الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بيته (2)

متى كان التحوُّل لفاطمة:

لعل الذي يحتاج منا النظر والبحث ما دمنا بصدد التمييز بين الروايات، وما جاء في الرواية القائلة بأنَّ هذه المنازل كانت لحارثة - من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «استحييت من كثرة ما تحول حارثة عن منازله» حيث يفهم من ذلك أنَّه كان بعد أن تزوج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بنسائه أو على الأقل أكثرهن.

مع أنَّ زواج فاطمة بعلي رضي الله عنهما كان في السنة الثانية من الهجرة ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج من نسائه غير سودة وعائشة رضي الله عنها، فكيف يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «استحييت من كثرة ما تحول لنا»؟

وفي تقديري أنَّه لا أشكال في الأمر، فليس من الضروري أن يكون تحول فاطمة إلى جوار أبيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كان عقب زواجها بعلي مباشرة بل لا مانع أن يكون بعد الزواج بسنتين، ولعل هذا هو المعقول، بعدما ولد لها، وصار رسول صلى الله عليه وآله وسلم يسعى إليها ليرى الحسن والحسين وأختيها زينب وأم كلثوم، فأدركت فاطمة أن بعدها فيه مشقة على أبيها صلى الله عليه وآله وسلم. وشاركها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، وبلغ الحديث حارثة فكان ما كان.

ولعل الذي يؤكد استنتاجنا هذا أن فاطمة رضي الله عنها لم تكن بجوار أبيها في أول زواجها، وظلت بعيداً حتى ولدت.

الذي يؤكد هذا ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في طائفة من النهار، لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتي خبأ فاطمة (أي بيت فاطمة) فقال: أثم لكع؟ أثم لكع؟ (المراد بلكع هنا الصغير) يعني حسناً، فظننا أنَّه إنما تحبسه (أي تؤخره) أمه لأن تغسله، وتلبسه سخابا (السخاب قلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها، وقيل من الخرز) فلم يلبث أن جاء (أي الحسن) يسعي، حتى اعتنق كل واحد منها صاحبه...».

فهذا الحديث يبين مكان بيت فاطمة رضي الله عنها في أول الأمر، وأنَّه كان بعد سوق بني قينقاع، أو على الأقل لم يكن بجوار المسجد مع بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

صفة هذه البيوت:

هذا عن مكان بيوت النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وتاريخ إنشائها، ووسيلة امتلاكها، أما صفة هذه البيوت، فكانت بعيدة عن الأُبَّهة، والزخرفة والزينة، بل بعيدة عن المتانة وقوة البنيان، بعضها من جريد مطين بالطين، وبعضها من حجارة مرضومة بعضها فوق بعض، وسقفها كلها بالجريد أيضاً، وكان لكل بيت حجرة وكانت حجره أكسية من شعر مربوطة في خشب عرعر. [العرعر شجر السرو] .

وفي تاريخ البخاري: أن بابه عليه السلام - كان يقرع بالأظافير، أي: لا حلق، (أعلام المساجد 224 وسيرة بن هشام 103/2هـ 2).

وأما ارتفاع هذه البيوت، فكان أقل ارتفاع يمكن أن يسمح باستخدامها في غير مشقة، فقد قال السهيلي في الروض:2/13 قال الحسن بن أبي الحسن: كنت أدخل بيوت النبيّ عليه السلام وأنا غلام مراهق، فأنال السقف بيدي.

وأما مساحة هذه البيوت والحجرات، فيبدو أنَّها كانت ضيقة نوعا ما. يقول ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة جـ 2 من المجلد الرابع ص 45:

«...لا يزيد اتساعها على اثني عشر قدماً أو أربعة عشر قدماً، ولا يزيد ارتفاعها على ثمانية أقدام».

ولعل أصدق وأدلّ على ضيق هذه البيوت وحجراتها من كلام ديورانت أو غيره ما رواه الستة إلا الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل، وأنا معترضة بينه وبين القبلة، كاعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يوتر، أيقظني فأوترت».

وفي رواية أخرى من حديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها أيضاً.. «والله لقد رأيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلي وأنا على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنسل من قبل رجليه».

وفي حديث آخر أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح».

فهذه الأحاديث الصحيحة تؤكد أن بيوته صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن من السعة بحيث يجد مكاناً يصلي فيه بعيداً عن زوجته النائمة بينه وبين القبلة ويضطرها لأن تقبض رجليها كلما سجد.

وهذه البيوت كان ملحقاً بها أو في فنائها خباء (خيمة) من سعف، وجاء ذلك فيما رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة، وأبو يعلى الموصلي عن رزينة مولاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، حين قصت دعابة طريفة كانت بين عائشة وحفصة، وبين سودة رضي الله عنهن إذ روعتا سودة، بأنَّ الدجال قد خرج، فأخذت ترتعد وتسأل عن مخبأ، فقالت حفصة: «عليك بالخيمة» خيمة من سعف يختبئون فيها.

فهذا يشير إلى أن بيوت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضها كان ملحقاً به مثل هذه الخيمة تأوي إليها نساؤه عندما يكون عنده الصحابة، وربما كانت تسع بعضاً من متاع البيت مثل الرحى ونحوها.

وفي هذه الخيمة لا شك تخفيف من ضيق البيوت وتوسعة لها.

ويؤكد وجود هذه الخيمة أيضاً ما جاء في صحيح مسلم أن عبد الله بن عباس قال: أخبرتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبح يوماً واجماً، فقالت يا رسول الله، لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة، فلم يلقني، أما والله ما أخلفني» قالت: فظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه حتى أمسى ولقيه جبريل..... وقال ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة...».

فالحديث يشير إلى أن جرو الكلب. كان تحت الفسطاط، ويشهد بأنَّ هذا الفسطاط كان مُلحقاً بالبيت، ومعتبراً منه، قال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي أبي بكر الباقلاني: والمراد به هنا بعض حجال البيت.

مشربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

جاء في قصة اعتزال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نساءه التي رواها الشيخان أنَّ رسول الله ع كان معتزلاً في مشربة، ونورد هنا وصفها، حتى لا يسبق الوهم إلى أنَّها كانت طابقاً ثانياً فوق أحد أبياته، أو مصطافاً جميلاً، يقول عمر رضي الله عنه: فقلت لها (أي حفصة) أين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فدخلت، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعداً على أسكفّة المشربة مدلّ رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينحدر...».

فها هي المشربة كما نرى، (خزانة) يرقى إليها بجذع، وإخالها لم تعد، ولم تهيأ للمعيشة بها وإنما لتكون خزانة البعض ما تحتاجه الحياة (قرظ، جلود،... ونحو ذلك). فهي إذن لا تخرج البيوت النبويّة الشريفة عن الصورة التي وصفناها.

رضى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بهذه البيوت:

وسواء بنيت هذه البيوت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلها، أو أنَّ أكثرها لحارثة بن النعمان، فتحوّل عنها للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - وهو ما نرجِّحه - فقد رضيها صلى الله عليه وآله وسلم، وطاب بها نفساً، ولم يثبت أنَّه أدخل عليها تعديلاً، أو توسيعاً أو أعاد بناء شيء منها. أجل لم ترد أية إشارة إلى حدوث شيء من هذا، أو مجرد تفكير فيه، أو حديث عنه.

ولا يظن ظانّ أنَّ هذه كانت بيوت البيئة كلها، فقد عرفت البيئة القلاع والحصون وإخالها عرفت القصور على نحو ما، ويقيناً عرفت البيوت القوية المتينة التي بها أكثر من طابق، فها هو بيت أبي أيوب الأنصاري الذي نزل عنده النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم سبعة أشهر حتى بنى المسجد والبيت - كان بيت أبي أيوب من طابقين وأراد أبو أيوب رضي الله عنه أن يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالطابق الأعلى إكراماً له، وكراهية أن يكون فوقه، ولكن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «يا أبا أيوب أن ارفق بنا ومن يغشانا، أن نكون في سفل البيت...» (سيرة ابن هشام 2/104).

نقول: إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رضي ببيوته هذه على ما وصفناها، وكان بوسعه - لو أراد - أن يستبدل بها أوسع منها وأقوى وأعلى وأجمل. وبخاصة بعد أن جاءته الأنفال والغنائم، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم رضي بها زهادة وقناعة وتواضعاً، وارتفاعاً عن متع هذه الحياة الدنيا.

فلم يكن ذلك عجزاً مادياً، ولا عجزاً عن إدراك معنى السعة في البيت وجماله وهو الذي كان من دعائه الذي يكثر منه: «اللهم وسع لي في داري» (رواه النسائي بإسناد صحيح)، ولكنه أيضاً القائل: «خيرت بين أن أكون نبيّا ملكا أو أكون نبيّا عبداً، فأشار إلي جبريل عليه السلام أن أتواضع، فقلت: بل أكون عبداً. رواه الطبراني عن ابن عباس بإسناد حسن، والبيهقي، وابن حبان.

أثاث بيته صلى الله عليه وآله وسلم:

وبعد أن رأينا صورة بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفنا شكله ومكانه، سنحاول أن نراه من الداخل، ولعلَّ أول ما تقع عليه العين عندما ندخل البيت - أي بيت- هو الأثاث، ومن هنا سنحاول أن نضع أعيننا على أثاث بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفُرشه، لنرى كيف كان؟ وماذا كان؟ ثم لم كان؟

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينام عليه من أدم حشوه ليف» رواه الشيخان ورواه غير الشيخين مع اختلاف في اللفظ.

(والأَدَم: بفتحتين جمع أديم وهو الجلد) ووصفت الفراش بأنَّه الذي ينام عليه، حتى لا يتوهم أنَّه للجلوس، أو لتفيد الأمرين معاً.

وسئلت حفصة رضي الله عنها: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتك؟ قالت: مِسْحًا نَثْنِيهِ ثَنِيَّتَيْنِ فَيَنَامُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ قُلْتُ: لَوْ ثَنَيْتَهُ أَرْبَعَ ثَنْيَاتٍ لَكَانَ أَوْطَأَ لَهُ، فَثَنَيْنَاهُ لَهُ بِأَرْبَعِ ثَنْيَاتٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: " مَا فَرَشْتُمْ لِيَ اللَّيْلَةَ؟" قَالَتْ: قُلْنَا: هُوَ فِرَاشُكَ إِلَّا أَنَّا ثَنَيْنَاهُ بِأَرْبَعِ ثَنْيَاتٍ، قُلْنَا: هُوَ أَوْطَأُ لَكَ قَالَ: " رُدُّوهُ لِحَالَتِهِ الْأُولَى ، فَإِنَّهُ مَنَعَتْنِي وَطَاءَتُهُ صَلَاتيَ اللَّيْلَةَ».

وفي حديث ابن عباس - [رواه الستة] - الذي يصف فيه صلاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالليل، في الليلة التي بات فيها معه عند خالته ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، في هذا الحديث يقول ابن عباس رضي الله عنها: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شن معلقة، فتوضأ منها «فهنا أضاف ابن عباس إلى الأثاث (شناً) والشن (بفتح الشين) هو القربة الخلق الصغيرة.

وفي الحديث المتفق عليه، الذي قدَّمناه عن عائشة رضي الله عنها، أنَّه كان يصلي في الليل وهي بينه وبين القبلة على السرير. فأي سرير هذا؟ «لقد كان خشبات مشدودة بالليف، بيعت زمن بني أمية، فاشتراها رجل بأربعة آلاف درهم قاله ابن قتيبة (سيرة ابن هشام 2/103هـ 2).

ولا منافاة بين قول عائشة رضي الله عنها السابق: كان فراشه صلى الله عليه وآله وسلم من أدم حشوه ليف وبين ذكر السرير، فقد يكون السرير استحدث فيما بعد، بل لا مانع من وجودهما معاً.

وفيما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال عمر رضي الله عنه:... جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مشربة (أي غرفة)، وإنَّه لَعَلَى حَصِيرٍ ما بيْنَهُ وبيْنَهُ شيءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ، وإنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَضْبُورًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبًا مُعَلَّقَةً، (أي جلود)...».

فقد أضافت هذه الرواية إلى الأثاث السابق حصيراً، وجلوداً مُعدَّة للدباغ وقَرَظاً يُدبغ به.

ولكن المؤكد أنَّ هذا الأثاث لم يكن حيث يعيش رسول الله حياته اليومية، فالمعروف أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يبغض الروائح الكريهة فكيف يطيق الأهب التي تدبغ، والقرظ؟

وإنَّما كان ذلك في (الخزانة) التي اعتزل فيها النبيّ نساءه، عندما تظاهرت عليه زوجتان من زوجاته، في القصة المعروفة، التي أشارت إليها سورة التحريم، وقد صرَّح هذا الحديث الذي ذكرناه بذلك.

وبهذا نكون قد رأينا أثاث بيت رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كما ترى من القِلَّة بحيث لا يحتاج إلى إحصاء أو تعداد.

ولسنا في حاجة إلى أن نجهد أنفسنا في جمع الروايات، والأحاديث الصحيحة التي تبين لنا شِدَّة عيش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وخشونة فراشه، فذلك أمر صار معلوماً بالضرورة، ويكفي ما قدَّمناه تأكيداً وإثباتاً.

موقف الصحابة من هذا الأمر:

لقد كان صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يرقون له، ويشفقون عليه حيث كان أحب إليهم من أنفسهم التي بين جنبيهم، فذلك من مقتضى الإيمان، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».

كان الصحابة رضوان الله عليهم يشفقون ويرقُّون ويبكونَ لحالِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما يكابده من شَظَفِ العيش.

جاء في الحديث الشريف الذي قدَّمنا جزءا منه عن رؤية عمر للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على الحصير، ما بينه وبينه شيء قول عمر رضي الله عنه: «فبكيت، فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هم فيه، وأنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أما ترضى أن تكون لها الدنيا، ولنا الآخرة» (رواه البخاري).

وفي رواية صحيحة أيضاً: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: «أولئك قوم عجِّلت لهم طيباتهم، وهي وسيلة الانقطاع، وإنَّا قوم أُخرت لنا طيباتنا في آخرتنا».

وورد مثل هذا عن غير واحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد بكى لمثل هذا الذي بكى له عمر عبد الله بن مسعود فيما رواه الطبراني، وأبو بكر الصديق فيما رواه عنه ابن حبان في صحيحه (جمع الوسائل 2/126).

ولم تكن نساء الصحابة رضي الله عنهن أقل تأثراً من الرجال، بل كن أكثر تأثراً وشفقة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يشهد لذلك ما أخرجه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليَّ امرأة فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عباءة مثنية فبعثت إليّ بفراش حشوه صوف، فدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فرآه فقال ردِّيه يا عائشة رضي الله عنها، والله لو شئتِ أجرى الله معي جبالَ الذهب والفضة.

ويبدو أنَّ هذا الموقف تكرَّر أكثر من مرَّة يشهد لذلك ما رواه ابن حبان في أخلاق النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: دخلت امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عباءة مثنية، فانطلقت، وبعثت إليَّ بفراش فيه صوف، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال ما هذا؟ قلت: إنَّ فلانة الأنصاريَّة دخلت علي فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا، فقال رديه؟، فأبيت، ولم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، قالت: حتى قال لي ذلك ثلاث مرات، فقال ردِّيه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة. قالت فرددته (جمع الوسائل 2-126).

والذي نرتاح إليه أن ما رواه البيهقي حادثة غير التي رواها ابن حبان، وأن ذلك تكرر (ربما) غير المرتين، ففي رواية البيهقي لم تتردَّد عائشة رضي الله عنها وردَّت الفراش المهدى كما أمرها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أول مرة، ثم لما تكرَّر الموقف شقَّ عليها، أن يحرم من هذا الفراش، وكأنَّها رأت أنَّها أحق بالإشفاق عليه صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصاريَّة التي أهدته، فأبدت إباء وامتناعاً، على أمل أن يجاملها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، ويرضي رغبتها - والأمر في نظرها يحتمل المجاملة - ولكن حينما تأكد لها عزم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجزمه، حينما كرَّر أمر الرد ثلاثاً، أيقنت أنَّ الأمر لا يحتمل المجاملة، فسمعت ورضيت وما كان لها إلا أن تفعل رضي الله عنها.

موقف عائشة رضي الله عنها:

ويبدو أنَّ عائشة رضي الله عنها، وكانت أصغر نسائه سناً، وأكثرهنَّ حيوية، وأحظاهنَّ عنده، ولم يسبق لها الزواج بغيره صلى الله عليه وآله وسلم - يبدو أنَّها رضي الله عنها كانت تحاول أن تستجيب لأنوثتها، وفطرتها النسائية السليمة، فكانت تحاول أن تهيئ بيتها، وتزيِّنه، بما تقدر أنَّه يريح زوجها، ويرضيه، ويلفت نظرنا في قصة الفراش المردود قولها: «فأبيت، وأعجبني أن يكون في بيتي» (أعجبني)، (بيتي) فهي تضيف البيت لنفسها، وتتمنى ما يعجبها فيه.

ولم تكن هذه هي المحاولة الوحيدة لعائشة رضي الله عنها، فقد تكرَّر ذلك منها، تكرَّر منها محاولات تجميل البيت وتزيينه، وإلانة الفراش وتنعيمه، وفي كل مرة كان يأتيها رد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بما يناسبها، وسنحاول أن نعرض بشيء من هذه المحاولات، فيما يلي:

فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّها اشترت نمرقة تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على الباب، فلم يد خل، فعرفت الكراهية، فقالت: يا رسول الله، أتوب إلى الله وإلى رسوله، فإذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما بال هذه النمرقة [وسادة صغيرة]». فقالت: اشتريتها لك، تقعد عليها، وتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ أصحاب هذه الصور يعذبون، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم»، ثم قال: «إنَّ البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة» ا.هـ واللفظ لمسلم.

ومن ذلك أيضاً ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت:.. رأيته خرج في غزاته، فأخذت نمطا [بساط لطيف له خمل]، فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط، عرفت الكراهية في وجهه. فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال: «إنَّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين» قالت: فقطعنا منه وسادتين وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك علي.

وقد يشكل هنا رفض النمرقة في الحديث السابق، ثم رضاه بها في هذا الحديث، وهي متخذة من نفس النمط (وكان فيه صورة الخيل ذوات الأجنحة كما صرح به في الرواية الأخرى).

والجواب: أن هتك النمط وقطعه أصاب الصورة وأتلفها، ويحتمل أنَّها عند عمل الوسادتين جعلت الصورة من الداخل.

ومن ذلك أيضاً ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا».

وهذا أيضاً قد يشكل مع غضبه صلى الله عليه وآله وسلم وقطعه الستر في حديث الذي ذكرناه قبل هذا. وقد يجاب بأنَّ المراد بالتحويل هنا الإزالة - وليس مجرد نقله من مكانه في استقبال الداخل كما هو المتبادر - كما صرح بذلك في رواية البخاري عن أنس رضي الله عنه: «أميطي عني (قرامك) فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» (والقرام: ستر به نقوش فيها تصاوير).

وأيَّا ما كان الأمر فحكم التصوير والستائر بحث فقهي لسنا له الآن وإنما الذي نريد أن نقوله هو ما كان من محاولات عائشة رضي الله عنها المتكررة لتخفيف من شدة عيش النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأن تهيئ له من الفراش ما يريحه ومن المناظر ما يبهجه، ولكنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم ما لا يعلمون، ويدرك ما لا يدركون، كان يرى الراحة والرضى في الارتفاع عن هذه الحياة بماديتها الغليظة والانفكاك من ثقلها، والتسامي على متعها. [وللتفصيل في هذا يُرجع إلى كتاب الحلال والحرام للدكتور : يوسف القرضاوي ، ص 115 ط 8 تجد تفصيلاً شافياً إن شاء الله تعالى].

للمقالة تتمة في الجزء التالي..

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسُنَّة النبويّة، الدوحة، محرم 1400هـ

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين