الربيع العربي كشف المستور

 

 

لقد أثبتت حرب غزة الأخيرة أهمية الإنسان الذي يصنع التاريخ، فمن بين الحصار والجوع والموت، ولد الإنسان الفلسطيني الحر الذي تحدى وضحى وأنجز، كما كشفت تلك الحرب عن وهم الاستراتيجية العربية في مجابهة التحدي الصهيوني، فقد ارتكب العرب الخطيئة التاريخية الكبرى حينما اعتبروا إن مجابهة إسرائيل تتطلب بناء مؤسسة عسكرية ضخمة ومتطورة، دون أن يدركوا أن امتلاك الترسانة العسكرية المتطورة لا يُغني عن امتلاك ترسانة بشرية متطورة، فالإنسان أولاً وأخيراً هو من يصنع الحضارة وهو من ينتصر وينهزم.

 

إن الهزائم العربية لم تكن هزائم عسكرية فقط، ولكنها هزائم للإنسان العربي الذي ولد وعاش ومات في عصور من الاستبداد ا الخانق الذي دمَّر إنسانيته وقضى على مقومات إبداعه.

 

ثم جاء الربيع العربي، الذي لم يجد طريقه مفروشاً بالزهور، وإنما جاء انفجاراً مدوياً مُعبِّراً عن توق الشعوب العربية إلى الحرية، فأطلق مكبوتات التاريخ، وكشف المستور عن تصدعات في بنية النظام العربي.على كل المستويات

 

بعض هذه الصدوع يضرب في أعماق الزمن، ويستحضر الوقائع التاريخية الأليمة بكل ضراوة الماضي لينتقم به من الحاضر، وبعضها يقحم المذهبية لتطغى على مقاصد الدين الحنيف، وتجعل المتدينين شيعاً وأحزاباً متناحرة.

 

ومع الأسف فقد تم التعامل مع هذه الصدوع ثقافياً بإنكار وجودها، وسياسياً بكبتها وقمعها باعتبارها كائنات غير شرعية لماض مظلم، كل ذلك في خطاب مُستعل على الواقع وَمُنكرِ لتعقيداته ، وقد طرحت هذه الصدوع وبشدة سؤال الهوية على الساحة العربية، هل الشعوب العربية مجموعات متماسكة من السوريين، والعراقيين، والمصريين،واليمنيين والمغاربة؟ أم هي مجموعات متصدعة من السنة والشيعة والإسماعيلية والنصيرية والأقباط، ومن العرب والكرد والأمازيغ...

 

لم تتنفس هذه الصدوع الهواء، ولم تظهر إلى العلن بشكل مشروع حتى تعبر عن نفسها بحرية، وتتحاور وتتفاعل وتتعايش...

ولم تمتثل لقوله تعالى:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ] {الحجرات:13} .

ولم تطبق قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] {المائدة:8} .

 

ولم تواكب التطور الحضاري المذهل الذي أخذ يعم الكون ويغير البُنى المجتمعية والثقافية والحضارية لمختلف الشعوب.

لو تأملنا في جذور هذه المشكلة لوجدنا أنها مشكلة ثقافية محورها الاعتقاد بأن الأنا خير مطلق، والآخر شر مطلق.

 

إن المستعمر لم يُوجد الخلافات بين المذاهب والفرق والشعوب العربية والإسلامية ولكن سوء إدارتنا لهذه الخلافات هو الذي مكن الأجنبي من استغلالها واستغلالنا، والحل هو في تطور النظام الفكري للمجتمع، وفي ثقافة الناس، ونظرتهم للأمور والقضايا، قبل أن يكون في وضع اقتصادي متطور واقتناء للتقنية الحديثة بمختلف أشكالها.

 

نحن بحاجة إلى ذات فاعلة تأخذ على عاتقها التغيير من داخل المنظومة الإسلامية، بنشر القيم الإسلامية الأصيلة، وترسيخ ثقافة التعايش واحترام الإنسان وإعلاء قيمة النفس البشرية، واستعادة الإسلام من مختطفيه الذين يثأرون لأحقاد التاريخ من أطفال اليوم، ويقطعون رؤوس مخالفيهم قبل أن يرسلوهم إلى النار ويحتفظوا بالجنة لأنفسهم.

 

لا تستكثروا على الشعوب العربية ربيعها الساخن، وغضبها المتفجر على واقعها البائس، إن توق الإنسان للحرية مؤشر صحة يؤكد إنسانية الإنسان، ، وإذا كسب الاستبداد هذه الجولة فأمام الشعوب جولات وجولات، لأن مشكلة الحرية باقية وقمعها لا يحلها، بل يُرَحِّلها إلى مستقبل قد تكون تفجراته أكثر ضرواة.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين