الشهيد العقيد فيصل سيرجية تقبله الله

بسم الله الرحمن الرحيم


بقلم: ضياء الدين البرهاني


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
يقال: إن الصقر لا يموت إلا وهو محلق، وهذا هو حقيقة في صقور الإسلام، ومن هذه الصقور صقر حلّق في سماء الإخوان، وغزا بجناحيه الذهبيين فضاء الجهاد، فقد أبى أن لا يموت هذا الصقر إلا وهو محلق، فكان له ما أراد فاستشهد في صحراء تدمر ليكون في جوف طير خضر ترفرف به في الجنان، ولتأوي إلى قنديل من ذهب تحت عرش الرحمن، إنه المجاهد الصقر الجارح نحسبه والله حسيبه العقيد الشهيد فيصل سيرجية رحمه الله.


الولادة والنشأة والدراسة:
مما توفر لدي من معلومات: أنه ولد في عام 1933 لأسرة حلبية مرموقة ميسورة الحال، وكشأن الأسر الغنية في ذلك الحين فقد أتم دراسته الثانوية في ثانويات حلب.
انتماؤه لجماعة الإخوان:
انتسب العقيد فيصل سيرجية في وقت مبكر من حياته لجماعة الإخوان المسلمين في الوقت العلني  للجماعة في الخمسينيات من القرن الماضي, وكان في ذلك الوقت أساطين الجماعة، وعلى رأسهم الأستاذ الأديب وشاعر الإنسانية المؤمنة عمر بهاء الدين الأميري -رحمه الله- وهو من أسس الجماعة بعد عودته من مصر، وقد قام الأستاذ عمر بتوحيد الجمعيات الإسلامية في سورية في حلب وحماه ودمشق، وكان في ذلك العصر أيضاً: الشيخ عبد الفتاح أبو غدة- رحمه الله-، والخطباء الجماهيريين كالشيخ أبي الخير زين العابدين، والشيخ جميل عقاد، والشيخ الدكتور معروف الدواليبي رحمهم الله جميعاً.


التحاقه بالجيش العربي السوري
تطوع العقيد فيصل سيرجية بالجيش العربي السورية برتبة ملازم، وتدرج بالرتب العسكرية من حين تطوعه إلى أيام الوحدة بين سورية ومصر مروراً باستلام حزب البعث، ومما تؤكده الرواية: أنه كان ضابطاً فذاً لا يجامل في الأمور العسكرية، ولا يأخذها إلا على محمل الجد والاهتمام مما صنع له تاريخاً مشرفاً بسيرته العسكرية، وقد حظي باهتمام قادته العسكريين, وسُلم مناصب قيادية هامة، فكان أحد القادة البارزين ممن يعتمد عليهم في القيادة العسكرية في القوات المسلحة.


التطهير العرقي لأهل السنة والجماعة في سورية:
لقد اتبع النصيريون العلويون بقيادة الهالك حافظ الأسد منهجية تاريخية لاستئصال شأفة السنة من الشام، وقد بدأها من عمدة وعماد وأس وأساس الدولة ألا وهي مؤسسة الجيش، ولقد تستر هذا الخبيث بقناع القومية، ولبس عباءة العلمانية، وقد غرر وخدع من كان في قلبه مرض قومي من أهل السنة، فبدأ هذا الخبيث بإبعاد الشرفاء من أهل السنة عن المناصب القيادية والحساسة في الدولة، وبالأخص المتدينين، ومن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وكان ممن أبعدوا عن المناصب القيادية: العقيد فيصل سيرجية بسبب التزامه وتدينه, فتم تجميده، وأسندت إليه إدارة المطابخ في الجيش السوري!.


اعتقاله:
بعد أن باشرت الطليعة المقاتلة للإخوان أعمالها الجهادية رداً على غطرسة النظام وإجرامه الذي استفحل في البلاد، اشتدت وطأته على الإخوان المسلمين، ولم يقتصر الأمر عليهم فقط، بل وصل أذاهم إلى كل من يمت لهم بصلة، واتبعوا معهم الأسلوب الفرعوني من ذبح للأطفال وفعلوا ما لم تفعله الفراعنة مما لم يشهد له التاريخ مثيلاً، وقد أودع الكثير من شباب الإخوان في السجون، واعتقلوا الخلية التي كان ينتمي إليها العقيد فيصل، فاعترف أحد أفراد خليته عليه، فقبض عليه في دمشق، وتم تحويله إلى فرع أمن الدولة في حلب حيث كان يتم هناك التحقيق مع خليته، وقد ذاق في فرع أمن الدولة صنوف وألوان التعذيب.


وبعد انتهاء التحقيق  تم تحويله إلى سجن حلب المركزي، وأودع في جناح السياسيين، وكان يعرف بجناح الإخوان في المهجع الثالث 1-1-3 والتقى بإخوة آخرين تربطه بهم علاقة تنظيمية من أمثال أطباء مشفى حلب (هنانو سابقا) منهم الدكتور الجراح مصطفى عبود, وطبيب الأطفال محمود خلوصي وطبيب الأشعة الدكتور عبد القادر الناشد، ورئيس المشفى الدكتور الجراح حسان نجار، وكل هؤلاء الأطباء درسوا الطب وتخصصوا فيه من جامعات ألمانيا الغربية، وقد عومل العقيد فيصل في السجن معاملة خاصة كونه مريضاً، وبالمقابل كان هو يتمتع بشخصية عسكرية مع دماثة خلق مع إخوانه، ومن الطريف ذكره أنه كان يحمل في نفسه شخصية الضابط العسكري، وما يتمثل بها من عنفوان ونزق فقد كان حازماً في خطابه مع عناصر السجن المفرزين من فرع أمن الدولة للإشراف على الجناح السياسي، وكان يخاطبهم كأنهم مرؤوسين لديه وهو قائدهم العسكري المباشر، فيصرخ على الرقيب أول أبي محمود ويرفع صوته عليه: (ولك أبو محمود تعا لهون) بهذه النبرة، وينادي العنصر الآخر الرقيب أول يقال له أبو شادي من سلقين ويقول عن نفسه بأنه نصيري: (وينك ولا أبو شادي تعا لهون ولا) وبالرغم من وحشية هؤلاء مع المعتقلين السياسيين كانا يأتيانه ويخاطبانه مخاطبة قائدهم المباشر: نعم سيدي.


اهتمامه بالعلم في السجن:
حُرم العقيد فيصل مجالس العلم وحلقات الذكر بسبب انشغاله في الأمور العسكرية، وعندما أودع في السجن انشغل بالأمور العلمية فلم يصادف مجلس علم أو ذكر أو مجلسا تتلى فيه آيات الله إلا وجدته سباقاً إليه مشتاقاً للتزود من هذا المعين الذي لا ينضب، وبعد مجالس العلم يقبل على كتاب ربه تلاوة وتدبراً، وكان يكثر من العبادة والنوافل.


اهتمامه بنفسه في السجن:
كان يعتني بنفسه كثيرا ويلبس البرنس بعد خروجه من الحمام كأنه في بيته، ويحرص على الإتيكيت، ولا يأكل كيفما اتفق بل يتقيد بمواعيد الطعام ويواظب على الدواء ويهتم بصحته البدنية.


تحويله إلى سجن تدمر:
بعد ان أُفرج عن عدد كبير من سجناء الإخوان منهم من كانت تربطه بهم علاقة تنظيمية، وبالأخص الأطباء باستثناء الطبيب مصطفى عبود الذي قتل تحت التعذيب، وأُبقي على مجموعة كبيرة منهم: العقيد فيصل سيرجية، وتم تحويلهم إلى سجن تدمر، وضاعت أخبار العقيد في رحى السجن الرهيب التي طحنت آلاف الرجال من تنظيم الإخوان المسلمين، إما تحت حكم الإعدام بالمحاكم الميدانية، وإما قضى نحبه تحت التعذيب، نحسبه عند الله شهيدا ونسأل الباري عز وجل أن يتغمده بواسع الرحمة، وأن يحشره برفقة الشهداء والصالحين من عباده المخلصين.


وبهذا نكون قد أضأنا زاوية من حياة رجل يستحق أن يستمر ذكره إلى الأجيال القادمة والله الموفق.

وقد كتب صديقه الأستاذ المهندس المجاهد  الوطني الغيورغسان ياسين النجار هذه الكلمات عن الشهيد فاستحسنا إلحاقها بالترجمة :
 صفحة مضيئة من الشهيد العقيد فيصل سيرجية 
التقيت مع الأخ فيصل سيرجية في عام ١٩٥٤ من خلال نشاط جماعة الإخوان المسلمين بين جموع الطلاب ، وكان هو يدرس في الثانوية الصناعية، وكنت أنا في ثانوية المأمون، وكانتا متجاورتين في حيّ الجميلية في مدينة حلب وعليه كانت المظاهرات الطلابية تنطلق من كلتا الثانويتين مجتمعتين  ، 
كان شعلة من النشاط المتقد آثناء خروجنا في المظاهرات التي تشتعل بين الفينة والأخرى على خلفية العمل الوطني والتنديد الحكومي، وكنّا نسيطر على مجالس اتحاد الطلبة ، وكان للإسلاميين عموما والإخوان خصوصا الغلبة في شتى المحافل الطلابية والثقافية وغيرها . 
كانت طموحاتنا أكبر من ذلك بكثير ، لم نكن لنقنع أن نجتمع في جلستنا الأسرية الأسبوعية على تلاوة وحديث ودعوة فقط . 
 
التقت أفكارنا أنا والأخ فيصل ومجموعة من الشباب المندفعين  ونحن في الصف الحادي عشر ثانوي أن نرتقي الى أسرة خاصة ، ترتقي الى : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير )، وبارك ووافق مسؤول قسم الطلاب ، وهكذا بدأت نشاطاتنا في هذا المجال ، وتحولنا الى خلية دعوية تتحرك بين القرى والأرياف سيراً على الأقدام نحمل جعبتنا وخيامناعلى ظهورنا ونحطّ رحالنا في أماكن نشاطنا في القرى والأرياف قاصدين أولاً مسجد البلدة ، ونتدرب على سلاح خفيف آملين أن يكتب لنا ربّنا الجهاد في فلسطين  ، 
وصلنا جسرالشغور سيراً على الأقدام واستقبلنا الشهيد إبراهيم عاصي الذي قضى شهيدا في مجزرة تدمر ، وأكرمونا بضيافتهم في مركز الاخوان ، وفي نفرة أخرى توجهنا الى مدينة الباب سيرا على الأقدام أيضاً واستضافنا مركز مدينة الباب وكان لنا كلمات في اجتماع أسبوعي . 
يعدُّ الشهيد فيصل من القلائل الذي يتّقد شعلة وحماسة ، انتسب الى الكلية العسكرية في منتهى السرية، لأنها كانت محرمة على من يتنفس بكلمة الاسلام ، وزرته عام ١٩٦٥ وهو ضابط في الجبهة في بلوكوس تحت الأرض في منطقة خارج القنيطرة على طريق جسر بنات يعقوب  وكنت حينها أخدم العسكرية وآقوم بجولة تفتيشية على مجموعات التوليد الكهربائية المتنقلة وقد نفّذت دورة للعاملين وصف الضباط في أسلوب استخدامها وصيانتها .  
دعاني الى طعام الغداء مع مراعاة الحذر التام في الدخول والخروج ، ودارت الأيام وارتابت قيادة الجيش بسلوكه فهو لا يشارك الحفلات العسكرية الماجنة، ونُقل هذا الضابط الاختصاصي في المدفعية إلى التدريب الجامعي تخلّصاً منه . 
 ومرّت الأيام والتقينا في أحداث الثمانينات في إحدى السهرات التي كانت تبحث دعم ثورة الثمانينات ، 
وكان هو يحضر مع أسرة إخوانية معظم آعضائها من الأطباء ، وقيل أن الشهيد الدكتور مصطفى عبود الذي اعتقل بعد معالجة أحد المجاهدين الجرحى ، تمَّت ممارسة صنوف التعذيب عليه ونتيجة الضغوط الكبيرة اعترف على أفراد المجموعة الآطباء وكذلك الشهيد العقيد  فيصل ، فاعتقل مع مجموعة من الأطباء وأحضر الى سجن المسلمية بعد مرحلة من التحقيق القاسية ثم نقل الى سجن تدمر ، حيث روى لي أحدهم توقيت فتح باب الغرفة الجماعية في السجن وينادى عليه وعلى مجموعة كبيرة ليساقوا الى ساحة الإعدام وانطلقت حينها التكبير من جميع المهاجع  . 
نسأل الله عزوجل أن يرحم أخانا " ابوعمر " كما كنّا نناديه ويتقبله شهيدا، وأن يجمعنا معه في عليين ، فقد كان شهماً يتصف بصفات الرجولة والبطولة والحماسة ،