الدين أولًا

          الناس ثلاثة:

v  فئةٌ جَعَلت الهمومَ همًا وَاحدًا: هم الآخرة والمعاد، نحسب منهم الإمام الشنقيطي الذي كان لا يعرف الدينار من الدولار، ولا فئة المائة من الخمسين.. وهؤلاء أهل الله وخاصته !

v  وفئة جمعت بين هَمِّ الدين وهموم الدنيا، ففي قلبها مادتان، والحرب بينهما سجال، فالزعامة تكون للدين حينًا، وللدنيا أحيانًا، وصاحب هذا القلب مؤمنٌ ضعيف، يُخشَى عليه أن يموت وهُموم الدنيا في جولة الزعامة !

v  وفئة جعلت الهموم همًا واحدًا لكنه هم الدنيا، مطلب أحدهم من الدنيا دينار، لا يتكلم إلا في الأسعار والعَمَار والعقار، ما يذكرون الجنة ولا النار، وإليك قصة أحدهم ذكرها النابلسي..

 

جاء أحد الشباب إلى رَجُلٍ، فقال له: أتزوجني ابنتك؟ قال له: أعندك بيت؟ قال: عندي بيت، قال: ائتني بالسندات الرسمية لملكيته، جاءه بالسند، قال له: عندك عمل؟ قال: عندي معمل، قال: ائتني برخصة المعمل، وعليها اسمك، فجاءه بالترخيص الصناعي، وعليها اسم الخاطب، قال له: عندك مركبة؟ قال له: عندي، قال: ائتني بِرُخصتها، فأتاه بها، فوافق، وفي مرحلة الخطوبة كان الشاب عند عَمِّهِ في محله التجاري، فدخل بعض التجار، فقال: هذا صهري، خاطب ابنتي، فتغير لون أحدهم، فانزوى به جانبًا، قال: كيف هذا صهرك؟ هذا ليس مسلمًا ! فنادى عليه: هل ما يقوله هذا صحيح؟ قال له: نعم،

أنتَ سألتني عَنِ البَيتِ وَالمَعملِ وَالمَركَبَةِ، وَلَمْ تَسأَلْنِي أَبدًا عَن دِينِي !

 

دراسة العلوم الشرعية.. والوظيفة:

ثلةٌ وَسوسَ لها الشيطانُ؛ لِتَهْتَزَّ عندها صورة اليقين والإيمان، رغبت عن دراسة العلوم الشرعية، بحجة أنَّ الوظيفةَ بعدها أمرٌ صعب المنال، فَلَزِمَ تركها لكثرة الأعباء، وزيادة العيال !

 

نصيحة أخوية:

عُد بِنَظَرِكَ لما سبق من آياتٍ وأحاديثَ وأخبارٍ، فإنها ستصيب شيطانك في مَقْتَلٍ؛ ذلك أن القانون الرباني لا يكذب، فمن تعلم دينه، وحمل همَّهُ، أتته الدنيا وهي راغمة، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما كذب، بل إنَّ البيت الذي نَزرَعُ فيه حاملًا لِهَمِّ الدين والشريعة مُرشحٌ قويٌ لدخول بوادر الغِنَى، والبركة في الأهل والمال والولد، كما أنه لا تعارض بين دراسة أي علم دنيوي وبين جعل الهموم همًا واحدًا هو هم المعاد، فتنبه !

 

من ادعى رتبة سقط منها:

          إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا سلب منه رؤية أحواله الحسنة، والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية تقصيره، وبقي يجاهد نفسه حتى يجعل همومه همًا واحدًا، أتكلم بهذا لأن ساحة الدعوة تحدثنا بأناسٍ بالغوا في تزكية أنفسهم، وَرَفْعِ أسعارهم، وقد تجد أحدهم يحمل رسالةَ دينه، إلا أنها في ذَيلِ قائمة الهموم، ومن ادعى رتبة سقط منها..

لقـد  كذبـتَ فـي دعـواكْ       بأنـه  حقًــا  مُنــاك

لـو  كنـت مُحِقًـا بــذاك       لمــا آثـرت هــواك

لـو كنـت بِحُبِّـهِ متشاغـلًا       لما شُغلت عنـه بدنيـاك

ولتوكلـت عليـه  وأيقنـت        بأنــه  حقــًا  كفـاك

ولما ركنت للأسباب وحسبت       بها قضاء حاجتك وغنـاك

ستَراها عما قريـب تنقلـب       همًا وغمـًا تزيـد شقـاك

لـو آثـرت مــراده لمـا       أحببت إلا ما اختاره مولاك

ولـو وجدتـه لما  أثقلك همٌّ       ولـو دهـاك مـا دهـاك

ولجعلـت همّـك همًا واحدًا       وكان ديدنـك رضا مولاك

ولا اتخذت غيـره عزًا  لك       ولمـا افتخـرت إلا بـذاك

فاستغــن عنهـم وانطلـق       وحرر أسيرًا ينتظر الفكـاك

 

فهم مغلوط:

ثلةٌ من الشباب ترك الوظيفة، وأبى الزواج، وانسحب من الجامعة، بل إن مفردات الصناعة والزراعة والتجارة والأعمال المهنية عنده من الأمور التي تُذَمُّ على كل حال، وفي كل زمان، وعلى كل لسان؛ ذلك أنها في تعارضٍ حاد مع هم الرسالة الدعوية، فكيف تستوي هذه الدنايا مع الجهاد أو الموت في سبيل الله؟ !

وهذا وربي جناب للصواب؛ إذ إن الله عزَّ وجلّ هو الذي طلب إلينا عمارة الدنيا، واستخلفنا فيها، وهو من أمرنا بالدعوة والجهاد، ليكون الفهم المتوازن الذي يجمع بين الأمرين بلا إهمال لأحدهما هو الذي ينبغي أن يشق طريقه إلى شِغَاف القلوب !

 ألم يكن آدمُ مزارعًا، ونوح نجارًا، وإدريس خياطًا، وإلياس نساجًا، وداود للسلاح صانعًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم تاجرًا، بل رَعَى الغنمَ الأنبياءُ جميعًا؟! ألم يكن أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف تجارًا، وعلي عاملًا، والزبير خياطًا، وعمرو بن العاص جزارًا، وأبو هريرة مزارعًا؟! لكن المراد أن لا يتعلق قلبك مثقال ذرة بِهُموم الدنيا، بل تجعله منصرفًا لهم الآخرة والدين، فيتكفل الله بدنياك بتمامها بعونه تعالى !

 

من فرائد الفوائد

           إذا سرت في حاجةٍ دنيويةٍ فامشِ دون هرولة؛ فإن الله لما ذكر الدنيا قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15]، ولما ذكر ذِكْرَهُ قال: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، أما عند المغفرة والجنة فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]، أما حين ذكر نفسه قال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50]، ومن ارتقى بلغ المرتقى !

 

          أعتذرُ منك أخي القارئ، وَأُعلِنُ عجزي عن تسطيرِ المِنَنِ الإلهية الأخروية لمن جعل الهموم همًا واحدًا، فَحَسبي أَنَّهُ لا أحسن قولًا منهم، وإذا كان مؤمن آل ياسين قد نطق بِكَلِماتٍ لِيَرتقِيَ بعدها شهيدًا يصدح في أسماع قومه {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26، 27] !

 

          فهذا تعبيرُ صاحب كلماتٍ قليلة في حادثةٍ قصيرة، فَكَيفَ بمن استعمله الله آناء الليل وأطراف النهار ساعيًا في أداء رسالة ربه، طوال أيامه وكامل عمره، وإزاء ذلك أكتفي بِسَحائب المِنَنِ الإلهية الدنيوية، وإليك ثلاثةً منها:

 

1- تحمل الله حوائجه :

وفارس هذه السحابة من قرع المجد بابه، فسكب كلماته كأنها من كلام الصحابة، إنه ابن القيم الذي متعنا فقال:

إذا أصبح العبد وأمسي وليس همه إلا الله وحده؛ تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أَهَمَّه، وفرغ قلبه لِمَحبته، ولسانه لِذِكره، وجوارحه لِطَاعتِهِ !

أما إن أصبح وأمسي والدنيا همُّهُ حَمَّلَهُ الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه، فَشُغِلَ قلبُهُ عن محبته بِمَحبةِ الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كمن يعصر أضلاعه في نفع غيره قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] ابن القيم / الفوائد ص (84)!

 

2- وأحياه حياة طيبة:

يكمل ابن القيم غيثه الماتع فراح يتساءل عجبًا بقوله:

وأي حياةٍ أطيب مِن حياةِ مَنِ اجتمعت همومه كلها وصارت واحدة فى مرضاة الله، ولم يَستشعِب قلبه، بل أقبل على الله عزَّ وجلّ فصار ذِكْرُ محبوبه الأعلى، وحبه والشوق إلى لقائه، والأنس بقربه، وعليه تدور همومه وإرادته وتصوره، بل خطرات قلبه، فان سَكَت سَكَتَ بالله، وإن نطق نطق بالله، وإن سمع فَبِه يسمع، وإن أبصر فَبِه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشى، وبه يتحرك، وبه يسكن، وبه يحيى، وبه يموت، وبه يبعث "!. ابن القيم / الجواب الكافي ص (130).

 

3- وأنجاه من المشكلات والهموم:

فإنه لما حمل همَّ دينه، تكفل الله بتحمل همه، ولو لم يكن في الصفقة من سحائب الدنيا إلا هذه لكفت عن كل ما سواها؛ ذلك أن الواقع يقر بأن من جعل الهموم همًا واحدًا، تجده يقضي وقته في عِزِّ الدِّين، ونفع الموحدين، ولا يجد فراغًا ليفكر في هَمِّهِ، أو وقتًا لمناقشة مصيبةٍ أو غمٍّ نزل به !

فإذا التقتْ همومه الدعوية مع الهموم الدنيوية والاجتماعية انتصرت الأولى نصرًا مؤزرًا، وَحَلَّت السعادةُ بداره، فقد وجدت لها عنده مرتعًا، ومن ذاق هذه النعمة عرف ما أقول حقًا، وستذكرون ما أقول لكم !

 

أخرج الحاكم في مستدركه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " مَا سَكَنَ آدَمُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ "! [الحاكم / المستدرك على الصحيحين، رقم الحديث: (3952)، (2/542).]

هذه همة شيطان، لعنه الله في القرآن، مُنِعَ التوفيق وأُكسِبَ الحرمان، أما أنت فَوَلِيُّ الرحمن، منحك الله أرضَا وسماءً، وماءً وأنهارًا، وأناسًا تقيم رسالة الله فيهم ! فمن أشد همة وعزيمة: أأنت أم الشيطان؟!

الشيطان -يا أخي- أخذ عهدًا على نفسه، أَقْسَمَ فيه ليُضِلَّن ذرية آدم إلا المُخْلَصين، ثم إنه شن حصارًا رباعيًا ليغويك، فإنه آتيك من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك؛ لئلا تكون من الشاكرين !

والعجب أنه ما نسي عهده، ولا غفل عن وعده، بل سَجَّلَ نجاحًا باهرًا، ألم تقرأ: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20]، {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62]

أيروق لك بالٌ الآنَ وأنت في حصار؟! أتجد سكينة وراحة وأنت مُعَاقبٌ خارج أرضك الأولى؟! أما زلت تفكر في فَرْجِك وبطنك؟! ألم يعطِك ربُّك جسدًا صالحًا؟ أأبليته في هموم الآخرة أم الدنيا؟!

 

أخي: وصيةٌ ربانيةٌ مُهداةٌ إليك، فيها جائزة تَعرِضُهَا عليك {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66]؛ إشارة إلى أنك إذا عَبَدتَ ربَّك، تَكَفَّلَ لك برزقك، ألا ترى أنه طلب إليك أن تعبده، ثم تشكره، والشكر إنما يكون عقب النعم، والمعنى: أينما كانت العبادة قائمة، والدعوة إلى الله دائمة، أتتك الأرزاق راغمة، فما عليك عَقِبَ سحائب العطايا والمنن إلا أنْ تكون بعدها من الشاكرين! [دروس الدكتور محمد راتب النابلسي]

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين