الحق والباطل

هذه خطبة قديمة من خطبي في جامع السلام بحلب، كنت ألقيها ارتجالا وأحضّرها قبل ذلك مما يتاح إلي من مصادر وقد استفدت في إعداد هذه الخطبة من رسالة" الحق والناس " للقرضاوي، ومن رسالة " الحق والباطل" للشيخ أحمد البيانوني، وغيرهما. والشكر للأخ الكريم طارق عبد الحميد على إحياء هذه الآثار القديمة وتجديد نشرها والعناية بتصحيحها

للحق في الإسلام منزلة كبرى، فمن أسماء الله الحق:[ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ] {الحج:6}. والإسلام دين الحق:[تِلْكَ آَيَاتُ اللهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ] {البقرة:252}.

إن الحق كما تهدي إليه الفطرة السليمة هو الأمر الثابت الباقي، والباطل هو الزائل المتغير، فما كان من شأنه الثبات والبقاء هو (حق)، وما كان من صفته التلاشي والفناء فهو (باطل)... وإذا نظرنا إلى الواقع لم نر في الموجودات شيئاً يتصف بالثبات والبقاء لذاته غير الخالق سبحانه... وكل شيء سواه يتبدل، ويتحول، وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان، والقوة والضعف، والازدهار والذبول، والإقبال والإدبار... وهو وحده سبحانه الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول... فالله تعالى وجوده حق، وهو الذي تحق له الألهية، ويستوجب العبادة، وسواه مما أشرك معه باطل، وهذا ما أعلن عنه كتاب الله الحق:[فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ] {يونس:32}.[ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ] {لقمان:30}.

ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فيما يرويه البخاري ومسلم ـ: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلُ... ومن ضل عن هذه الحقيقة اليوم، فسوف يعرفها غداً، يوم ينكشف الغطاء عن بصره، فيرى الحقائق عاريةً مجردةً من الأقنعة الزائفة، والألبسة المموهة:[يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ] {النور:25}.

إن الأمر يكتسب صفة الحق بقدر اتصاله بالحق المطلق سبحانه، وانتسابه إليه.

ويكتسب الأمر صفة الباطل بقدر بعده عن الله وانقطاعه عنه... فما كان أصله من قبل الله فهو حق، وما كان من غير الله فهو باطل... فكل ما شرعه الله لعباده من أحكام تنظم علاقتهم بالله، أو علاقتهم بالكون والحياة، أو علاقتهم ببعض أفراداً وأسراً، وجماعات، فهو حق، يجب الاحتكام إليه والإذعان إليه... كما قال تعالى:[إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا] {النساء:105}.[وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ] {المائدة:48}. 

هذا وإن كل ما أخبر الله به من عوالم الغيب، وحقائق الآخرة حق، يجب التصديق به، والتسليم إليه:[ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ] {يونس:55} . [وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا] {الكهف:98}.

روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد، أنت قيّم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت نور السموات و الأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق..

إن الله سبحانه بحكمته ورحمته لم يدع الإنسان وحده يبحث عن الحق، لأن الحق المطلق لا يمكن معرفتُه بمعزِل عن هداية الله.. لذلك بعث الله الرسل وأنزل الكتب... لهداية الإنسان إلى سبيل الحق... يقول سبحانه:[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا...] {البقرة:213}.  فالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام: دعاة الحق، ولا ينطقون إلا بالحق.. فهذا موسى عليه السلام يواجه فرعون ليقرر له حقيقة أمره: بوصفه رسولاً من رب العالمين، ملزماً بقول الحق [وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ(104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ (105) ]. {الأعراف}..

ويقول سبحانه على لسان عيسى عليه السلام في خطاب ربه: [ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ] {المائدة:116}.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كلَ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب فأمسكتُ عن الكتاب. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق).

والمرجع المضمون والمصدر الفذ لمعرفة الحق، والاهتداء به هو القرآن الكري إنه:[الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ] {هود:1}.إنه الكتاب الذي سلم من التحريف والتبديل والنسيان لا يستطيع أحدٌ أن يغير منه آيةً أو يعدل منه كلمة أو حرفاً:﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ*لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت:41- 42].

لقد أنزل الله هذا القرآن بالحق، ليقر الحق في الأرض:[وَبِالحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] {الإسراء:105}.فالحق مادته وغايته، والحق سداه ولحمته، ومن الحق قوامه، وبالحق اهتمامه...

لقد أبصر الحق الناصع في هذا الكتاب: أولو العلم الإنصاف من أهل الكتاب كما قال سبحانه:[ وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ] {الأنعام:114}. ويقول الله تعالى مثنياً على النجاشي وأصحابه، حين عَرَفوا الحق وآمنوا به:[وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] {المائدة:83}.بل شهد بحقيَّة هذا القرآن الجنُ الذين استمعوا إليه فقالوا [يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ(30) ]. {الأحقاف}..

إن الله سبحانه قد هيأ لنا سبل الهداية للحق، ولكن أكثر الناس قد أعرضوا عنه، وضلوا ضلالاً بعيداً... ولقد أكد القرآن هذه الحقيقة:[لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ] {الزُّخرف:78}.

إن أكثر الناس يكرهون الحق لأنهم يتذوقون مرارة دوائه، ولا يفكرون في حلاوة شفائه... ويحبون الباطل لأنهم يستلذون بطعمه، ولا يبالون بسُّمه... والذين يحاربون الحق لا يجهلون أنه الحق.

ولكنهم يكرهونه لأنه يصادم أهواءهم، ويقف في طريق شهواتِهم، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم... وفي هذا يذكر القرآن الكريم عن مشركو قريش منكراً موقفهم من دعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم [أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ(68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ(69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(70)]. {المؤمنون}..

لقد بيَّن القرآن العلةَ الأولى في إعراضهم عن الدعوة، وما هي إلا أنه جاءهم بالحق الذي يكرهون الحق الذي يسفه أحلامهم ويعيب آلهتهم، الحق الذي يحرم عليهم الشهوات الباغية وهم فيها غارقون فلا عجب أن ينكروا هذا الحق لأول وهلة قبل أن يمحصوا ويتفكروا كما قال تعالى:[وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ] {الأحقاف:7}..

إنها صورة المكابرة بالباطل ومقاومة الحق... تتكرر في جميع العصور. يقول سبحانه في فرعون وملئه:[فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ] {يونس:76}. إنها جملة واحدة يتعارف عليها المكذبون فهكذا قال مشركوا قريش.. على تباعد الزمان والمكان، وعلى بُعد ما بين معجزات موسى ومعجزة القرآن. [قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ] {يونس:77}.

إن طريق الحق مفروش بالأشواك: محفوف بالمكاره، مليء بالمعوِّقات...

والتواصي بالصبر والحق ضرورة فالنهوض بالحق عسير، والمعوقات عنه كثيرة، هوى النفس ومنظور المصلحة، وطغيان الطغاة، وظلم الظلمة، وجور الجائرين... فلابد من التواصي بالحق... ومن هنا وصف الله عزَّ وجل المؤمنين الناجين من الخسران بقوله [وَالعَصْرِ(1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ]. {العصر}..

لابدَّ لنا من للوصول إلى الحق أن نطلبه من الله الحق...

فإذا كان الحق هو معرفة حقائق الأشياء، وأسرارِ الوجود، وغايات الحياة، فبدَهي أن نطلبها من خالق الأشياء، ومدبر الوجود، وواهب الحياة.

وإذا كان الحق هو دستور العدالة الذي يوزع الحقوق والواجبات بالقسطاس، فليس مصدر هذا الحق إلا رب الناس، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.

وإذا كان الحق هو قانون الفضيلة التي تحكم الدوافع، وتضبط السلوك، وتسمو بالنفس وتهذب الفطرة فالحق في هذا يعرف من خالق النفس، وفاطر الفطرة، العالم بما يزكيها وما يدسيها:[أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] {الملك:14}.

هذا القرآن حق لأنه صادر من جهة الألوهية وهي الجهة التي تملك حق تنزيل التشريع، وفرض القوانين... وهو حق لأنه خالد باقٍ لا يزول ولا يتبدل.. وهو حق في محتوياته، وفي كل ما يبينه من شؤون العقيدة والشريعة، وفي كل ما يقصه من خبر وما يحمله من توجيه... وهو حق، لأنه يهدي إلى الحق المطلق، البريء من قصور العقل الإنساني، وانحراف الهوى البشري...

هو يهدي إلى الحق لأنه يهدي إلى الله وإلى صراط مستقيم... وهو يهدي إلى الحق لأنه يهدي إلى الحقائق الثابتة التي تحل ألغازَ الوجود: وتبين للإنسان مبدأه ومصيره...

وهو يهدي إلى الحق لأنه يهدي إلى أفضل الغايات وأقوم السبل، وهو يهدي إلى الحق، لأنه يهدي إلى القيم الخالدة، والفضائل الأصيلة التي تستقر بها الحياة، ويستقيم بها ميزان الخلق والسلوك.

هناك أمور عملية تتعلق بحياة البشر قد يهتدي الإنسانُ فيها إلى الحق بالمحاولة والتجربة.. ولكنَّ الإنسانية حتى تصل إلى هذه النتيجة من خلال التجارب تكون قد ضحت بأجيال لا حصر لها.

أفليس الأوفق بحكمة العليم الحكيم، ورحمة الرحمن الرحيم، الذي أحاط بكل شيء علماً، والذي يعلم المفسد من المصلح، أن يريح عباده من عناء التجربة في أهم أمور حياتهم. بما ينظم علاقاتهم، ويحفظ عليهم دينهم ودنياهم، ويصون عليهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم وأخلاقهم؟

على أن الإنسان قد يهتدي بالتجربة إلى معرفة الحق في أمرٍ ما، كأن يعرف بالتجربة مثلاً، أضرار التعامل بالربا، أو شرب الخمر، أو لعب الميسر.. ومع ذلك قد لا يجد الإنسانُ الشجاعة الكافية التي تلزمه باتباع الحق في هذه القضايا... فإن الضعف الإنساني كثيراً ما يحولُ بين الإنسان وبين انتفاعه بتجاربه لهذا كان في حاجة إلى سلطةٍ عليا تلزمُه بما يعجز عن إلزام نفسه.

ولهذا فإن التشريع للحياة البشرية تتولاه اليد التي تدير الكون وتنسق أجزاءه... ولو خضع الكون للأهواء المتعارضة والرغبات الطارئة لفسد الكون ولفسد الناس معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس..

وهذا الدين الحق لا يقوم إلا في حراسة جماعة مؤمنة متعاونة متواصية، متكافلة، متضامنه... ولابد من وجود هذه الجماعة التي تستمسك بالحق وتدعو إليه كما يقول سبحانه في سورة الأعراف: [وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] {الأعراف:181}. فهم دعاة إلى الحق. لا يسكتون عن الدعوة به وإليه، ولا ينزوون بالحق الذي يعرفونه ولكنهم يهدون به غيرهم. ويتجاوزون معرفة الحق والهداية به إلى تحقيق هذا الحق في حياة الناس... في تصوراتهم الاعتقادية وفي شعائرهم التعبدية وفي حياتهم الواقعية، وفي أخلاقهم وسلوكهم، ومناهج تفكيرهم وثقافاتهم... وبهذا كله يوجه الحق في حياة الناس.

ولقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابدَّ من بقاء طائفة من أمته على الحق، ينصرونه ويرفعون لواءه مهما تكاثر أهل الباطل، وتظاهروا على محاربة الحق. روى أبو داود والترمذي قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله).

على أن جندي الحق لا يضيره أن يقف في الميدان وحده، يصارع الباطل بعدده وعدته، ويتحدى الباطل بسلطانه وجبروته، فإن عاش عاش بالحق سعيداً، وإن مات مات في سبيله شهيداً.

إن الله سبحانه يداول الأيام بين الناس، تربيةً لأهل الحق، وتمييزاً لهم، وليبتلي الله ما في صدورهم، وليمحص ما في قلوبهم.. ولكن العاقبة دائماً لأهل الحق..

إن الباطل كالرغوة المنتفخة، وكالزبد الرابي على سطح الماء يعلو قليلاً ثم يتلاشى ويختفي ولا يبقى إلا الماءُ الخالص والنبع الأصيل.. وإن الباطل كالخبث الذي يحجب المعدن الأصيل ولكنه يذهب ويبقى المعدنُ في نقاء... وهكذا فالحق في بقاء.. والباطل في زوال... وهذا مثل ضربه القرآن الكريم يصور لنا هذه الحقيقة أبدع تصوير:[أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ] {الرعد:17}.

ويصور القرآن الكريم المعركة بين الحق والباطل فنحس بأن الحق قذيفة الهية تزلزل الباطل وتقضي عليه قضاءً مبرماً:[بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] {الأنبياء:18}.

هذه هي السنة المقررة فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود...والباطل منفي عن خِلقة هذا الكون أصلاً، طارئ لا أصالة فيه ولا سلطان له، يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه، ولا بقاء لشيء يطارده الله، ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه...

ولقد يخيل للناس أحياناً أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة.. وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب، ويبدو فيها الحق منزوياً كأنه مغلوب.. وما هي إلا فترة من الزمان للفتنة والابتلاء...والمؤمنون بالله لا يخالجهم شك في صدق وعده، وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه... إن الباطل قد يظهر حيناً في غفلة الحق، ولكنه لا يدوم طويلاً، ولا يستمر على ظهوره كثيراً... فدولة الباطل ساعة... ودولة الحق إلى قيام الساعة... وإن صولة الحق في ساعات تقضي على انتصار الباطل في سنوات... فلابد أن يأتي اليومُ الذي يزهق فيه الباطل وتزول دولة الضلال أمام عسكر الحق الزاحف المنتصر... الذي يكشف الباطل ويدمغه ويمحوه كما يمحو الصبح سوادَ الظلام... وفي هذا يقول الحق سبحانه:[قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَّامُ الغُيُوبِ] {سبأ:48} .ولنستمع إلى هذا الحوار الذي دار بين الحق والباطل، قال الباطل: أنا أعلا منك رأساً، قال الحق: أنا أثبت منك قدماً.. فقال الباطل: أنا أقوى منك: قال الحق: أنا أبقى منك. قال الباطل: أنا معيِّ الطغاة والظالمون والأقوياء والمترفون... قال الحق: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] {الأنعام:123}. قال الباطل: أستطيع أن أقتلك الآن. قال الحق: ولكن أولادي سيقتلوك ولو بعد حين.

إن الله تعالى أقام الحياتين: الدنيا والآخرة على الحق.

ففي هذه الحياة الدنيا كتب على نفسه أن يحق الحق، ويبطل الباطل..

ومن تأمل التاريخ وجده قصة صراعٍ بين الحق والباطل، تنتهي بانتصار الحق وإن طال الأمد.

وتلك سنة الله في أرضه ولن تجد لسنة الله تبديلاً، وهذه قصة موسى وفرعون مثل واضح لذلك.. فقد انتفش الباطل، وسحر العيون، واسترهب القلوب، وخيلَ إلى الكثيرين أنه غالب! وما هو إلا أن واجه الحق الواثق، حتى انطفئ كشعلة الهشيم، وإذا الحق راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور [فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ(119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120) قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ(121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122) ]. {الأعراف}..

إنها صولة الحق في الضمائر، ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق...

ويوم بدر نصر الله الحق وثبته، وهزم الباطل وأزهقه...وقد بيَّن الله ذلك في سورة الأنفال [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ(5) يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ(6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ(7) لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ(8) ]. {الأنفال}..

وفي فتح مكة دخل النبي صلى الله عليه وسلم ظافراً وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يطعنها بعود في يده فما بقي منها صنم إلا خرَّ لوجهه وهو يقول:[وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] {الإسراء:81}. [قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ] {سبأ:49}.

هذا في الدنيا.. وفي الآخرة يكون العقاب الأشد الأكبر الذي يبدأ منذ فترة الموت... [وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] {الأنعام:93}.

وفي الآخرة يقضي الله تعالى بين عباده بالحق، فيجزي كلَّ نفسٍ بما كسبت، ويكافئها بما عملت [وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70) ]. {الزُّمر}..

هنالك يوقنون أن الحق ينفع من اتبعه في الدنيا وفي الآخرة، أما الباطل فإنه ضارٌ بأهله في الآخرة والأولى:[وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ] {الأحقاف:34}.

فيا أيها الناس! استجيبوا لدعوة الإسلام، فهي دعوة الحق، وكونوا أنصار الحق، ودعاة الخلق إلى الحق.. ويا أيها المسلمون: اثبتوا على الحق، واحملوا لواء الدعوة إليه، واعتزوا به، وانتصروا له، واحتملوا الأذى في سبيله... تشبثوا بالحق، ولا تصرفنَّكم عنه مغريات الدنيا ولا مخاوفها، ولا يستهوينكم الباطل بزخرفه وغروره ومغرياته.. فإذا جاء اليوم الحق: أفلح أهل الحق وخسر هنالك المبطلون. [وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ] {الأحزاب:4}.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرهنا فيه.

 اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم. ونسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

نشرت 2011 وأعيد تنسيقه ونشرها 10/3/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين