الشهيد المهاجر جهاد الوحش

                        عاشق الشهادة والجهاد

 

 بقلم:الدكتور أحمد الفاضل
 
   إنه سليل أسرة الشهداء والمجاهدين من فلسطين, فأبوه الشهيد المجاهد علي الوحش الذي أذاق اليهود الصهاينة كؤوس المنايا في مواطن كثيرة وأرّقهم, وأقضَّ مضاجعهم حتى تمكَّنوا منه غدراً فأكرمه الله تعالى بالشهادة في سبيله, وقد سُمِّيَ شارع في منطقة السيدة زينب باسمه تخليداً لذكراه وتكريماً له ..
    هذا الشارع وأهله من المجاهدين, ملأ قلوب عصابات الأسد وشبيحته حقداً وغلاً؛ لأنه انتفض عليهم وأبى الذل والاستكانة لهم فكان من أول الشوارع التي صرخت فيها الحناجر بسقوط الجزار وعصابته المجرمة وقد دُمّر هذا الشارع تدميراً شبه كامل وهُجّر أهله وقُتل من قتل منهم, وبذلك اشتركت هذه العصابة الممانعة الصامدة مع اليهود في التدمير والتخريب والتهجير للأخوة الفلسطينيين وإن كان اليهود أرحم وأعف منهم يداً ..
 
   أما جهاد المهاجر الشهيد فإن له لأمراً عجباً, وإن له من اسمه لحظاً عظيماً..كان يتمتع بخصال وسجايا قلما تجتمع في إنسان..فمن ذلك:
 
   _حبه للجهاد في سبيل الله تعالى,كان لا يفتر لسانه عن ذكره وخاصة في ملتقى الأحباب والأصحاب..فكأن اسمه(جهاد) صار لساناً ناطقاً يدعو للجهاد والشهادة..وما أكثر ما تمنى أن يخترق الحدود والسدود وكم حاول أن يصل إلى ثرى فلسطين ليموت شهيداً على ذراها, لكن نظام الممانعة والصمود حال بينه وبين هذه الأمنية.. وأظن أن حسرة حملها في قلبه- وهو راض عند ربه بما منَّ عليه من اصطفائه شهيداً - أن لم يقتل شهيداً على أرض فلسطين، وأن يكون قتله على أيدي الصهاينة الذين أخرجوا أهله من فلسطين لكن الله عز وجل شاء أن يكون قتله وشهادته على أيدي من هم أخسّ وأخبث وأنجس وأوسخ وأحط وأسفل وأحقر وأجرم وأظلم وأكفر وألحد وأطغى وأبغى وأشقى وأخزى من اليهود؛ ليكون أجره أعظم عند الله تعالى؛ لأن القتل كلما كانت على يد الأكفر والأفجر ,كان الثواب والجزاء من الله أجزل وأكبر.. وإن كانت كلها شهادة في سبيله تعالى..
 
   _كان حريصاً على الرياضة وتقوية البدن,لا ليقال إنه من الأبطال بل كانت الرياضة عنده لمغزى عظيم هو الجهاد فكان يركض كل يوم بعد صلاة الفجر قاطعاً نحواً من عشرة كيلو متر وما أكثر ما التقيناه وهو ينتهب الأرض مُجِدّاً في ركضه, وهو فرح أشد الفرح وقد انبلج من وجهه نور الإيمان فنافس نور الصباح.. وبعد أن يفرغ من رياضته ينعطف نحو البساتين التي تحيط بطريقه وقد بزغت الشمس وارتفعت فيقف بين يدي الله تعالى خاشعاً ليركع ويسجد طويلاً غائباً عن الدنيا وما فيها ملصقاً جبهته على الأرض ممرغاً أنفه ذلاً وحباً وعبودية لله سبحانه,ويطيل في سجوده حتى لتكاد تقول: إن النوم قد أخذه أو إن الموت قد زاره..ولا يترك القبلة والأرض والتراب حتى يأتي على ثماني ركعات كاملات خاشعات..
 
   _كان مستور الحال ليس عنده إلا قوت يومه وليلته ، عفيف النفس واليد واللسان, فإذا ضاق الأمر عليه
وعلى أسرته توجَّه للصيد فحصّل قوته منه,ولم يسأل أحداً من الخلق قط.. وربما يبيت هو وأهله على كسرات من الخبز إدامها الغمس بالشاي.. وهذه سمة الصالحين الزاهدين.. وكأنه اتخذ من الذكر والصلاة والهيام بالجهاد سلواناً له:
 
        تسلى الناس بالدنيا وإنا...لعمر الله بعدك ما سلينا
 
   وقد رأيته مرة في معهد لتحفيظ القرآن الكريم يكنس الأرض ويمسحها ويصنع الشاي للمدرسين وهو في غاية السعادة أن أكرمه الله تعالى بخدمة من يقرأ القرآن ومن يُقرئه..علماً بأنه كان يحفظ أكثر من نصف القرآن مع إتقان القراءة والتلاوة..

 

-       ومن أعجب أحواله أنه إذا رأى أحداً من أحبابه أو ودّعه قال له:أريد منك شيئاً واحداً ليس غير أن تدعو الله لي في ظلمات الليل والأسحار بأن يمنَّ عليَّ بالشهادة في سبيله ..!!

 

   _كان شديد التعظيم لشعائر الله ,يغار عليها غيرته على أهله وعرضه, لا تأخذه في الله لومة لائم, وذات يوم كان في حافلة عامة وكان من ركابها رجل رافضي خبيث من الأمن، فنازع السائق لأمر فكفر وسبَّ سيدنا أبا بكر فما كان من جهاد إلا أن وكزه وكزة واحدة صيّرت وجهه في قفاه.. واجتمعت عليه جماعة منهم وتداعَوا عليه فأوسعهم ضرباً حتى تكالبوا عليه وتمكنوا من تقييده وسجن على أثر ذلك أياماً,وفي أثناء التحقيق والمحاكمة كان في غاية الجرأة، فقال للقاضي:ضربته لأنه كفر وشتم سيدنا أبا بكر ولو استطعت لفعلت فيه أكثر مما أصابه, ولو سمعته مرة ثانية لأحطمنّ رأسه ولأجعلنَّه عبرة لأمثاله..!!
   و والله ما صادفته مرة إلا واستقبلني وودّعني قائلاً:لي طلب واحد هو أمانة في عنقك أن تدعو الله عز وجل بأن يهبني الشهادة في سبيله ..!!
 
   وقد صدق الله تعالى فصدقه الله ..
 
      لقب الشهادة مطمح لم تدخر.....وسعاً لتحمله فكنت وكانا
 
   إيه يا جهاد...يا دمعة في عيني تنهمر على وجهي..يا حسرة في صدري تقطع لها قلبي ..يا نغمة حزينة شجية أسمعها في سكوني.. لست حزيناً أن مضيت إلى ربك سبحانه وإلى حبيبك محمد.. إنها مبتغاك.. إنها أمنيتك التي بكيت من أجلها واشتكيت ودعوت.. لقد حظيت بها.. فهنيئاً لك.. لقد أدمى قلبي وأدمع عيني أني لم أرك منذ زمان بعيد..فقد أبعد بيننا المجرمون الحاقدون..ولم أحظ بشرف النظر إلى وجهك الوضاء حين تضرجت بدمائك الطاهرة..
 
         ليته خصّني برؤية وجهه....زال عن كل مَنْ رآه العناء
 
كنت أود أن أكرم عينيّ برؤيتك..كنت أحب أن تمتزج دموعي بدمك لعلي أنال بذلك مكانة تقرّبني من ربي.. لعل دموعي تهبط معك إلى مثواك لتنبت منها ومن دمائك رياحين ونرجس وياسمين وأقحوان وخزامى وشقائق النعمان.. ثم تتعانق فوق قبرك الطاهر فتكون ناطقة بالحب والأخوة التي بيننا..
   وحياة أهل العشق عشق في الثرى....تتعانق الأشجار فوق ترابه
   فاترك لأهل العشق آهات الجوى....يكفيهم في الحب نار عذابه
   لكن سأعود قريباً لأقف أمامك لتهنئنا بالنصر والظفر على المجوس وأتباعهم قبل أن نهنئك..فأنت أسبق منا بمعرفة هلاكهم وأكثر فرحاً ..ويومئذ يكون عيدنا الذي هو أجمل الأعياد..
       إنّ عيدي يوم آتي حيهم.......وأمرِّغ في ثراهم مقلتيّ
   جهاد.. قد يُنسى كثير من الأموات لكنك لن تُنسى أبداً..فالمهاجر العاشق الشهيد ذكرى في السماء وذكرى في الأرض.. يتلذذ أهل السماء وأهل الأرض بذكر اسمه وتريده والتعلل به..

 

             أسامٍ لم تزده معرفةً....وإنما لذةً ذكرناها