الرجل الذي قتل مائة نفس

عن أبي سعيدٍ الخدري أنَّ نبيَّ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قَتَلَ تِسْعةً وتسعين نفسًا، فسأَل عن أعلمِ أهلِ الأرضِ فدُلَّ على راهبٍ، فأتاه، فقال: إنه قَتَل تِسعةً وتسعين نفسًا، فهل له منْ توبةٍ؟ فقال: لا. فقتَلهُ فكمَّلَ به مائةً.

ثمَّ سأَل عن أعلم أهلِ الأرضِ، فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فقال: إنه قتل مائةَ نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟ فقالَ: نعم. ومنْ يحول بينه وبين التوبة؟ انطَلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا؛ فإنَّ بها أُناسًا يعبدون الله فاعبدِ الله معهم، ولا ترجعْ إلى أرضكَ؛ فإنَّها أرضُ سوءٍ.

فانطلق حتَّى إذا نصَف الطَّريقَ، أتاهُ الموتُ فاختصمتْ فيه ملائكةُ الرَّحمة وملائكةُ العذابِ.

فقالت ملائكةُ الرَّحمة: جاء تائبًا مُقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنَّه لم يعمل خيرًا قطُّ، فأتاهم ملكٌ في صورة آدميٍ، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضينِ، فإلى أيَّتهما كان أدنى فهو لهُ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أَرَادَ فقبضتهُ ملائكَةُ الرحمة» ([1]).

الشرح:

«فدُلَّ»: بضم الدال مبني للمجهول، يعنى: دلَّه النَّاس على الرَّاهب، وهو المتعبِّد من النصارى.

قال الحافظ ابن حجر: وفيه إشعارٌ بأنَّ ذلك كان بعد رفع عيسى عليه السلام؛ لأنَّ الرَّهبانيَّة إنما ابتدعها أتباعه كما نُصَّ عليه في القرآن. اهـ

«انطلق إلى أرضِ كذا وكذا» في رواية البُخاري: «ائْتِ قرية كذا وكذا».

وجاء في رواية الطبرانيِّ عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «أنَّ اسم القرية الصَّالحة: نُصرة، واسم القرية الأخرى: كفرَة».

ويؤخذ من هذا: أنَّ التَّائب ينبغي له أنْ يهجرَ الأماكنَ التي عصى الله فيها، ويهجر إخوانَ السوءِ الذين صادقوه في المعصية، ويقصد أناسًا صالحين ليقتدي بهم، ويكتسب من أخلاقهم.

«نصَف الطريق»: بفتح الصاد، أي: أتى نصف الطريق.

«فأتاهم مَلك في صورة أدمي، فجعلوه بينهم»: أي جعلوه حكمًا بينهم.

«فقال: قيسوا ما بين الأرضَين»: بفتح الضاد، جاء في رواية البُخاريِّ: «أنَّ الله أوحى إلى القرية التي خرج منها أنْ تباعدي، وأوحى إلى القرية التي قصدها أنْ تقرَّبي، فقاسوا فوجدوه أقربَ إلى القرية التي قصدها بشبر».

رحمةُ الله واسعةٌ تَسَع العَاصين وإن عظُمت معاصيهم ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ﴾، ومغفرته عامةٌ تعم المذنبين، وإنْ كثرت ذنوالعبرة من هذه القصةبهم ﴿الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

فهذا الرجل ارتكب أكبر الكَبائر بعد الكفر وهو القتل، ولم يقتل نفسًا واحدةً أو اثنتين، ولكنَّه قتل تسعً وتسعين وكمَّل مائةً بالرَّاهب الذي أفتاه بعدم قبول توبته استعظامًا لجرمه.

والواقع أنَّ جُرمَه عظيمٌ وذنبه كبيرٌ جسيمٌ، إلَّا أنَّه تابَ إلى الله مخلصًا، ورجعَ إليه صادقًا فقبلَ الله توبته وغفر حوبته، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25]، ومن قبل الله توبتَه أرضى عنه خصَومه وعوَّضهم كما ورد.

" سمير الصالحين"

([1]) رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين