نتابع في هذه الحلقة تتمة الحوار الممتع مع فضيلة أستاذنا المربي العلامة الأصولي الشيخ محمد أديب الصالح يحدثنا فيها عن ذكرياته في الجمعية الغراء، وشيوخه الذين درس على أيديهم فيها، ونرجو أن يجد القراء الكرام في هذا الحوار النافع المفيد ، وأن يوفقنا لإتمام ذكريات الشيخ الفاضل في دراسته في كلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية وكلية الحقوق في دمشق، أمتع الله المسلمين بحياته ونفعهم بعلمه .
الحلقة الخامسة من الحوار مع فضيلة العلامة الشيخ محمد أديب الصالح
· بعد حديثكم الممتع عن شيوخكم في الكلية الشرعية نرجو أن تحدثونا عن شيوخكم في الجمعية الغراء؟.
انتسبت إلى مدرسة العلوم الشرعية التابعة للجمعية الغراء بعد السنتين اللتين أمضيتهما في الكلية الشرعية، ودرست فيها السنة السادسة، وكل الأساتذة كانوا كراماً وكانوا مشايخ في المعنى الحقيقي، وطابع الدراسة في الجمعية الغراء، يختلف عن الكلية الشرعية.وكان مدير المعهد الشرعي الشيخ أحمد الدقر رحمه الله ـ وأشهد ولا أزكي على الله أحداً ـ أنه كان من خيار العلماء الغيورين على العلم الشرعي، وتحقيق ما كان يهدف إليه والده العلامة المربي الشيخ علي الدقر من تحقيق هذه الرسالة.
والجمعية الغراء في حرصها على وجود المعهد ونشر العلم الشرعي بيسر وأمانة ثمرة من ثمرات جهود الشيخ رحمه الله على هذه السبيل.وأثر ذلك واضح في الكثير من القلوب وفيما كان من التقدم العلمي الشرعي في بلاد الشام قبل وجود كلية الشريعة.
ومن شيوخنا في الجمعية الغرّاء:الفقيه الكبير الشيخ أحمد البصروي الذي قرأنا عليه الفقه الشافعي، والشيخ عبد الكريم الرفاعي الذي درسنا:"اللمع في أصول الفقه" للشيرازي، والشيخ عبد الكريم هو الذي حبَّبنا في علم الأصول كما حبب إلينا مشايخنا من العلماء العاملين، وكان نعم القدوة بتقواه وأخلاقه وسلوكه وتربيته بالقدوة، والشيخ خالد الجباوي، الذي قرأنا عليه النحو، والأستاذ عبد الغني الدقر، وقد درسنا نصوصاً من الكامل للمبرد، وكان الأستاذ الدقر يدرس الكامل مع عز الدين التنوخي.
ومن شيوخنا أيضاً الشيخ عبد الرحمن الطيبي، ودرسنا الحديث، والشيخ نايف العباس، ودرسنا التاريخ والسيرة، وكان مشايخنا ينامون في جامع العداس عدا الشيخ الرفاعي، وكانوا يربوننا بحالهم وسلوكهم، فكنا نراهم يتوضئون للصلاة، ويحرصون على السنن، ويصلون الجماعة مع تلاميذهم، ويأخذون الأجر اليسير، مع الإخلاص والصدق مع الله تعالى، والتفاني في العمل، ووصل الطلاب بالمصادر، والحرص على الجدية في طلب العلم، علماً بأني وأنا أدرس في المعهد الشرعي الثانوية الشرعية، فقد كنت أحضر للثانوية العامة في ثانوية أنشأتها جمعية التمدن الإسلامي مشكورة تدرس أهم مواد الثانوية بعد الظهر، فكنا ننتهي من الدراسة في المعهد يومياً بعد صلاة الظهر، وأسارع إلى الحضور في مدرسة التمدن الإسلامي.
· هل تذكرون بعض الطرائف والمواقف والذكريات مع شيوخكم في المعهد الشرعي للجمعية الغراء؟.
من الطرائف في المعهد الشرعي ولنا مع كل أستاذ طرفة، أن الشيخ نايفاً العباس رحمه الله تعالى، كان يدرسنا السيرة، وكنا نلاحظ فيه الإخلاص، وكنت مع الأخ عمر عودة الخطيب، نقرأ كتباً أخرى، فصار لنا تطلع للإحاطة بالثقافة الإسلامية، فقلنا للشيخ: يا شيخنا، نحن ندرس الوقائع المعروفة، ولكن أين العبر والدروس من هذه الوقائع، أرجو أن تتكرموا ببيانها لنا، فقال: من أين تأتون بهذه الأفكار!.
من إنصاف الشيخ نايف، أنه غيَّر مساره ، فصار عندما يدرس السيرة يتكلم في الدروس والعبر، فصار رأساً في هذا العلم، وكان زاهداً في الدنيا مستعلياً عليها.
ومن شيوخنا: الشيخ أحمد البصروي رحمه الله تعالى، وهو من فقهاء الشافعية الكبار، قرأنا معه السراج الوهاج في شرح المنهاج، وعند حديثه عن موضوع العدالة، تكلم عن الرقص، وقال الشيخ: إذا كان الرقص بتثنٍّ فهو يسقط العدالة، وإذا كان بدون تثن، فلا يسقط العدالة، فلم يترك الطلاب العفاريت المشاغبون هذه الفرصة، وقالوا للشيخ: نريد أن نعرف التثني وعدم التثني، فشتمنا الشيخ، وكنا نُسرُّ لغضبه،لأنه لله عزَّ وجل .
ومن شيوخنا الشيخ عبد الرحمن الطيبي رحمه الله تعالى، وأذكر موقفاً لي معه رحمة الله تعالى بعد تخرجي ، وقد بقيت علاقتنا بشيوخنا طيبة، وكانت أول حركة الشيخ ناصر الألباني في البلد، وكان يطلق عليها اسم الوهابية، ووقعت بعض الحوادث التي كانت ربما جرت إلى دماء ، إذ أن بعض إخواننا السلفيين كانوا يعترضون على الناس بشدة، وبأسلوب خشن .
حكى الشيخ عبد الرحمن الطيبي هذه المواقف التي تؤدي إلى الفتن، فقلت له: أليس لديهم شيء صحيح فيما يدعون إليه؟ فقال: طبعاً هناك أشياء صحيحة. فقلت له: هذا الصحيح الذي لديهم لما لا تقولونه أنتم، فالناس يستمعون منكم، ولا تحدث فتنة لأسلوبكم الحكيم ؟ فقال : مثل ماذا يا شيخ أديب؟ والمشايخ يعرفون صلتي بالشيخ إبراهيم ورضاعي الأول من مدرسته وتفضله علي.
قلت: مثل قضية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان على الشاكلة الإنشادية التي نراها، ويحسب كثير من المسلمين أنها من الأذان، فأنتم قرأتم لنا في الحديث: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي... فبعض الناس يظنون أن الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية جزءٌ من الأذان، فقال: كيف سنعمل مع هؤلاء العوام يا شيخ أديب؟!!
وكأن القضية سياسية، نخشى ترك تأييد الجماهير. كنت أحدثه بأدب، وكنت متأثراً بالوضع في البلد، حتى أن العوام كادوا أن يؤذوا الأستاذ عبد الرحمن الباني. ولم يكتب الله لي أن أنخرط في جهة مقابل جهة، لأن الله أكرمني أن أكون من مدرسة الشيخ إبراهيم رحمه الله تعالى. ولما أجاب الشيخ الطيبي بهذا الجواب: كيف سنعمل مع هؤلاء العوام ؟ قلت له: الله يطيل لنا عمرك، إذا وقع أخ في البئر هل ننزل إلى قعر البئر لنقعد معه أم نأخذ بيده لنستنقذه؟ وجواب الشيخ رحمه الله تعالى وغفر له يدل على مدى تأثير سلطة العوام على كثير من المشايخ.
هذا ولا أنسى من أصحاب الفضل عليَّ مشايخي في المعهد الشرعي بالجمعية الغراء: الفقيه المتمكن شيخ القراءة في دمشق: الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، فقد أفدت منه في القراءة كما أفاد إخواني الكثير الكثير، إذ كان يجمع إلى تمكنه في الفقه والقراءة،التربية و الاستقامة ونورانية السلوك، ولا أنسى تشجيعه المتكرر لي بأن أُعير التخصص بالقراءات ما يستحق من الاهتمام لحسن ظنه في أهليتي لذلك التي منها سلامة القراءة ومخارج الحروف وما إلى ذلك.
وكنت أجمع بين الدراسة للثانوية الشرعية وبين الدراسة للثانوية العامة كما أسلفت، وقد أكرمني الله ـ كما سبقت الإشارة ـ أن أفدت بحمد الله الكثير في ميدان القراءة والتجويد من شيخنا العلامة الغلاييني رحمه الله تعالى.
وبهذه المناسبة حدثت لي طرفة تتعلق بهذا الموضوع، ذلكم أني وإخواني في كلية الشريعة شرفنا بزيارة أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي في منزله ـ وكان قدومه إلى دمشق في آخر زيارة لها ـ ولما حان وقت العشاء ذهبنا إلى المسجد لصلاة الجماعة في المسجد القريب، ويبدو أن الإمام كان معتذراً عن الحضور، فأمرني شيخنا الطنطاوي أكرمه الله أن أوؤم المصلين، وكان ذلك منه بحزم وله ما له عليَّ من سلطان محبّب لنفسي، فامتثلت وصليت، وبعد أن رجعنا إلى داره حفظه الله سألني أحد الضيوف ـ وهو من خيار أصحاب الشيخ البارزين في العلم والأدب ـ فقال باهتمام: هل لي أن أعرف أين كانت دراستك في القراءة القرآنية، وعلى من تلقيت علم التجويد والأداء وما إلى ذلك؟، وحرت في الجواب عن سؤاله، وتهربت خجلاً من الحديث عن نفسي، وحوَّلت الحديث بعض الشيء، فأعاد السؤال بمزيد من الاهتمام، عندها قلت له : لقد أكرمني الله بمشايخ كبار، مثل الشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، والشيخ عبده صمادي’، ولكن التأثير الأول هو لشيخنا العالم الرباني الشيخ إبراهيم الغلاييني حيث كانت قراءته، وأداؤه المؤثر تعمل عملها في الطالب بعد دراسته التجويد النظرية، فالفضل لله أولاً وله ثانياً في حسن الأداء والتجويد الذي أعجبك مني مشكوراً و جزاك الله خيراً على حسن ظنك، وعقّب أستاذنا الطنطاوي تعقيباً جميلاً على علاقة أديب الصالح بشيخه المربي الكبير إبراهيم الغلاييني، رحم الله الجميع وأحسن لنا الختام
* * *
وإلى الحلقة السادسة التي نتابع فيها الحديث عن رحلة الشيخ إلى مصر للدراسة
وجمعه بين الدراسة في كلية الحقوق وكلية أصول الدين في الأزهر
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول