إني لأشم رائحة الجنة...
هذه كلمته قبل استشهاده بأيام قليلة..وهي كلمة الصحابي الشهيد عمرو بن الجموح الذي كان يعرج في مشيته فلما نودي للجهاد لبى النداء وعزم على الخروج،فقال له أولاده نحن نخرج مكانك فنكفيك فأبى وشكاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم دعوه لعله يطأ بعرجته الجنة..وقد كان ما رجاه..
أما مفيد فهو شاب نشأ منذ نعومة أظفاره في طاعة الله تعالى ومحبة رسوله..فكان كثير الذكر لله سبحانه وتعالى شديد التعلق بالمصطفى صلى الله عليه وسلم،يذوب شوقاً عندما يذكر اسمه الشريف..وكم كان يود أن يكرم بزيارته ليقف بين يديه صلى الله عليه وسلم ويناجيه ويخاطبه بعينيه ولسانه وقلبه ودموعه لكن الله تعالى أراد له لقاء بلا حجاب مع الحبيب الذي طالما اشتاق إليه..
كان داعية إلى الله تعالى بحاله وقاله،تقياً نقياً سليم القلب من الحقد والغل محبوباً بين الناس..كل من رآه أحبه..
درس في بلده جرابلس وتابع دراسته في الجامعة اللبنانية في قسم اللغة العربية ثم انتقل إلى القسم نفسه في جامعة حلب..ولما بدأت المظاهرات كان من أول المشاركين فيها،وحين بدأ النظام الإجرامي بالقتل المريع كان من أول من حمل السلاح أيضاً..
وانتسب لكتيبة من الكتائب المقاتلة لكنه سرعان ما تركها إلى أن حظي بكتيبة من المقاتلين راقت له في قتالها وإخلاصها..
مقدمات الشهادة:
وهي التي تسمى الإرهاصات،وقد بدأت هذه المقدمات قبل انطلاقه في آخر مرة لجبهات القتال في حلب..أراد أن يودع بلده جرابلس..أرضها..شوارعها..جدرانها..هواءها..مسجدها الذي عرف سجداته صغيراً وشاباً..أخذ يطوف في أرجاء بلده بصحبة صديقه في الجهاد حسام؛فبدأ بالمسجد وقد دخله في غير وقت الصلاة فصلى ركعتين بخشوع وخضوع وما رفع رأسه من السجود إلا بعد أن عانقت دموعه المدرارة الأرض..وقال لحسام:والله إني لأشعر أن المسجد يودعني..إني لأرى الحزن يهيمن عليه.. والله إني لأشم رائحة الجنة..وما زال يكررها..ويطرب لترديدها..
ثم خرج من المسجد وجعل ينظر هنا وهناك كأنه يخاطب ما حوله قائلاً:
تمتع من شميم عرار نجد...فما بعد العشية من عرار
وطلب إليه أحبابه الانتظار قليلاً ليخرجوا جميعاً إلى ساحات القتال في حلب فأبى عليهم التريث وعزم على الخروج وكأن داعياً في داخله يحثه ويسوقه إلى أمنيته:
ومن كُتبت منيتُه بأرضٍ....فليس يموت في أرضٍ سواها
وقال إخوانه:يا مفيد لا تفجع أهلك فيك فقد طال انتظارهم لرؤيتك..فقال: الله أهم من أهلي ومن الدنيا كلها..لقد اشتقت إلى الجنة..بل لا أريد إلا رضا الله تعالى..
وقد أوصى صديقه حساماً قائلاً: سأنال الشهادة..فأعط بندقيتي لأبي وجوالي لأخي..وأخذ يفرق ما يملك من متاع الدنيا القليل على أهله وإخوانه..وحاله هذه تشبه حال معروف الكرخي الذي أوصى بثوبه الذي يموت فيه ليخرج من الدنيا فقيراً إلى الله لا يملك شيئاً كما دخل إليها..
دخلوا فقراء إلى الدنيا..وكما دخلوا منها خرجوا
وانطلق الشهيد نحو مدينة حلب وكانت أغنيته التي يرددها: أن تدخلني رب الجنة..هذا أول ما أتمنى...!! نعم الجنة أول أمنياته لكن رضا الله تعالى ونيل محبته فوق ذلك وأعلى من ذلك(ورضوان من الله أكبر).
وانتهى إلى حلب وتهيأ هو وكتيبته(أحرار جرابلس) ومجموعات أخرى لاقتحام المنطقة الحرة ورابطوا حولها وحاصروها أياماً..وفي أثناء الحصار وعلى ثغر يرابط فيه وقع اشتباك بين المرابطين وبين أظافير الأسد وكلابه فأصيب أحد رفاقه برصاصة غير قاتلة فخشي عليه أن تصيبه أخرى فانطلق نحوه وهو يعلم أنه في مرمى القناص لكنه آثر أن ينجد أخاه..ولو بذل روحه في سبيل ذلك..فأمسك به وقربه وإذا برصاصة القناص الغادرة تصيبه في مقتل لقد أصابته في رأسه فسقط شهيداً..لكن أخاه الجريح الذي ضحى من أجله نجا..وكما يكون الإيثار بالمال والدنيا يكون بما هو أعظم من ذلك بالحياة..قتل ليحيا بقتله غيره..إنها الجنة التي تمناها وغنى لها..
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده...إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
واشتد القتال بين الفريقين ولم يستطع المجاهدون أن يحملوا الجسد الطاهر من موضعه إلى قبيل العصر،ونقل إلى جرابلس واستقبلته بلده كلها فبكت عليه كلها صغارها وكبارها ونساؤها ورجالها لما عرف عنه من دين واستقامة ودعوة إلى الله تعالى..وصار كل واحد منهم يسكن من حزن الآخر..حتى شجرها ومدرها بكى..
يقول صديقه الوفي محمد شيخ حسين هويش:دخلت مع أصحابي على الغرفة التي سُجّي فيها فنظرت في وجهه فإذا هو يتلالأ نوراً وضياء ورائحته أطيب من رائحة المسك ثم خاطبته في سري فقلت: أي مفيد لماذا ذهبت ولم تودعني..والله لو كنت مكانك لقمت لاستقبالك ولو كنت ميتاً..!!
يقول محمد شيخ حسين:فشعرت أنه تنهد لما خاطبته هذا الخطاب..لكن قلت في نفسي أنت متوهم..فربما لفرط حزنك ولامتلاء عينيك بالدموع بدا لك ذلك..فلما خرجنا من عنده،قال عدنان ستوت من أصدقائه وهو من المجاهدين:هل رأيتم ما رأيت..لقد شعرت أن مفيداً قد تحرك أو تنهد..!!
وكأن الشهيد لما تنهد تحسر معتذراً لإخوانه المحبين قائلاً:سامحوني لو استطعت القيام لأقبلكم لفعلت ولكن....!!
وهذه الكرامة للشهيد أرويها عن شباب ثقات مجاهدين أعرفهم كما أعرف الشهيد مفيد..وقول القائل:حدثني الثقة لا إشكال عند كثير من المحدثين ومنهم الإمام مالك في الموطأ..وقد ذكرت أسماءهم..
أي مفيد..لقد نلت مرادك وأطفأت ظمأك بلقاء الله ولقاء رسول الله لن تنساك الأماكن التي زرفت عليها دموع الشوق والحب والخشوع..
لن تنسى سجداتك عليها..ستبكي حزناً لرحيلك..وستبكي فرحاً لوصولك..
وأما نحن_أحبابك_فلهيب فراق الأحبة لا يكاد ينطفئ ويسكن حتى يشتعل من جديد برحيل حبيب..
لا تنهياني عن البكاء فإنه....يطفي لهيب الجرح في الأعماق
وأنى ينقطع..مادام الحب والأحبة..!!
ذات صلة
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول