى         ( 1974 م ) رحمه الله تعالى.
- ثم مارس المحاماة في المحكمة الشرعية بحلب، والتدريس لمادة الفرائض في دار الأرقم الشرعية في منبج لبضع عشر سنة     (حسبة ).
- كما كان له ( دعاوى قضائية ) في محكمة منبج في يوم الأحد من كل أسبوع، وفي دولة الكويت أيضًا.
 
دروسه ودعوته :
    حُبِّبَ للشيخ رحمه الله كثرة المطالعة، تراه لا يضيع وقته في غير فائدة، حتى في أوقات الإجازة، ولقد حدّث طلابه مرة أنه لخّص كتب الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى عن الأئمة [ مالك والشافعي وزيد وابن حزم وغيرها ] لخصها كاملة في إحدى الإجازات القضائية والتي تستمر لمدة خمسة عشر يومًا فقط.
 
 كان رحمه الله تعالى عالما محققًا مدققًا غوَّاصًا في المسائل، كثير التبحر ، ملئ علمًا وفهمًا وذوقًا، وكان يوصي طلابه بترك التعصب لمذهب واحد، ويحب التيسير على الناس في الفتوى، ويقول : [ لا تسلم قلبك لكتاب إلا لكتاب الله ]. ولذلك تجده أحيانًا في دروسه ينتقد بكل أدب المصنف ويقرر ما يعتقده أنه أقرب إلى الصواب في المسألة.
 
وكان له جَلدٌ في نشر العلم، وبخاصة علم الفقه والأصول. وله تحليلات حسنة في علم العربية. وما زال مجدًّا في نشر العلم حتى أصبح يشار إليه بالبنان في حلب الشهباء، فكانت له بصمات واضحة على كل من تفقه في المذهب الحنفي، وكانت ملكته الفقهية والأصولية تميزه عن غيره، وفكره المنظم التحليلي يجعلك تنصت لرؤاه وتحليله ومنطقه.
 
له نشاط الشباب، وهمة الرجال الأشداء، في النهل من العلم، وحبّ التعليم مع بلوغه عمرًا كبيرًا، فكان منهمكا في بثّ العلم، في بيته وبيت ابنه المهندس نبيل وفي جامع النور وجامع الغفران وجامع العادلية، ويحضر مجلسه صفوةٌ من العلماء والنبهاء والفطناء، وقد فازوا منه بأوفر نصيب، و منهم ابنه المهندس نبيل، والشيخ محمد الشهابي أمين الفتوى بحلب حفظه الله، والشيخ محمد مجاهد شعبان رحمه الله، والشيخ يوسف هنداوي، والدكتور بكري شيخ أمين الأستاذ بكلية الآداب بجامعة حلب حفظه الله، والشيخ ياسر محمد حجازي، والأساتذة : صلاح الدين سلو، ومحمود حداد وطه فارس، وجابر كعدان ومحمود القاضي ومحمد هرشو وفخري السيد ومنذر سرميني وياسر نجار وغيرهم...
 
ومن المصنفات التي قام على تدريسها : 
حاشية ابن عابدين رحمه الله والذي أخذه عن شيوخه بالسند المتصل إلى مؤلفه، وقد قال لطلابه يوم أن انتهى من قراءة هذا الكتاب النفيس : اكتبوا هذه العبارة [ من ظن أنه علم فقد جهل ].
 
وبهجة النفوس شرح مختصر البخاري لابن أبي جمرة الأندلسي رحمه الله، وحياة الصحابة للشيخ محمد يوسف الكاندهلوي كاملًا، والمنار في أصول الفقه الحنفي للنسفي، والأشباه والنظائر للسيوطي، وشرح نسمات الأسحار لابن عابدين، والموافقات للشاطبي، والاختيار للموصلي... 
 
وهكذا استمر الشيخ سنين طويلةً يفيد الطالبين وينشر العلم في أوساط المثقفين دون كلل ولا انقطاع حسبة لوجه الله، يمزج العلم بالتربية، كله نور ولطف وأدب، وكان من علماء حلب الذين وقّعوا على فتاوى وبيانات تدعو نظام الحكم في سوريا إلى وقف إراقة الدم وتفتي بوجوب إغاثة المتضررين والمنكوبين والمهجرين.
 
مؤلفـــــــــاته :
- هو أول من وضع فهرسًا موضوعيًا لحاشية ابن عابدين، وقد طبع في المطبعة السورية بحلب 1383 هـ ـ 1963 م فأفاد منه كل من عمل بعده، قارنه بالقوانين المحلية فاحتفى به أهل العلم وأنزلوه منزلة سامية ولا سيما أنه كان أول فهرس علمي شامل لكتاب فقهي كبير معتمد، وقد قدّم له كل من الشيخ الطبيب محمد أبو اليسر عابدين مفتي سوريا سابقا، والدكتور محمد معروف الدواليبي، والعلامة الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا رحمهم الله تعالى جميعًا.
- نزل الكويت أربعين يومًا فقط فأرسى فيها دعائم موسوعتها الفقهية الشهيرة وكان من مؤسسيها البارزين، وحصر اتجاه الموسوعة في المذاهب الأربعة، وكان يقول: الموسوعات السابقة لم تلتزم بالمذاهب الأربعة، فلم يكتب لها النجاح.
- كما اختصر حاشية ابن عابدين في ثلاثة مجلدات، لم يطبع.
- واختصر كتاب" إعلاء السنن " للتهانوي الذي كان شديد الإعجاب به في أربعة مجلدات، لم يطبع.
- وضع فهرس المصنفين والمصنفات لحاشية ابن عابدين، لم يطبع، كتب بخط الأستاذ محمد أمين خياطة.
- ( المختار من إعلاء السنن ورد المحتار جمع للأحكام والآثار ) في أربعة مجلدات كبار، لم يطبع.
 وكان يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاستبدلت الحاشية بـ "فتح القدير"، أو "إعلاء السنن"، وذلك من أجل الفقه بالدليل، حتى لا يظن الناس أنه مجرد رأي.
 
 سيرته وخصاله :
    كان يحفظ القرآن الكريم غيبا عن ظهر قلب، ويراجعه باستمرار، فكان إذا سافر إلى دمشق الشام، يراجع القرآن كاملًا، في طريق ذهابه وعودته، أما إذا خرج إلى مدينة منبج لتدريس طلاب الثانوية الشرعية – دار الأرقم - فكان يراجع نصف القرآن، ذهابًا وعودةً.
 
وكان حسن الحفظ سريع الفهم، وكان الفقيه الشيخ محمد الملاح الحلبي رحمه الله معجبًا به، وحدّث مرة بأنه يستظهر عن ظهر قلب ( متن تنوير الأبصار ) لشيخ الحنفية التِمرْتاشي ( المتوفى سنة 1004 هـ ).
 
كان متمكنًا في علوم النحو والصرف والتراجم، وأشار على ابن خالته الدكتور بكري شيخ أمين أن يحقق كتاب بهجة النفوس، وكان كثيرًا ما يستدرك عليه ويصحح له بعض الأمور.
 
      عرف عنه أنه لا يحابي أحدًا، وقد سئل مرة عن التعامل مع المسؤولين وأصحاب المناصب الحكومية، فقال : هؤلاء تعامل معهم كما تتعامل مع النار، لا تبتعد عنهم كثيرًا وتظهر لهم الجفوة، ولا تقترب منهم بشدة فتحترق.
 
     كان يدافع عن الحق والمظلومين، ويدفع من حسابه نفقات المحكمة عن الفقراء، ويقوم بالتحكيم بين التجار المتخاصمين متطوعًا محتسبًا. ومن ورعه أنه لم يكن يتوكل في مرافعة إلا إذا تيقّن أن الحق مع موكله. وكان كثيرًا ما ينصح من جاءه لرفع دعوى وخصومة ينصحه أولًا بالالتجاء إلى الله ثم بالصلح والابتعاد عن المحاكم والتي قد تطول فيها أحيانًا الدعاوى سنين طويلة.
 
لم يتدرب عنده من المحامين، إلا من كان مصليًا ويخاف الله تعالى، وعندما تقاعد من المحاماة، أقاموا له حفلًا توديعا، حضره نيابة عنه الدكتور بكري شيخ أمين، وكان قد أعدّ كلمة عنه، لم يسمح له رحمه الله بإلقائها.
 
ولما تولى إدارة مدرسة دار نهضة العلوم الشرعية – الكلتاوية - إثر استقالة الشيخ محمد منير حداد - رحمهما الله - من إدارتها لم يتلقى قرشًا واحدًا من راتب الإدارة المقرر للمدير، بل تورع عن تناول شيء من طعام الطلاب في القسم الداخلي أو حتى شرب الشاي فيها.
 
    ولما ولي وزارة الأوقاف ستة أشهر أحياها بعد موات وقدم لها خدمات جليلة تذكر فتشكر، وكانت له أياد بيض على جمع من العلماء قدمها دون منة ولا طمع في منفعة، وصار مضرب المثل في النزاهة والأمانة، ومن خبره أنه أقام مؤتمرًا دعا إليه وزراء الأوقاف في البلاد العربية ورصد له مبلغًا ماليًا تبين له بعد انعقاده زيادة بعضه عن الحاجة فسعى في رده إلى خزانة الدولة وسط استغراب المسؤولين وردّهم له متذرعين بعدم سماح الإجراءات. 
   عرف رحمه الله تعالى بشخصيته القوية المؤثرة، ذا عزم وحزم، صادق اللهجة واسع الرؤية دقيق العبارة، له دراية كبيرة في مجتمعه، لا يُخدَع، إذا جاءه خبر لا يحكمُ بموجبه حتى يتحقق، فإذا تحقّق أعطى حكمه المتزن العادل، بلا خوف ولا وَجَل، لا يحابي ولا يُماري، ولا يتبع المطامع، وقد وهب حياته لخدمة الناس، وكان يحب الكمال ومعالي الأمور وتأبى نفسه الدنايا، مهابا، متفانيا في عمله، دقيقا في مواعيده، لا يتأخر عن دروسه أبدا.
 
   كان رحمه الله، عالما فقيهًا، مربيًا فاضلًا، مخلصًا متواضعًا، حسن الظن بالآخرين، كريمًا جوادًا، يخدم أضيافه بنفسه مع وجود أبنائه، لا يكاد يجلس من متابعتهم، عابدًا زاهدًا، يصوم يومي الإثنين والخميس، مواظبًا على السنن النبوية، والنوافل الشرعية، والتلاوة القرآنية، حسن السمت، رقيق القلب، كامل العقل، محبًّا للأولياء والصالحين، يتأسّى بهم، ويحفظ لأهل الفضل حقهم ومقدارهم، لا يملك عبرته إذا ذكر أشياخه الصالحين ومواقفهم الإيمانية وخصوصًا شيخه محمد النبهان رحمه الله، وذكر عنه أنه كان يصلي الجمعة في جامع [ آمنة بنت وهب ] في حي سيف الدولة وذلك في ناحية القبو أمام محراب حجري قديم، فلما سئل عن سبب ذلك، قال : كان رجل من الصالحين يصلي ههنا، فإذا قضيت الصلاة وأراد الخروج من المسجد لابد أن يتصدق على كل من في طريقه من السؤّال. وهذا ديدنه كل جمعة.
   كان فقيدُنا وفيًّا، صادقًا، سهل المعشر، دمث الخلق، ذا دين متين، وتقوى ويقين، وكانت ترِد عليه المسائل الفقهية والقانونية، فيجيب عنها بأحسن جواب، وأتقن خطاب، وبألطف عبارة، فهو من محاسن بلدته حلب الشهباء.
 
وفاته :
توفي رحمه الله تعالى في بيته في حلب ظهر يوم الخميس 18 ربيع الآخر 1434 هـ / الموافق 28 شباط 2013 م... عن عمر يناهز التسعين عامًا، وصلّي عليه اليوم الخميس بعد صلاة العصر في جامع الغفران بحلب الجديدة، ودفن في الجامع نفسه، حيث لم يتمكنوا من دفنه في مقبرة الأعرابي بجانب ثكنة هنانو بسبب الأوضاع المتأزمة في حلب، وحضر جنازته الشيخ عدنان محمد الغشيم، والدكتور بكري شيخ أمين وغيرهما حفظهما الله تعالى، ولم يتكلموا عنه شيئًا بسبب كرهه للمديح والإطراء.
 
رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عما قدم لدينه وأمته خيرًا، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.