الشحارير الجُدد

الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

فإن المتأمل في واقع العصر يعجب أشد العجب من كثرة الخلاف وشدة النزاع وتفرُّق الآراء وغلبة الأهواء في طوائف أهل السنة، حتى إن شأنهم في هذا ليدع الحليم حيران، ويذهب بلُبِّ الحازم، يسر العدو المتربص، ويحزن الصديق المخلص.

والعاقل إذا نظر في مواقع التواصل كاليوتيوب والفيسبوك ونحوهما، يقضي العجب من اختلاف الناس في أمور قد استقر عند أهل العلم العملُ بها أو تركها، وفرغ منها نظرُ النُّظَّار تنقيحا وتصحيحا وترجيحا، ثم تجد اليوم صبيا في أوربا لسانه أطول من عثنونه، قليل العقل منقطع الصلة ربيبا في العلم:

مُزجي البضاعة في العلوم وإنه

*** زاجٌ من الإيهام والهذيانِ

يستطيل على إمام كالنووي والسيوطي وغيرهما ويطعن عليهم طلبا للشهرة والمال، وآخر يهرف في ابن تيمية بما لا يعرف، إما طعنا عليه حتى ليجعلونه مفسداً، أو غلواً فيه برفعه على رتبة الأئمة الأربعةـ وآخر يشوش على الناس في مذاهبهم بشغب مُبهْرَج يخوض لأجله المفسبكون في أهوائهم بالعصبية لآرائهم بلا علم راسخ، دون عمل ولا اهتمام لما يحدث في الواقع!

ثم يطلع لك صحفي فاشل إعلاميا، جاهل علميا، يروم الشهرة كالبائل في زمزم؛ فيَلِغ في عرض أئمة السنة كالحاكم وغيره، ويريد بكاسد رأيه وفرط جهله أن يدع الناسُ كتابه وحديثه الذي أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول والرضا والشهادة لمصنفه بالعلم والفهم، بمجرد شقاشق تخيلها هذا الغر الذي أُعطي الخبز وحُرم الأدب والفهم.

وينقز مهندس في أمريكا لا يعجبه حديث في (الصحيحين)؛ فينبش في غوغل ومواقع الإنترنت، ويقمِّش كلاما يلفِّقه من هنا وهناك ليقنعك بضعف الحديث وخطأ الشيخين فيه، وهو لا يحفظ فهرس (الأربعين النووية)، فما لك وللحديث، اشتغل بهندستك ودع الحديث لأهله ورجاله!

ثم يخرج لك ولد يروم الشهرة؛ قد حاولها مع السلفيين فعجز، وأرادها مع الحداثيين والمتعقلنين فأعياه الأمر، ثم تشيَّع لعله يدركها، وانقلب بأخرة ناصبيا، تارة يطعن في حديث عند مسلم في فضائل آل البيت لا يوافق هواه، وتارة يتكلم في تخطئة الحسين عليه السلام دون تأدب، وتارة لا يعجبه حكم مستقر في مذاهب الأئمة فيشغب عليه بشواذ الأقوال التي لا يحسن فهمها، وهو فرح معجب بتخاريفه ولا يدري أنه يثرد خارج القصعة.

ثم يطالعنا طبيب وإعلامي قد أعيته الشهرة أنْ ينالها بطبه وإعلامه، فهو يحاول إدراكها بالخوض في علوم الشرع التي أضحت أقرب طريق للشهرة، فما عليك سوى النبش في غوغل لتخرج منه قولا شاذاً تذيعه في الناس بعد تزويقه وتنميقه، وتدعي معه أن كل الأمة على خطأ، وأنك ستأتيهم بما لا يعرفونه هم ولا آباؤهم وعلماؤهم، شنشنة أخزم.

ثم ينحدر الواحد من هؤلاء فيما يشهره ويستكثر به من اللايكات؛ من ثلب آل البيت والطعن عليهم ووصف الحسين بالخارجي والطعن في فضائله، وتعظيم الطغاة كيزيد والحجاج والاعتذار عنهم وأنهم "مفترى عليهم" وأن التاريخ "مزور" كتبه المتآمرون، إلى آخر هذيانهم، تارة يتظاهرون بفهم الواقع، وتارة يتكايس الواحد منهم حتى يكاد من شدة تكايسه يضرط، ويخوض بلا عقل ولا حياء في علوم هو أجنبي عنها بالكلية، فيطعن في حديث مرة، ومرة يشكك في حكم مستقر، وليس معه أصل ولا عقل سوى أنه يرى ما تصنعه مليشيات إيران من القتل والفتك والعبث بأهل السنة وبلادهم، فيكون اعتقاده ردَّ فعل لتصرفاتهم، يظن أنه بذلك يصلح وهو من أفسد المفسدين.  

والعجب أن جميع هؤلاء لن يعدموا نصا أو نقلا يعتمدون عليه ويفتنون به، وكلهم يقول: "عندي" و"هذا رأيي"!

يقولون هذا عندنا غير جائز

*** ومن أنتمُ حتى يكون لكم عندُ

وما كدنا نفرغ من هذيان شحرور ونظرائه حتى تفرَّخ هؤلاء الشحارير الجدد، وأصل فساد هؤلاء النابتة دعوى التمجهد وحرية الرأي وترك التقليد، رحم الله ابن الصلاح ما كان أفرسه، ورحم الله من منع الخروج عن مذاهب الأئمة كابن رجب، وردَّ على من اتبع غيرها، فما كان قصدهم إلا سد ذريعة هذا التخبط بالأهواء والآراء الفاسدة بدعوى التمجهد!

نصحتُكَ والنصيحةُ إنْ تعدَّت

*** هوى المنصوح عزَّ لها القولُ

فخالفتَ الذي لك فيه حظٌّ

*** وغَالَكَ دون ما أمَّلتَ غَوْلُ

ثم يخرج علينا باحث على فترة وشغل بمهمات الأمة ومدلهمات أمورها، قد نعس نعسة فجاءنا بحديث خرافة؛ تارة ينفي خروج المهدي، وتارة يطعن في حديث صوم عرفة اعتماداً على علة تخيلها بما معه من هربسيس الفن، ثم يقلده ولد يصيح: أنا أيضا أُعلل وأُصحح فانظروني، فيأتي إلى حديث قد صححه الأئمة ويحاول الطعن فيه بخيالاته وهذيانه متظاهراً بالمنهجية تارة، وبالتمجهد تارة أخرى؛ فيضعف أحاديث صوم عاشوراء بخيال سخيف سرقه من غوغل وزوَّقه، ويتجاسر على أحاديث مسلم بنظر يُضحك ولغة بليدة ومعنى ركيك لا يستحي من خفة عقله.

ويطالعك متشيع قد أهلكه الهوى والعجب برأيه وادعاء التمجهد؛ فيسب معاوية ويقذع لعمرو، ويجزم بخطأ عثمان، بل عمر، رضي الله عنهم، ويزعم أن فتوحات الإسلام إرهاب، ويطعن على أحاديث (الصحيحين) في فضائل الصحابة، ويتهوك فيها بلا أصول، فيقابله النواصب بعكس كلامه لكن في العترة الطاهرة، فيا لله ويا للمسلمين أي بلاء حلَّ على العلم والإسلام بهؤلاء؟!

ثم يخرج علينا أكاديمي برأي أعجبه في سكرة أو منام، فيزعم أن علم الأصول لا فائدة فيه وهو مجرد فلسفة تشريع لا يحتاج إليه في الاستنباط، فيجاوبه آخر بأنه علم يهدم السنن، وآخر يزعم أن الأئمة قصروا فيه وأفسدوا الأحكام، فيطلع علينا بأحموقة: "أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة" ويتابعه آخر فيخترع علم الاصطلاح عند أهل السنة، والبلاغة عند أهل السنة، والنحو واللغة عند أهل السنة، وهكذا تفسد العلوم والمعارف بعبث هؤلاء النوابت.

وقد قال الحكماء: (من صنَّف فقد وضع عقله على طبق يعرضه للناس) وهؤلاء لا يبالي الواحد منهم في طلبه الشهرة أن يضحك الناس من عقله وجهله، ولست أدري من الأحمق الذي يتابع ضفطات هؤلاء الزعاكيك التي هي أشبه بنكاح الدبر لا ينتج، ويدع كلام الأئمة الحفاظ الذين نستحي من ذكر أسمائهم عند ذكر هؤلاء المهابيت وعبثهم.

ويذكرك صنيعهم هذا، ببعض ولدان الفيس ممن تَتَكْتَكَ وتَلَغْرَم وتَوَيْتَر؛ يتكلم في الطب والفيزياء وعويص وقائع السياسة والفكر والفلسفة، ويقول: "من واقع خبرتي وتجربتي" وهو بعدُ أزغب لم يطرَّ شاربُهُ! أي زمان هذا الذي بات يُستمع فيه لكلام الدعاميص دون الكبار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البركة مع أكابركم)؟!

أبا مُنْذِرٍ أَنَّى يقودُ ابنُ فَرْتَنَى

*** كَرَادِيسَ جمهورٍ كثيرِ الكتائبِ

وما ثَبَتَتْ في مُلْتَقَى الخيلِ ساعةً

*** لهُ قَدَمٌ عند اهتزازِ القَوَاضِبِ

فانظر إلى هؤلاء كيف صدق فيهم الحديث: (وإعجاب كل ذي رأي برأيه) وانظر إلى تجاريهم في الأهواء والآراء كتجاري الكلب بصاحبه، وانظر إلى أحدهم شبعان على أريكته يُنكر من السنن ما لا يعجبه، ويردُّ من الحديث ما لا يعقله، ويدفع كلام الأئمة الجبال، بخيال يقنع به نفسه وأتباعه في الفيس، وإذا وضع على محك النظر ومعيار العلم تبين أنه ريح في قفص.

وانظر إلى فشو القلم فيهم حتى بات كل متفسبك ومتويتر يكتب ويعلل ويصحح ويضعف ويرجح، ويعجب برأيه، بل لا يعجبه غير رأيه الذي افتتن به وهو هباء، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد: (أُبشركم بالمهدي، يُبعث فيأتي على اختلاف من الناس وزلازل).

فهؤلاء المفتونون بآرائهم المتمجهدون في تراثهم، بدلا من أن يستفرغوا الوسع في استنباط الأحكام لنوازل عصرهم واستخراج الحل لمشاكل واقعهم، بالاعتماد على ما تركه لهم سلفهم من إرث علمي متين، أخذوا في هدم تراثهم والتبرُّم من إرث أجدادهم حين أعياهم فهمه، وضاقت عقولهم عن استيعابه، وعجزت فهومهم عن رد الشبهات عنه، فكاعوا بسَبِّه وانتقاصه وردِّه، فبئس الخلف هم لخير سلف.

كنا نقيس العلمَ فيما مضى

*** على أصول السلف الأُوَلِ

فجاء أقزامٌ يقيسونهُ

*** على هوى أشياخ قُطْرَبُلِّ

إن الشحاريرَ وأذنابَهُمْ

*** يَرْقَوْن في العلم إلى أسفلِ

فإذا أردت النجاء من هذه الأهواء والفتن؛ فدعك من هذيانهم وتحذلقهم، واقصد مذاهب الأئمة التي تلقتها الأمة بالقبول والرضا؛ عقيدة وعملا وسلوكا فإنها أصول راسخة، فتمسَّك بها فهي النجاة لكونها نظر مجموع الأمة ومحض فهم فحول الأئمة، قد تتابع عليها المجتهدون النُّظَّار تصحيحا وترجيحا وتنقيحا، فاتباع السنة والسلف في اتباعها، كما قال الأوزاعي: (عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال وإن زخرفوه وحسَّنوه؛ فإن الأمر ينجلي وأنتَ منه على صراط مستقيم).

وهذه المذاهب قد تلقت الصحيحين بالقبول، والأحكام الفروعية بالعمل، وهنا السر في حكاية الإجماع على أن من اتبع مذهبا منها سلم ونجا، أي من التخبط الذي عليه نابتة العصر ومتمجهدوه، وهذه المذاهب أيضا قد دانت للصحابة والعترة بالرضا، ورقبت محمداً صلى الله عليه وسلم في آله الطاهرين؛ فلم يظهر منهم سوء في حق الصحابة والآل، واغتفروا ما صدر منهم بأنه اجتهاد يثابون عليه، وأجمعوا على اعتقاد: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)، والإمساك عن الخوض فيما شجر بين الصحابة والعترة، والبراءة من عظائم جور ومنكرات يزيد والحجاج، وتلقي السنة بالقبول والعمل في الجملة، على أصول وعلوم راسخة لا يضرها ونيم ذباب المتمجهدين، ولا يزعجها ضجيج المتحذلقين؛ فهو كضراط دُغة؛ منبتٌّ لا علما أبقى ولا أصلا اتبع، قد فات قديمه فتاه؛ فهو يخبط خبط عشواء، ضالا عن السواء، آخذاً طريقَ العُنْصُلَيْنِ، ذاهبا مذهب ضُل بن أُل، وفي أمثال العرب الأولى: (من أُعجب برأيه ضَلَّ، ومن استغنى بعِلْمِهِ زَلَّ)؛ فحالهم ومقالهم كما قيل:

لَعَمْرُكَ إنني وطِلاب حُبَّي

*** وتَرْك بنيَّ في الشُّرَطِ الأعادي

لَمِنْ نَوْكَى الشيوخ وكان مثلي

*** إذا ما ضَلَّ لم يُنْعَشْ بهادِ

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين