الرسول المعلم (2)

أذيع من دمشق مساء الثلاثاء بعد المغرب 23 من رمضان المبارك سنة 1381، جعله الله خالصاً لوجهه الكريم. آمين.

أيها المستمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد.

فعنوان حديثي اليوم: الرسول المعلم صلى الله عليه وسلم وأساليبه في التعليم

وحديثي اليوم يتمم حديثي الماضي، وقد ذكرت فيه طائفة من الأحاديث الشريفة التي تضمنت من صفات الرسول، المعلم الأول، ما يعرفنا بتلك النفس النبوية الكريمة التي صنعها الله لرسالته لتصنع الخير للناس وتبلِّغَ الدين للبشر.

وها أنا ذا أورد طائفة ثانية من الأحاديث الشريفة تُوقِفُنا على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم ونشر الدين والعلم وغرسهما في النفوس، حتى استطاع بعون الله أن يجعل من تلك النفوس الصحراوية القاسية نفوساً حانية رحيمة رقيقة، تتلقف العلم والهدى، وتنشره في الناس، فتفتح به قلوباً عُمْيَّاً وآذاناً غُلْفَاً وعقولاً معطلة، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً على وجه لم يشهد التاريخ له مثيلاً، ولا غرابة في ذلك، فقد كان لأولئك الأصحاب الهداة الراشدين من تعليم الرسول، المعلم الأول، صلى الله عليه وسلم، ما يصقُلُ نفوسهم ويُفتِّحُ فيها معاني الخير وأهلية القيادة للعالم، وهذه قبسات من أساليب الرسول في طرق التعليم تصلنا بهذا الماضي المشرق المجيد.

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرِصُ كل الحرص على توضيح المعاني التي يريد بيانها، وتارة يستعين على ذلك بضرب المثل مما يشهده الناس بأبصارهم ويتذوقونه بألسنتهم ويقع تحت حواسهم وفي متناول أيديهم، وفي هذه الطريقة تيسيرٌ للفهم على المتعلم واستيفاءٌ لإيضاح ما يُعَلِّمه أو يُحذِّر منه، روى أبو داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن كمَثَلِ الأُتْرُجَّة – وهو نوع فاكهة يشبه البرتقال - طعمُها طيبٌ وريحها طيب، ومَثَلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمَثَلَ التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومَثَلُ الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مُرٌّ ولا ريح لها، ومَثَلُ الجليس الصالح كمَثَلِ صاحب المسك، إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومَثَلُ جليس السوء كمثل صاحب الكِير – أي كمَثَل الحداد ينفخ النار على الحديد - إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه. وفي هذا التشبيه النبوي أبلغُ ترغيب في الخير، وأزجرُ تحذير عن الشر بأقرب أسلوب يدركه المخاطبون.

وكان صلى الله عليه وسلم يعدل عن التشبيه فيعلِّمُ بطريق الإشارة أو الرسم على الأرض، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمنُ للمؤمن كالبنيان، يَشُدُّ بعضُه بعضا. وشَبَّك رسول الله بين أصابعه. وروى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وأشار بالسبابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئا.

وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خَطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطَّاً مربعاً، وخطَّ خطَّاً في الوسط خارجاً منه، وخَطَّ خُطَطَاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: هذا الإنسان، وهذا أجلُه محيطٌ به، وهذا الذي هو خارج - أي عن الخط - أملُه، وهذه الخطط الصغار؛ الأعراض - أي ما يَعرِضُ للإنسان من الحوادث والنوائب المفاجئة - فإن أخطأه هذا نَهَشَه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا. وفي رواية: وإن أخطأه كلُّها أصابه الهَرَم. فبيَّن لهم صلى الله عليه وسلم بما رسمه أمامهم على الأرض كيف يحال بين الإنسان وآماله الواسعة بالأجل المباغت أو العلل والأمراض المقعدة أو الهرم المفني.

وتارة كان صلى الله عليه وسلم يسلك في تعليمه إلى الجمع بين القول والإشارة إلى ما ينهى عنه، ليكون ذلك أزجر للنفوس وأقطع في الدلالة على التحريم والمنع، روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حريراً بشماله، وذهباً بيمينه، ثم رفع بهما يديه فقال: إن هذين حرامٌ على ذكور أمتي، حِلٌّ لإناثهم.

وتارة كان يَعدِل عن القول والإشارة والرسم إلى البيان العملي فيكون في ذلك أفضل تعليم وأكمل توضيح، روى البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم توضأ أمام جمع من الناس ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يُـحَدِّث فيهما نفسه بشيء من الدنيا، غَفرَ الله له ما تقدم من ذنبه. وروى البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه شهد الرسول صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فاستقبل القبلة وكَبَّرَ، وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه ثم رجع القَهقَرى، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر ثم قرأ، ثم ركع ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتـَمُّوا بي ولتَعلَّمُوا صلاتي.

وكثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يُعلَّم أصحابه بطريق القصص والوقائع التي يحدثهم بها عن الأقوام الماضين، فيكون لها في نفوس سامعيها أطيب الأثر وأفضل التوجيه، وتحظى من مستمعيها بأوفى النشاط والانتباه، ومن ذلك حديثه في الحض على الرحمة بالحيوان والإحسان إليه والتحذير من الإساءة إليه وأذيته، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا رجل يمشي بطريقٍ اشتدَّ عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبُ من العطش مِثلَ الذي كان بلغ مني. فنزل البئر فملأ خُفَّهِ ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رَقِيَ فسقى الكلب، فشكر اللهُ له فغَفَر له. قالوا: يا رسول الله، وإنَّ لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: في كل ذات كبدٍ رطبة أجر. يعني في الإحسان إلى كل ذي روح أجر. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عُذِّبَتْ امرأةٌ في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض. أي من حيواناتها الصغيرة.

وكان صلى الله عليه وسلم يقايس الأحكام ويعللها لأصحابه إذا اشتبهت عليهم مسالكها، وغَمُض عليهم حكمها، فيتضح لهم ما اشتبه أمره وخفي فهمه، روى مسلم عن أبي ذر الغِفاري أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ذهب أهل الدُثور بالأجور – أي ذهب أهل الغِنى بالثواب - يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: أوَ ليسَ قد جعل الله لكم ما تَصَدَّقُون؟ إنَّ بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وِزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً. وروى البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه أن امرأة من قبيلة خَثْعَم جاءت إليه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبي أدرَكَتْهُ فريضةُ الله في الحج وهو شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع أن يستوي على ظهر البعير، أفأحُجُّ عنه؟ فقال لها: نعم، فإنه لو كان على أبيك دَيْنٌ، أفكُنتِ قاضية له؟ قالت: بلى يا رسول الله. فقال لها: فدَيْنُ الله أحق أن يقضى! حُجِّي عنه.

وكان صلى الله عليه وسلم قد خصَّ النساء بيوم يعلمهن فيه، وذهب إليهن وعلمهن ما يتصل بحياتهم كأمهاتٍ وذواتِ أولاد، يعرض لهن الموت والفقد، روى البخاري ومسلم وغيرهما أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه، تُعلِّمُنا مما علمك الله. فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا. فاجتمعن، فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلَّمَهُن مما علمه الله، ثم قال: ما منكن امرأةٌ تُقَدِّمُ بين يديها من ولدها ثلاثة، إلا كان لها حجابا من النار. فقالت امرأة منهن: يا رسول الله أو اثنين؟ فسَكَتَ، فأعادتها مرتين، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واثنين، واثنين، واثنين.

وكان صلى الله عليه وسلم يراعي الخواطر الإنسانية وخوالج النفس البشرية، فكان إذا لاحَ له ظاهرةٌ من تلك الظواهر النفسية أحاطها ببيانه الصريح وراعى جانبَ إنسانيةِ من ظهرت منه، وأغفلَ جانبَ كونِه صلى الله عليه وسلم نبياً معصوماً، روى البخاري ومسلم عن الحسين بن علي أن صفية زوج النبي أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفا فأتته تزوره ليلا، فحدثته ساعة من العشاء ثم قامت تنقلب إلى بيتها، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فقام معها رسول الله حتى إذا بلغ قريباً من باب المسجد عند باب أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، مر بهما رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم وسلَّما عليه أسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رِسْلِكُما، إنها زوجتي صفية بنت حُيَيٍّ. قالا: سبحان الله يا رسول الله! وكَبُرَ عليهما ذلك، فقال: إنَّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يَقْذِفَ في قلوبكما شيئا.

وكان له صلى الله عليه وسلم رقة في أسلوب تعليمه لا تتسامى إليها رقة ولطافة، من ذلك قوله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله لو كان يقوم الليل. فحضَّ عبدَ الله بن عمر على قيام الليل بألطف عبارة وأرق أسلوب، وقَدَّمَ لهذا الحض بمدحٍ وثناءٍ على عبد الله لتنبسط نفسه وتنشط جوارحه، فقال: نِعمَ العبدُ عبد الله لو كان يقوم الليل.

هذه لمحة وجيزة جداً من طريقة رسول الله في التعليم ونشر الدين، نكتفي بها راجين الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من كتاب:" أيها المستمع الكريم" إعداد ومراجعة: محمد زاهد أبو غدة

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين