الشعر المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة

 

هل قال الإمامُ أبو حنيفة (70- 150هـ) الشعر؟

 

أقول: إنّ الإمامَ الشيخ محمد بن عبدالله الخطيب الغزي الحنفي التمرتاشي (المتوفى سنة 1007هـ) قال في جوابٍ له منظومٍ عن نظمِ الشعر:

 

"ولم تزلْ علماءُ الدين من قدمٍ =يُباشرون قوافي الشعرِ بالرَّقَمِ 

 

كالشافعيِّ ونُعمانٍ لنا ذُكِروا =وغيرِهم مِنْ موالي العلمِ والكرَمِ"[2] 

 

 

 

وهذا يعني أنَّ أبا حنيفة قالَ الشعر، غير أنَّ مصادر ترجمته المفردة وغير المفردة -وهي بالعشرات- لا تَذْكرُ إلا شيئاً قليلاً جداً، وإنْ كان تقي الدين التميمي الغزي يقول في "الطبقات السَّنية في تراجم الحنفية": "وأمّا ما يُنْسَبُ إلى أبي حنيفة من الشعر فكثيرٌ لا يدخلُ تحتَ الحصر!".

 

ولم أجدْ هذا (الكثير) في استنطاقي المصادر، وأحسبُ أني قد أطلتُ الاستنطاق[3]، والتميمي مُتأخرٌ توفي سنة (1010هـ).

 

وفيما يأتي ذكرُ ما وجدتُهُ، ومنه ما قد يصحُّ، ومنه ما لا يصحُّ:

 

(1)

 

مَنْ طلبَ العلمَ للمعادِ =فازَ بفضلٍ منَ الرشادِ 

 

ويا لخسرانِ مَنْ أتاهُ =لنيلِ فضلٍ منَ العبادِ 

 

وقد ذكرهما الخطيبُ البغدادي في "تاريخ بغداد" (3/ 32)، والرافعي في "الأمالي الشارحة"، في المجلس (28)، والزرنوجي في "تعليم المُتعلِّم"، وابنُ الفوطي البغدادي في "تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب" (3/ 503)، والسيوطي في "الازدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار".

 

وكون السيوطي يوردُهما في "الازدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار" يعني أنَّ أصل البيتين حديثٌ نبويٌّ فما الخبر؟

 

 

 

روى ابنُ عبد البر بسنده إلى أبي يوسف قال: سمعتُ أبا حنيفة - رحمه الله - يقول:

 

"حججتُ مع أبي سنة ثلاث وتسعين ولي ست عشرة سنة، فإذا شيخٌ قد اجتمعَ الناسُ عليه، فقلتُ لأبي: مَنْ هذا الشيخ؟

 

فقال: هذا رجلٌ قد صحب النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقال له: عبدالله بن الحارث بن جزء. قلتُ لأبي: فأي شيءٍ عنده؟ قال: أحاديثُ سمعها مِنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

 

فقلتُ لأبي: قدِّمني إليه حتى أسمعَ منه.

 

فتقدَّم بين يدي وجعلَ يفرّجُ الناسَ حتى دنوتُ منه فسمعتُه يقول: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

 

مَنْ تفقَّهَ في دينِ الله كفاه اللهُ همَّه، ورزقه مِنْ حيثُ لا يحتسبُ"[4].

 

 

 

والحديث أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 32)، في ترجمة محمد بن عمر بن الحسين بن الخطاب، من طريق جعفر بن علي القاضي قال: حدَّثنا أحمد بن محمد الحماني، حدثنا محمد بن سماعة به. وزادَ: وأنشد أبو حنيفة مِنْ قوله:

 

مَنْ طَلَبَ العلمَ للمعادِ=فازَ بفضلٍ مِنَ الرشادِ 

 

ويا لخسرانِ[5] مَنْ أتاهُ=لنيلِ فضلٍ مِنَ العبادِ 

 

وهل نستطيعُ القطعَ بأنّ البيتين لأبي حنيفة؟

 

لقد وجدتُ في كتاب "منهاج المتعلم" المطبوع منسوباً إلى الغزالي[6] أنهما لحمّاد أستاذ أبي حنيفة. ولكنَّ نسبةَ هذا الكتاب إلى الغزالي غير صحيحة، ممّا يُشكك في دقة المعلومات الواردة فيه أيضاً.

 

 

 

(2)

 

• وروى أبو محمد الحارثي عن محمد بن الحسن الشيباني أنّ أبا حنيفة قال لعيسى بن موسى أميرِ الكوفة:

 

كِسرةُ خبزٍ وقعبُ ماءٍ=وفردُ ثوبٍ مع السلامَهْ 

 

خيرٌ من العيشِ في نعيمٍ=تكونُ مِنْ بعدهِ ندامَهْ 

 

وأوردهما الصالحي في "عقود الجُمان في مناقب الإمام الأعظم النعمان" ص306، والكرمي في "تنوير بصائر المقلِّدين في مناقب الأئمة المُجتهدين" ص92.

 

 

 

(3)

 

• وأورد أبو بكر الزرنجري للإمام أبي حنيفة:

 

ومِنَ المروءةِ للفتى=ما عاشَ دارٌ فاخرَهْ 

 

فاشكرْ إذا أُوتيتَها=واعملْ لدارِ الآخرَهْ 

 

أوردهما الصالحي في "عقود الجُمان"، والكرمي في "تنوير بصائر المقلِّدين" ص92، وأوردهما مؤلِّفُ "أحسنُ ما سمعتُ" قائلاً: "وممّا قيل في الدُّور والأبنية".

 

وكُتِبا على دار الشاعر علي بن أفلح العبسي في بغداد.

 

 

 

(4)

 

• وروى الصيمري عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: ما يَعْرِفُ للفقه قدرَه، وقدرَ أهلهِ مَنْ كان ثقيلَ المجالسة. وكان يقولُ:

 

عدمنا ثقالَ الناسِ في كلِّ بلدةٍ ♦♦♦ فيا ربِّ لا تغفرْ لكلِّ ثقيلِ!

 

أورده الصالحي في "عقود الجُمان" ص???.

 

 

 

(5)

 

• وقال الغزي في "الطبقات السنية":

 

ومنه [أي من شعره] قولُه - وقد اتفق له مع شيطان الطاق في الحمّامِ لما رآه الإمامُ مكشوفَ العورة ونهاهُ عن ذلك ما هو مشهورٌ - وهو:

 

أقولُ وفي قولي بلاغٌ وحكمةٌ =وما قلتُ قولاً جئتُ فيه بمنكرِ 

 

ألا يا عبادَ الله خافوا إلهَكم =ولا تدخلوا الحمّامَ إلا بمئزرِ 

 

والبيتان كذلك في "شمّ العوارض" للشيخ علي القاري الهروي.

 

 

 

(6)

 

• وقال أبو الهدى الصيّادي:

 

"ونُسِبَ لسيِّدنا الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - هذان البيتان، وفي "مناهج التوسل" للشيخ عبدالرحمن البسطامي الحنفي أنهما للإمام الشافعي - رضي الله عنه - والله أعلم، وهما:

 

كيف الوصولُ إلى سعادَ ودُونَها =قللُ الجبالِ ودُونهنَّ حتوفُ 

 

الرِّجلُ حافيةٌ وما لي مركبٌ =والكفُّ صفرٌ والطريقُ مَخُوفُ"[7] 

 

 

 

(7)

 

• ورأيتُ على غلاف كتاب "المورد العذب" لابن الجوزي، المخطوط في الخزانة العامة في الرباط، وهو بخط الشيخ تقي الدين الجراعي سنة ???، رأيتُ بخط آخر ما يأتي:

 

"للإمام أبي حنيفة النعمان -رضي الله عنه ورحمه-:

 

قد قيلَ: إنَّ الإلهَ ذو ولدٍ=وقيلَ: إنَّ الرسولَ قد كهنَا 

 

ما سلمَ اللهُ مِنْ برِّيتهِ=ولا رسولُ الإلهِ، كيفَ أنا!". 

 

 

 

(8)

 

• وكذلك نُسِبَ إليه في كتابٍ متأخرٍ -هو "روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات" للخوانساري- ثمانية أبيات: ستة أبيات في (8/ 155)، وهي:

 

"حبُّ اليهود ?ل موسى ظاهرًا =وولاؤهم لبني أخيه بادي 

 

وإمامهم مِنْ نسل هارون الأُلى =بهم اقتدوا ولكل قومٍ هادِ 

 

وكذا النصارى يكرمون محبة =لمسيحهم نجرًا من الأعوادِ 

 

ومتى توالى آلَ أحمد مسلمٌ  =قتلوه أو شتموه با?لحادِ 

 

هذا هو الداء العُضال لمثله =ضلّتْ حلومُ حواضر وبوادي 

 

لم يحفظوا حقَّ النبيِّ محمدٍ =في آله واللهُ بالمرصادِ" 

 

وبيتان في (2/ 162)، وهما:

 

"أخرِّب ديني كلَّ يوم وأرتجي =عمارة دنيائي ودنياي أخربُ 

 

فها أنا ذا بين الحمارين راجلٌ =فلا الدينُ معمورٌ ولا العيشُ طيّبُ"[8] 

 

وهذه النسبة لا سندَ لها.

 

 

 

(9)

 

• وقد نُسِبَ إلى الإمام أبي حنيفة في بعض الكتب الحديثة قصيدة كافيّة، فيها: يا سيد السادات. وشاعت في مواقع التواصل الاجتماعي كثيرًا، وبعضُهم صنعَ لها منامًا، وقد نسبها الأبشيهي - وهو من أهل القرن التاسع (ت:852هـ) - إلى نفسه في كتابهِ "المستطرف في كل فن مستظرف"، وقد جاء فيها:

 

أنا طامعٌ في الجودِ منكَ، ولم يكن ♦♦♦ لابنِ الخطيب من الأنام سواكا

 

وغيَّرَ بعضُ الناس قوله: (لابن الخطيب من الأنام سواكا)

 

وجعله: (لأبي حنيفة في الأنام سواكا)!!

 

ولغة هذه القصيدة لا تشبهُ لغةَ القرن الثاني الهجري، وكنتُ سألتُ الأستاذ الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله عنها فقال: "لاتصحُّ. وهو غير مُسْتَبْعَدٍ عليه نظمُ الشعر، ولكنه لم يُعْرَفْ عنه أنّه قاله". ولعله يَقصد: لم يشتهر ذلك عنه.

 

 

 

(10)

 

• قال الشيخ عمر بن عمر الزهري الأزهري الحنفي (ت: ????هـ) في كتابه "الدُّرة المُنيفة على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة" ص???:

 

"نُقِلَ عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النُّعمان -رضي الله عنه، ونفعنا الله به، وجعلنا ممَّن اتبعه- أنه سُئِلَ عن مسألةٍ فأجاب عنها، فخطّأه نوحُ بنُ درَّاج، وهو مِنْ أصحابهِ، فأنشدَ أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-:

 

كادتْ تزلُّ بهِ مِنْ حالقٍ قدَمي  ♦♦♦ لولا تَدارَكَها نوحُ بنُ درَّاجِ".

 

والصوابُ المذكورُ في المصادر السابقة أنَّ هذا جرى لنوحِ بنِ درَّاج مع القاضي ابن شبرمة لا مع أبي حنيفة.

 

♦♦♦

 

 

 

ما تمثل به من الشعر:

 

1- ذكر ابنُ حجر الهيتمي أنّه تمثَّل بالشعر، ففي "الخيرات الحسان" ص 63[9]:

 

"وأجاب في مسألةٍ، فقيل له: لا يَزالُ هذا المصر – أي الكوفة- بخيرٍ ما أبقاك الله تعالى فيه. فقال:

 

خلت الديارُ فسدتُ غيرَ مسوَّد ♦♦♦ ومن العناء تفرُّدي بالسُّؤودِ".

 

أقول: وهذا البيت (خلت الديار) لحارثة بن بدر الغُداني التابعي[10].

 

♦♦♦

 

 

 

2- وفيه - أي "الخيرات الحسان" - ص73:

 

" قال ابنُ عبد البر: كان أبو حنيفة يُحْسَدُ، ويُنسَبُ إليه ما ليس فيه، ويُختلقُ عليه مالا يليق به. وقد أقبل عليه وكيعٌ فرآه مطرقاً مفكِّراً، فقال له: من أين؟ فقال: من عند شريك. فأنشأ يقول:

 

إنْ يحسدوني فإنّي غير لائمهمْ=قبلي من الناس أهل الفضل قد حُسِدوا 

 

فدام لي ولهم ما بي وما بهمُ =وماتَ أكثرُنا غيظًا بما يجدُ"[11] 

 

 

 

وهذان البيتان منسوبان إلى خمسة شعراء، وهم: الكميت بن معروف الأسدي، ومحمد بن عبيد الله العرزمي، ولبيد بن عطارد، وبشار بن برد، وأبو تمام[12]، ولعل الراجح أنهما لمحمد بن عبيد الله العرزمي (ت:155هـ).

 

وقد صرَّح التميمي في "الطبقات السَّنية" بنسبتهما إلى الإمام، وهما كما ترى!

 

♦♦♦

 

 

 

3- وذكر الرافعي في "الأمالي الشارحة" أنَّ أبا حنيفة كان يُنشِدُ كثيرًا:

 

كفى حزنًا ألّا حياةَ هنيئةٌ ♦♦♦ ولا عملٌ يرضى به اللهُ صالحُ.

 

وقد صرَّح ابنُ عبد البر في "بهجة المجالس" أنه كان يتمثلُ به.

 

♦♦♦

 

 

 

4- وروى الخطيبُ في "تاريخ بغداد"[13] بسنده عن عبد الله بن صهيب الكلبي قال: كان أبو حنيفة النعمان بن ثابت يتمثل كثيرًا:

 

عطاءُ ذي العرش خيرٌ مِنْ عطائكمُ =وسيبهُ واسعٌ يُرجى ويُنتظرُ 

 

أنتم يُكدِّر ما تعطون منُّكمُ =والله يُعطي بلا مَنٍّ ولا كدرِ[14] 

 

[1] كنتُ قد نشرت في هذا الموقع مقالاً بعنوان: (الإمام أبو حنيفة والشعر)، وقد أعدتُ هنا صياغته، وأضفتُ إليه زيادات كثيرة ممّا استجدَّ لديَّ بعد نشره.

وقد نُشِر هذا المقال المُعدل المُوسَّع في مجلة "الضياء" الصادرة عن دائرة الشؤون الإسلامية بدبي، العدد (141)، بتاريخ المحرم (1438هـ)، أكتوبر (2016م).

[2] فتاوى التمرتاشي (2/ 746).

[3] ومن الكتب التي راجعتُها:

• الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء لابن عبد البر (ت: 463هـ).

• وفيات الأعيان لابن خلكان (ت:681هـ)، (5/ 405).

• تاريخ الإسلام للذهبي (ت:748هـ) (3/ 990).

• سير أعلام النبلاء له (6/ 390).

• البداية والنهاية لابن كثير (ت:774هـ)، (10/ 137).

• الجواهر المضية في طبقات الحنيفة لعبد القادر القرشي (ت: 775هـ) (1/ 26) .

والقرشي أول مَنْ صنَّف في طبقات الحنفية.

وكان معتنياً بترجمة الإمام، وله عنه كتابٌ كبيرٌ مفردٌ سمّاه: "البستان في مناقب إمامنا النعمان"، وقد أشارَ إليه في " الجواهر المضية".

• الخيرات الحسان في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان لابن حجر الهيتمي (ت: 973هـ).

• سلم الوصول إلى طبقات الفحول للحاج خليفة (ت:1067هـ)، (3/ 372).

• الأعلام للزركلي (ت: 1396هـ)، (8/ 36).

وهذه كلها لم تذكر له شعراً.

[4] جامع بيان العلم (1/ 203-204).

[5] في "التاريخ" وتابعه محقق "جامع بيان العلم" (2/ 204): ونال خسران من أتاه. وهو خطأ.

والنقل في "الازدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار" للسيوطي وفيه: ونال!

[6] طبعته دارُ التقوى بدمشق سنة (1431هـ-2010م).

[7] أزهار الحديقة ص???، وقد عزاهما إليه في كتابه "راحة الأرواح" أيضاً، ولم يَذكرْ نسبتهما إلى الشافعي. انظر ص??-??.

[8] وقد بدأهما الخوانساري بقوله: "ومِنْ جملة ما يُنسَبُ إليه من الأشعار وهو صادقٌ فيما أخبرَ به فيه مِنْ مثل نفسهِ الغدّارة"!!

[9] المطبعة الخيرية، مصر، 1304هـ.

[10] وقد جمَعَ شعرَه الدكتور حاتم الضامن في كتابٍ، واستنزله عنه الدكتور نوري حمودي القيسي، وأخذَهُ ونشرَهَ في كتابه " شعراء أمويون". (بغداد 1396هـ-1976م).

[11] والخبر في "تاريخ بغداد" (13/ 367) وغيره، ولم أجده في "الانتقاء".

[12] نُسِبا إليه في "غرر الخصائص الواضحة"، ولكن ذكرهما أبو تمام في "الحماسة"، ولم ينسبهما إلى نفسه، فنسبتهما إليه لا تصح.

[13] (13/ 359).

[14] ولو قلنا: "فلا مَنٌّ ولا كدرُ" تخلصنا من الإقواء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين