(2) منهج التكفير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
لعل أخطر ما يُتهم به تنظيم (الدولة): التوسع في التكفير مخالفين بذلك منهج أهل السنة والجماعة، ليشمل فئات كثيرة من الشعوب الإسلامية، وما ينبني على ذلك من مسائل عقدية وفقهية عديدة.
وهنا لا بد من تنبيه القارئ الكريم:
أنَّ حكم التكفير الذي سنعرض له هو حكم بالردة؛ لأن الأصل في هؤلاء الذين سنتكلم عنهم هو الإسلام، وحكم المرتد أشد من حكم الكافر الأصلي، ويختلف عنه في العديد من المسائل، كما هو معروف في الفقه الإسلامي!
والمقصود هنا عرض مقتطفات من منهجهم في التكفير، مع مناقشة مختصرة؛ للوقوف على مدى خطورة هذه المنهجية، وترك التوسع في النقاش حاليًا فذلك له مواضع أخرى، من كتب ومؤلفات مطولة.
* * *
فهل للقوم منهج خاص في التكفير مخالفٌ لمنهج أهل السنة والجماعة، أم هو محض اتهام وافتراء عليهم؟
يقول أبو عمر البغدادي في بيان عقيدة (الدولة) في كلمته بعنوان: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي) 23 صفر 1428 هـ – 13/3/2007 م:
"وقد رمانا الناس بأكاذيب كثيرة لا أصل لها في عقيدتنا، فادَّعوا أننا نكفر عوام المسلمين ونستحل دماءهم وأموالهم" انتهى.
وقال فيها أيضًا:
"رابعاً: ولا نُكفِّر امرأ مسلماً صلى إلى قبلتنا بالذنوب، كالزنا وشرب الخمر والسرقة ما لم يستحلها، وقولنا في الإيمان وسط بين الخوارج الغالين، وبين أهل الإرجاء المفرِّطين، ومن نطق بالشهادتين وأظهر لنا الإسلام ولم يتلبس بناقض من نواقض الإسلام: عاملناه معاملة المسلمين، ونَكِلُ سريرته إلى الله تعالى، وأنَّ الكفر كفران: أكبر وأصغر، وأنَّ حكمه يقع على مقترفه اعتقاداً أو قولاً أو فعلاً، لكنَّ تكفير الواحد المُعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوفٌ على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه" انتهى.
وقال فيها أيضًا:
" التحاكم إلى الطاغوت من القوانين الوضعية والفصول العشائرية ونحوها من نواقض الإسلام..".
وقال: "ونؤمن أن العلمانية على اختلاف راياتها وتنوع مذاهبها كالقومية والوطنية والشيوعية والبعثية هي كفر بواح، مناقض للإسلام مخرج من الملة" انتهى.
وفي الرد على من يرمي (الدولة) بتكفير عموم المسلمين يقول المتحدث باسمها أبو محمد العدناني في كلمة (لك الله أيتها الدولة المظلومة) بتاريخ سبتمبر 2013م:
"ثانياً :... إنَّ القول بأن الأصل في الناس الكفر: لهو من بدع خوارج العصر، وإن الدولة بريئة من هذا القول، وإن مِن اعتقادها ومنهجها وما تدين الله به: أن عموم أهل السنة في العراق والشام مسلمون، لا نكفّر أحداً منهم إلا مَن ثبتت لدينا ردَّتُه بأدلة شرعية قطعية الدلالة قطعية الثبوت، ومَن وجدناه مِن جنود الدولة يقول بهذه البدعة: علّمناه وبيّنّا له، فإن لم يرجع: عزّرْناه، فإن لم يرتدع: طردناه من صفوفنا وتبرأنا منه، وقد فعلنا هذا مراراً كثيرة مع مهاجرين وأنصار" انتهى.
وفي نفي الأخذ بمنج الخوارج قال أبو حمزة المهاجر في كلمته (تعالوا إلى كلمة سواء) 28/9/2006 م: "لسنا خوارج، ولسنا أهلَ بِدعة، ولا دُعاةً إليها، إنما نحنُ رجال، رأينا الدين والذُّل، يتحدّر كالسيل الجارف، ليهويَ بالأمةِ إلى حضيضِ الجهل، فبنينا من عظامنا وجماجمنا سدّاً يحمي دينكم وعرضكم.." انتهى.
ولقائل أن يقول: أليس هذا منهج أهل السنة؟ وهل من خطأ في هذه القواعد أو خروج عن المنهج السليم؟
فالجواب: نعم، هي قواعد صحيحة في مجملها، مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال أهل العلم.
لكن! هي قواعد مجملة، تحتاج إلى تفصيل وتوضيح، فالخلاف في تفاصيلها وليس في المجمل منها، كما أنَّ الخلاف الأهم في تنزيلها على الواقع والأفراد، ومما ينبغي إعلانه وتوضيحه من (الدولة) في هذا السياق:
1- المقصود بنواقض الإسلام، وخاصة أنها أكثر ما تهتم بتأصيله والحديث عنه، وأكثر ما تُتهم بالتوسع فيه.
2- المقصود بضوابط التكفير وموانعه، والجهة المخوَّلة بتطبيق حكم الكفر والردة، وآلية ذلك؛ فإنَّ التحرز عن التكفير لا معنى له دون بيان هذه الضوابط.
فهل استمر منهج التحرز من التكفير في تفريعات المسائل المختلفة، وفي تنزيلها على الواقع والأفراد؟
سنكتفي في هذا المقال بالتوقف عند أهم هذه المسائل:
** *
المسألة الأولى: إعانة الكفار في حربهم ضد المسلمين:
والمقصود بالكفار هنا الكفار الأصليين من نصارى وغيرهم، ومن الفرق الباطنية كالرافضة والنصيريين.
ففي كلمة لأبي عمر البغدادي بعنوان (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي) يقول:
"ثامناً: نرى كفر وردة من أمدَّ المحتل وأعوانه بأي نوع من أنواع المعونة من لباس أو طعام أو علاج ونحوه، مما يُعينه ويقويه، وأنَّه بهذا الفعل صار هدفاً لنا مستباح الدم" انتهى .
وفي كلمته (أذلة على المؤمنين) 13 ذو الحجة 1428 – 22/12/2007م يحكم فيها على أفراد الصحوات في العراق بالكفر والردة، فيقول: "وإنَّي أخطب فيكم اليوم وأقول: ضحّوا تقبّل الله ضحاياكم بمرتدّي الصحوات فإنهم صاروا للصليب أعواناً، وعلى المجاهدين فرساناً، فهتكوا العرض، وسرقوا المال، وأرادوا أن يقطفوا ثمرة دماء الشهداء..." انتهى.
وليست هذه الردة محصورة بقوات الصحوات، بل تشمل جميع الأجهزة الأمنية التي تعين هؤلاء الكفار بكافة فروعها، قال أبو محمد العدناني المتحدث باسم (الدولة)- في كلمته (الآنَ الآنَ جَاءَ القِتَال) صفر 1433 هـ – 01 / 2012م: "رابعًا: نجدِّد دعوتنا لكل المرتدين والمارقين والمخالفين بالتوبة والرجوع، وخصوصًا الصحوات والشرط..." انتهى.
وقد تكرر ذلك الحكم كثيرًا، وصدرت عشرات التسجيلات والبيانات التي تصف المسلم المُعين للكفار من جيش أو شرطة أو صحوات أو غير ذلك (بالمرتدين)، بل تصف أفرادهم بذلك، فيرد في البيان مثلاً (تصفية المرتد المدعو ....) ويذكر اسمه.
وقد استمر إطلاق الحكم بالرِّدة على كل من كان في صف النظام السوري ضد المجاهدين.
فهل إطلاق لفظ المرتدين على كل من كان في صف الكفار صحيح عمومًا؟ فضلاً عن أن يكون على التعيين؟ وهل يُحكم بالرّدة يكون بمجرد الإعانة؟
عند استعراض الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم نجد أنَّ الحديث عن مسألة إعانة المسلم للكافر لا بد فيها من التفريق بين ثلاثة نقاط:
النقطة الأولى: أنَّ هؤلاء المتعاملين مع الكفار في حربهم ضد المسلمين قد وقعوا في جريمة من أعظم الجرائم وأشنعها بقتالهم للمسلمين تحت راية الكافرين، ويشتد جرمهم إذا كانت الحرب ضد المدنيين والآمنين بما فيها من تعذيب أو انتهاك أعراض ونحوها.
وهم باشتراكهم في هذه الحرب الفاجرة وإعانتهم للعدو قد أصبحوا هدفًا مشروعًا للمجاهدين بالقتل والاستهداف لا فرق بينهم وبين الكفار المحاربين، وهذا الأمر معلوم لكل من له معرفة بالشريعة من باب دفع الصائل المعتدي، وشهرته تغني عن الإطالة في الاستدلال عليه.
النقطة الثانية: من كان من هؤلاء في صف الكفار مواليًا لهم في دينهم، أو كارهًا لظهور الإسلام، فهو بذلك مرتد باتفاق أهل العلم، والنصوص في ذلك كثيرة، وسيأتي بعضها في الفقرة التالية.
النقطة الثالثة: من كان من هؤلاء في صف الكفار معينًا لهم في حربهم، لشبهة، أو شهوة دنيوية ما، فالنصوص الشرعية وكلام أهل السنة على عدم القول بردته وكفره لمجرد هذه الإعانة، ومن ذلك:
- قال الإمام ابن الجوزي في "زاد المسير" في التفريق بين موالاة الكفار لأجل دينهم وبين موالاتهم فيما دون ذلك: "قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فيه قولان:
أحدهما: من يتولهم في الدين فإنه منهم في الكفر، والثاني: من يتولهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر" انتهى.
- قال ابن سعدي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]: "لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم، والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يكون العبد منهم" انتهى.
- كما أنَّ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في تكفير التتار معلوم ظاهر، وهو مع ذلك يقول: " كُلُّ مَنْ قَفَزَ إلَيْهِمْ مِنْ أُمَرَاءَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ، وَفِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، بِقَدْرِ مَا ارْتَدَّ عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ".
وقال: " وَأَيْضًا لَا يُقَاتِلُ مَعَهُمْ غَيْرُ مُكْرَهٍ إلَّا فَاسِقٌ، أَوْ مُبْتَدِعٌ، أَوْ زِنْدِيقٌ"، وقال: " فَإِنَّهُ لَا يَنْضَمُّ إلَيْهِمْ طَوْعًا مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا مُنَافِقٌ، أَوْ زِنْدِيقٌ، أَوْ فَاسِقٌ فَاجِرٌ" انتهى.
فكلام أهل العلم واضح في التفريق بين حالات من كان في صف الكفار، وبين قتالهم وتكفيرهم.
- ومما جاء في كتب الفقه قول السرخسي في شرح السير الكبير: "وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا كَانَ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ يُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَبُهُ. لِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُبَاحَ الْقَتْلِ وَلَكِنَّ سَلَبَهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ. لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِ، وَمَالُ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ كَأَمْوَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ" انتهى.
- ما عليه أهل العلم من أنَّ التجسس على المسلمين لصالح الكفار لا يعد كفرًا، وأقوالهم في هذا كثيرة، ومنها:
قول الإمام الشافعي في "الأم" في إجابة طويلة: "ولَيْسَ الدَّلَالَةُ عَلَى عَوْرَةِ مُسْلِمٍ وَلَا تَأْيِيدُ كَافِرٍ بِأَنْ يُحَذِّرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُرِيدُونَ مِنْهُ غِرَّة لِيُحَذَّرَهَا أَوْ يَتَقَدَّمَ فِي نِكَايَةِ الْمُسْلِمِينَ بِكُفْرٍ بَيِّنٍ، فَقُلْت لِلشَّافِعِيِّ: أَقَلْت هَذَا خَيْرٌ أَمْ قِيَاسًا؟ قَالَ قُلْتُهُ بِمَا لَا يَسَعُ مُسْلِمًا عَلِمَهُ عِنْدِي أَنْ يُخَالِفَهُ بِالسُّنَّةِ الْمَنْصُوصَةِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ .." وذكر حديث حاطب ثم قال: "فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَا وَصَفْنَا لَك طَرْحُ الْحُكْمِ بِاسْتِعْمَالِ الظُّنُونِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَ حَاطِبٌ كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ شَاكًّا فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ فَعَلَهُ لِيَمْنَعَ أَهْلَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَلَّةً لَا رَغْبَةً عَنْ الْإِسْلَامِ .." انتهى.
فلا تلازم بين قتال الصائلين المعتدين، وبين تكفيرهم بمجرد إعانة الكافرين، مع أنَّهم قد يكفرون لأسباب أخرى كالإعراض عن الدين، ونحو ذلك..
كما أنَّ إطلاق لفظ التكفير –عند تحققه- يجب أن يكون تكفيرًا عامًا شاملاً، ولا يكون تكفيرًا فرديًا إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع، وهي مسألة أخرى، فمن القواعد في هذه المسائل: أنَّ الحكم بالكفر في مسألة لا يقتضي الحكم على مرتكبها بالكفر؛ إذ الحكم بالكفر له شروط يجب تحققها، وموانع يجب انتفاؤها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين، وأنَّ تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه...
وهذه الأقوال والأعمال منه [أي الإمام أحمد] ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق ". انتهى من الفتاوى.
وهذا مع أنَّهم كانوا يناقشوهم، ويردون عليهم بالكتب والفتاوى، وتجمعهم المناظرات، مرات عديدة!
ومن أعجب ما استدل به العدناني في كلمته (السلمية دين من؟) على القول بكفر من أعان الكافر، الاستشهاد بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق: (كُلُّ مَنْ قَفَزَ إلَيْهِمْ مِنْ أُمَرَاءَ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ...) ويرى أن هذا دليلاً على تكفيرهم، وهو دليل عليه لا له. فتأمل!
ومع أنَّه وردت أقوال لبعض أهل العلم المعاصرين في إطلاق التكفير لمجرد الإعانة والمناصرة، إلا أنَّ أقوال سلف الأمة على خلاف ذلك، والأدلة الشرعية عليه.
فالحكم بردة من أعان الكافر بإطلاق لمجرَّد الإعانة ليس صحيحًا، فضلاً عن أن يكون متفقًا عليه، فكيف يكون بناء عقيدة جماعة كاملة عليها؟ ومنطلقًا للحكم على الآخرين، والتعامل معهم؟
وأمر أخير في هذه المسألة:
أنَّه ينبغي أن يكون الأمر أكثر تحرزاً –في تكفير من أعان الكفار- في هذا العصر مقارنة بزمن السلف، إذ كان معسكر الكفر –في زمن السلف- واضحاً غير ملتبس؛ فالدولة إسلامية وأعدائها كفار معلومي الكفر، أما الآن فربما التبس الأمر على العديد من العوام بسبب فتاوى ومواقف علماء السلاطين ممن يعطون الحاكم الحالي (كبشار) صفة الاسلام والايمان بل ما هو أكثر من ذلك، إذ يفتون بأن عمل هؤلاء الجنود من باب الجهاد في سبيل الله، كالبوطي وغيره. وهذا مما لا شك فيه يلتبس على العديد من عوام المسلمين الذين يقفون جنداً لهذا الطاغية. ويبقى دفع شر هؤلاء وقتالهم بل وقتلهم من باب دفع الصائل لا خلاف فيه.
* * *
المسألة الثانية: الحكم على البلاد الإسلامية، ومؤسساتها:
من الثابت المستقر في الإسلام:
- وجوب التحاكم إلى شريعة رب العالمين، كقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ} [الأنعام: 5]، وقوله: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} [النساء/65]، وغيرها من النصوص الكثيرة، وهذا ما قرره أهل العلم قديمًا وحديثًا.
- وأن تغيير شرع الله واستبداله بأنظمة وضعية تعطي البشر حق التشريع من دون الله كفر وخروج عن الدين.
فلننظر ماذا قرَّر قادة تنظيم (الدولة) في هذه المسألة.
أولاً: في الحكم على البلاد الإسلامية:
يقول أبو عمر البغدادي في كلمة (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي):
"عاشراً: ونعتقد بأن الديار إذا علتها شرائع الكفر، وكانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي ديار كفر، ولا يلزم هذا أن نكفر ساكني الديار، وبما أن الأحكام التي تعلو جميع ديار الإسلام اليوم هي أحكام الطاغوت وشريعته، فإننا نرى كفر وردة جميع حكام تلك الدول وجيوشها، وقتالهم أوجب من قتال المحتل الصليبي، لذا وجب التنبيه أننا سنقاتل أي قوات غازية لدولة الإسلام في العراق، وإن تسمت بأسماء عربية أو إسلامية" انتهى.
إذًا نحن هنا أمام:
- تكفير الأنظمة التي تحكم الدول الإسلامية، وليس حديثنا عنها في هذا المقام.
- الحكم على الدول الإسلامية بأنها ديار كفر وردة، بل على كل الأرض من باب أولى! فهل هناك مناطق تعتبر الآن بلاد إسلام؟ وما هي؟
ثم ما معنى الحكم على البلاد أنها دار كفر وردة؟
يترتب على ذلك مسائل في غاية الخطورة، ومما بحثه الفقهاء في هذه المسألة: أحكام الجهاد، والأمان، والمهادنة، والجزية، والذمة، وإقامة الحدود والعقوبات، وبعض أحكام النكاح، وغير ذلك.
ولعل قوله عن الجيوش في البلاد الإسلامية: "وقتالهم أوجب من قتال المحتل الصليبي" هي إحدى نتائج هذا الحكم!
فهل بلاد المسلمين الآن هي بلاد كفر وردة؟ لننظر في كلام بعض أهل العلم.
بداية لا بد من التفريق بين مسألتين:
الأولى: أساس التفريق بين بلاد الإسلام وبلاد الكفر:
قال السرخسي في المبسوط: "عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- إنَّمَا تَصِيرُ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ التُّرْكِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ، وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: إذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فَالْقُوَّةُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلْمُشْرِكِينَ فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالْقُوَّةُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ" انتهى.
وقال الإمام مالك عن مكة أيام المشركين: " وَكَانَتْ الدَّارُ يَوْمئِذٍ دَارَ الْحَرْبِ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْجَاهِلِيَّةِ كانَتْ ظَاهِرَةً يَوْمئِذٍ" انتهى.
وقال الحجاوي في الإقناع: "وَتَجِبُ [أي الهجرة] عَلَى مَنْ يَعْجِزُ عَنْ إظْهَارِ دِينِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَهِيَ مَا يَغْلِبُ فِيهَا حُكْمُ الْكُفْرِ" انتهى.
وقال ابن حزم الظاهري في المحلى: "مَنْ سَكَنَ فِي بَلَدٍ تَظْهَرُ فِيهِ بَعْضُ الْأَهْوَاءِ الْمُخْرِجَةِ إلَى الْكُفْرِ، فَهُوَ لَيْسَ بِكَافِرٍ، لِأَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ هُنَالِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، مِنْ التَّوْحِيدِ، وَالْإِقْرَارِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ... لِأَنَّ الدَّارَ إنَّمَا تُنْسَبُ لِلْغَالِبِ عَلَيْهَا، وَالْحَاكِمُ فِيهَا، وَالْمَالِكُ لَهَا" انتهى.
ويتضح مما سبق: أنَّ دار الإسلام ما تكون غالب أحكام الإسلام وشرائعه ظاهرة فيها من التوحيد، والإقرار برسالة الإسلام، والأذان، والصلاة، والجمع والجماعات، والصوم، والحج، وتعليم الدين، والحجاب: فهي دار إسلام.
قال الإمام ابن القيم: "قَالَ الْجُمْهُورُ: دَارُ الْإِسْلَامِ هِيَ الَّتِي نَزَلَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَجَرَتْ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَمَا لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ دَارَ إِسْلَامٍ" انتهى.
أمَّا البلاد التي غالب أحكامها الظاهرة ليست من أحكام الإسلام فهي بلاد كفر.
الثانية: تحوُّل بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر:
اختلف أهل العلم في تحول بلاد الإسلام إلى بلاد كفر بين مانع من ذلك، إلى من يقول بإمكانية تحولها، على اختلاف بينهم في تحديد مناط هذا التحول: من تعليق ذلك بانقطاع شرائع الإسلام، أو بتمام القهر والغلبة من المشركين، أو بظهور أحكام الكفر فيها على الغلبة والاشتهار، وغير ذلك.
وعلى الرغم من اختلاف أهل العلم في تحول دار الإسلام إلى دار كفر، إلا أن بلاد المسلمين اليوم لا يصح اعتبارها دار كفر على أي مذهب منهم، وذلك لما يلي:
1- لأنَّه ليس فيها استيلاء المشركين وتغلبهم على بلدٍ إسلامي، بل هو قيام فريقٍ من أهل تلك البلدان بتحكيم القوانين الوضعية وتبديل الأحكام الشريعة من قبل أهلها.
بل إنَّ الكفار لو استولوا على بلاد المسلمين وحكموها وبقيت شعائر الإسلام فيها ظاهرة فهي بلاد إسلام، قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: "لِأَنَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ لَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ بِأَخْذِ الْكُفَّارِ لَهَا بِالْقَهْرِ مَا دَامَتْ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ قَائِمَةً فِيهَا" انتهى.
2- أنَّ بلاد الإسلام كما هو مشاهد ومعروف تظهر فيها أحكام الإسلام وشعائره، وتغلب عليها.
إلا إن كان هناك إنكار لظهور هذه الشعائر، أو قول بعدم أهميتها، أو عدم التفريق بين بلاد المسلمين وبلاد الكفار!
بل حتى على مستوى القوانين الوضعية لا يوجد تبديل كامل لأحكام الشرع في بلاد المسلمين، بل تظهر العديد من الأحكام الشرعية سواء في أحكام الأسرة، أو أحكام المعاملات، ونحو ذلك، وإن كانت بعض هذه الشعائر في ضعف أو محاربة من تلك الأنظمة، وتفاوت من بلد لآخر.
ولو كانت القوانين الوضعية هي الغالبة أو عليها كامل الدساتير: لما صح اعتبار هذه الدول ديار كفر لما سبق.
ثم إنَّه من الملاحظ أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية أوجد نوعًا ثالثًا في الحكم على البلاد التي غلب عليها الكفار –وإن اختلف معه العديد من العلماء في ذلك- فقال في الحكم على "ماردين" التي غلب عليها التتار –وهو من حكم بكفرهم وردتهم وردة تشريعاتهم-: "... ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق؛ بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم. وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة: فيها المعنيان؛ ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام؛ لكون جندها مسلمين؛ ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار؛ بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه" انتهى من الفتاوى.
ويظهر في هذا النقل الهام: عدم الحكم على البلدة التي تسلط عليها الكفار وحكموها بغير شريعة الإسلام بأنَّها دار كفر.
إضافةً إلى أنّ المسلمين اليوم هم الغالبون على بلادهم، ومسيطرون عليها، ومالكون لها، وغير مستكينين أو مستسلمين لهذا التبديل والانحراف، بل هم في جهادٍ ومدافعةً لهذه الأنظمة، وكل قارئ للتاريخ يدرك ذلك.
ويتَّضح من هذا العرض –المختصر- أنَّ الحديث عن الحكم على بلاد الإسلام في هذا الوقت يتعلق بمسألة تحول بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر، لا أصل الحديث عن حكم البلاد! فتنبَّه!
وعلى فرض أنَّ الدار يحكم عليها بالكفر لظهور القوانين الوضعية وغلبتها: فإنَّ هذا الحكم يكون لمن اختار القوانين الوضعية ورضي بها بديلاً عن أحكام الإسلام، لا من أُكره على ذلك؛ فالإكراه مانع من أعظم موانع الحكم بالكفر!
فالحكم على البلاد الإسلامية أنها دار كفر خطأ كبير، ينبني عليه مسائل خطيرة.
أما قول البغدادي: "ولا يلزم هذا أن نكفر ساكني الديار" فإنَّ هذا مرتبط بإقامة الحجة، وانتفاء الموانع، وهي مسألة غير واضحة الملامح ولا التطبيق عند تنظيم (الدولة)، بل ظهر ما يشير إلى عكس ذلك في تكفير أعيان من كان في صف الكفار.
* * *
ثانيًا: في الحكم الجيوش والمؤسسات العسكرية في البلاد الإسلامية:
يقول أبو محمد العدناني في كلمته (السلمية دين من؟) 2013/8/31:
"ثالثاً: لابد لنا أن نصدع بحقيقة مرة لطالما كتمها العلماء واكتفى بالتلميح لها الفقهاء ألا وهي: كفر الجيوش الحامية لأنظمة الطواغيت, وفي مقدمتها الجيش المصري, والجيش الليبي, والجيش التونسي, قبل الثورة وبعدها وهذا الجيش السوري قد بات كفره واضحاً حتى عند العجائز قال الله تعالى: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين}, لابد لنا أن نصرح بهذه الحقيقة المرة ونسطع بها, {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة} إنَّ جيوش الطواغيت من حكام ديار المسلمين هي بعمومها جيوش ردة وكفر، وإنَّ القول اليوم بكفر هذه الجيوش وردتها وخروجها من الدين، بل ووجوب قتالها وفي مقدمتها الجيش المصري لهو القول الذي لا يصح في دين الله خلافه وهو الذي تشهد له الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وكلام العلماء الأفذاذ الفحول المعتبرين, وليس هو قطعاً من أقوال أهل الغلو والتكفير بغير وجه حق...
فهذا هو الجيش المصري الذي هو جزء من هذه الجيوش ونسخة عنها يسعى سعياً مستميتاً لمنع تحكيم شرع الله تبارك وتعالى, ويعمل جاهداً لإرساء مبادئ العلمانية والحكم بالقوانين الوضعية...
إن الجيش المصري الذي هو نسخة عن تلك الجيوش جيش يحمي البنوك الربوية, ودور الخنا, والعهر, وحامي حمى اليهود, والأقباط والنصارى, المحاربين لله ورسوله, جيش يؤمر بترك الصلاة فيتركها, جيش صائل انتهك الأعراض وحرق المساجد والمصاحف وأجهز على الجرحى وحرق جثث القتلى... فهل يقول عاقل أن هذا الجيش لا تجوز محاربته وقتاله؟؟ حتى وإن كان يراه مسلماً..." انتهى.
ولنا أن نتساءل بعد هذا الكلام:
هل هذا الحكم لكل فردٍ من أفراد هذه الأجهزة بعينه؟ كما سبق في الحكم على (الصحوات) ومن أعان الكفار؟
وهل هذا الحكم بالردة خاص بالجيوش فقط، أم إنَّه يشمل جميع الأجهزة العسكرية والأمنية من استخبارات، وأمن عسكري وسياسي، وحرس حدود، وجوازات، وشرطة؟ لأنها تابعة لهذه (الأنظمة المرتدة) وتعمل بقوانينها؟
وهل هذا الحكم يشمل جميع الجيوش والأجهزة الأمنية في بلدان العالم الإسلامي من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؟
ثم: ألا يكفي الحكم بالكفر على تلك الجيوش، بل يجب قتالها، وقتالها أولى من قتال الصليبيين!
إذا أردنا بحث المسألة بشكل صحيح فلا بد من التفريق بين عدة أمور:
الأولى: أنَّ لهذه الجيوش بعمومها دورًا في حماية الأنظمة المستبدة، وهذا أمر معلوم لكل قارئ للتاريخ المعاصر، وعارف بطبيعة هذه الجيوش من داخلها.
الثانية: أنَّ هناك عددًا كبيرًا من أفراد هذه الجيوش يقصدون بانضمامهم لها حماية البلاد، أو تحقيق مكانة اجتماعية ما، لا تعمُّد نصرة الأنظمة المستبدة، فضلاً عن نصرة الكفر أو قمع المسلمين، ولا يقبلون به، بل وحالها مختلف بين البلدان الإسلامية.
الثالثة: الحكم بردَّة هذه الجيوش لأنها تحمي الطواغيت، وتسعى حثيثًا لمنع تطبيق الشريعة: غير مستقيم! فهو تكفير بلازم قبولهم بالطاغوت أو نصرتهم له، وليس بصريح القول أو العمل الكفري من هذه الجيوش.
نعم قد يكون هذا المعنى والمقصد موجودًا عند بعض الأفراد أو القيادات، لكنه قطعًا ليس عند الجميع، ومن يزعم ذلك فعليه الدليل، ولا يمكنه إلا بالاستفسار من كل شخص على حدة، وهكذا يكون الحكم بتكفير المعين!
إذ هناك خلط كبير بين مسألتي: الخضوع للطاغوت والرضا به، وبين الدخول تحت حكمه.
فلا يُشترط في الدخول تحت حكم الطاغوت موافقته على مخالفته للشرع، وإن التزم بها، كما أنَّه لا يعني خضوعًا له ولا رضى به.
والخلط بينهما إلزام بما لا يلزم!
أما الأجهزة الأمنية الأخرى:
فهناك أجهزة يغلب على عملها خدمة الناس وتسيير أمور حياتهم، كالشرطة، والجوازات، بل وحتى أجهزة الضبط والتفتيش والتحقيق، وهي وإن كانت خاضعة لأنظمة الدولة العامة إلا أنه لا يوجد في غالب أنظمتها وأعمالها ما يدعو إلى تكفيرها، ولا يعني خضوعها للدولة وأنظمتها رضاها أو موافقتها على ما فيها من مخالفات وتبديل للشرع.
الرابعة: أما ابتداء قتال هذه الجيوش سواء قيل بردتها أو بغيها: فهي تدخل في شروط حمل السلاح على الحاكم المرتد أو الباغي التي ذكرها أهل العلم، ومن أهمها: القدرة والاستطاعة، مع مراعاة باب المصالح والمآلات في التطبيق والتنزيل، ولا يُقال بهذا القول إلا من أهل العلم بعد البحث والتحري، إلا إن كان الإخوة في تنظيم (الدولة) لا يعتبرون بقول أهل العلم في بلدان العالم الإسلامي!
الخامسة: أما إن صالت هذه الجيوش على المسلمين وبغت، فإنَّ قتالها ودفع شرها يكون من الجهاد في سبيل الله تعالى؛ دفعًا لصيالها واعتدائها، وهو ما قال به أهل العلم في قتال جيوش أنظمة أفغانستان والعراق وسوريا.
فليس هناك تهاون أو قبول بالظلم والطاغوت، لكن الأمور تقدَّر بقدرها.
كما أنَّ منع الحكم بردة هذه الجيوش أو منع قتالها لا يعني أن نمنعَ النصيحة، أو بيان الخطأ والخلل، المنكر بجميع انواع الانكار بحسب الاستطاعة.
ونقطة هامة:
إذا كانت الجيوش العربية كافرة مرتدة لخضوعها للأنظمة المرتدة وقبولها بأحكامها، ودفاعها عنها، فهل يعني هذا تكفير بقية أجهزة الدول ومؤسساتها؟ كالمؤسسات التعليمية، والاجتماعية، وغيرها؟ لأنَّها خاضعةٌ لأنظمة الكفر وراضية بها؟ ولأنَّها تمد يد العون لهذه الأنظمة وتقويها، فلا تقوم الدول إلا بها؟ وخاصة أنها في (ديار كفر وردَّة)؟
* * *
هل الجيوش في البلدان الإسلامية طائفة ممتنعة؟
ذكر العدناني في كلمته (السلمية دين من؟) أنَّ من أدلة تكفير الجيوش في البلدان الإسلامية وتبرير وجوب قتالها أنَّها (طائفة ممتنعة)، واستدل على ذلك بأقوال عديدة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية كقوله: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة".
ومعلوم أنَّ الطائفة الممتنعة هي: جماعة ذات شوكة تترك فعل شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة ولا يُقدر على إلزامها إلا بالقتال.
وتطلق على جماعات تكون داخل الدولة المسلمة، كبعض فرق الزنادقة والباطنية، أو خارج الدولة كما كان من التتار الذين غزوا بلاد المسلمين، ويكون أساس اجتماعها واتفاقها على ترك أمر من أمور الدين، أو ارتكاب المحرمات.
لكن قياس الجيش والأجهزة الأمنية على الطائفة الممتنعة لا يستقيم؛ فالجيش ليس طائفة! وهو لم يجتمع على الامتناع عن الشريعة، ولم يؤسس على ذلك، بل هو مؤسسة من مؤسسات وأجهزة الدولة التي تتبع لها، ولها عمل محدد فيها، وهي جزء منها.
وفي حال ثبوت أنَّ هذه المؤسسة لا تحكم بالشرع، أو تمنع منه: فيكون هذا حكمًا عامًا للدولة بالخروج عن الدين، والتعامل معها وفق ما قرره أهل العلم في التعامل مع الحاكم المرتد.
ثم يقال: من الذي يقاتل هذه (الطائفة)؟ ومن الذي يقدِّر مصلحة قتالها؟ إنَّ المشاهد في بلدان العالم الإسلامي منذ عشرات السنين فشل جميع تجارب الجماعات التي خرجت لقتال الدول، وما جلبه هذا الاقتتال من مآس ونكبات.
وإذا أكملنا في الإطلاع على بقية أحكام الطائفة الممتنعة سنجد ما يلي: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "فأعوان الطائفة الممتنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم".
فهل أعوان هذه الطائفة (الجيوش) لهم حكمها من ناحية ثبوت الكفر والردة، والقتال؟
ومن هم أعوان المؤسسات العسكرية في البلدان الإسلامية؟ وما معيار التعاون الذي الحكم بالردة، أو القتال؟
فتكفير الجيوش والحكم عليها بالردة والقتال، واعتبارها طائفةً ممتنعة له أبعاده وآثاره الخطيرة عقديًا وعمليًا التي لا تقف عند حد واضح، وهي تنتظر الإفصاح والإيضاح.
* * *
المسألة الثالثة: تكفير من دخل بالعملية السياسية (الديمقراطية):
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين
التعليقات
يرجى تسجيل الدخول